فلسفة التشيؤ: لماذا يتغير كل شيء عندما ينظر إلينا الناس؟ -ترجمات

قد تجعلنا نظرة شخص آخر نتصور أجسادنا كشيء

رأى جان بول سارتر أن وجودنا بأكمله يُدفع إلى حالة استعراضٍ عام عندما نكون تحت أنظار الآخرين. نحن نعيش “من أجل” الآخرين عوضا عن العيش لأنفسنا. تبنّى فرانتز فانون هذه الفكرة في الوجودية السوداء. لقد دفعَ بأن السود يتم تحديدهم بشكل مغاير للبيض. طبقت سيمون دي بوفوار نفس الفكرة على حالة الإناث. تُجبر النساء على تعلّم أنه “يجب” النظر إليهن، وهذا يجعلهن شيئًا فريدًا في حد ذاته.

إنه يوم جميل في المتنزه ولا يوجد أحد غيرك. بعد وهلة يحدث نوع من التحول الغريب الذي نمر به جميعًا ، وتبدأ في القفز وغناء أغنية طفولية. الغناء غير متناغم والكلمات نصفها هراء إذ لا تتذكرها كلها، لكنك لا تأبه على الإطلاق. وتعيش لحظات رقص مشبوبة بالمرح النقي. إنها لحظة موجودة بينك وبين عالم لا تكترث له على الإطلاق.

فجأة، تلاحظ أن هناك رجلا جالسًا على المقعد أمامك. يحاول النظر بعيدًا ليجنبك الإحراج، لكنك تعلم علم اليقين أنه رآك. لقد رآك في لحظة جنونك العظيم. تحمر خجلا وتتحول رقصتك إلى طريقة مشي محترمة. تحاول إخفاء أغنيتك في حالة سعال.

أطلق الفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر على هذه اللحظة “النظرة”. إنها مقدمة رائعة لفكرتي “في حد ذاته – en-soi” و”لنفسه – pour-soi”، وهي أفكار يتردد صداها لدى كثيرين وهي مركزية لفلسفة العرق والنسوية أيضًا.

إعلان

أعيش لنفسي

عمل سارتر العظيم الوجود والعدم  عبارة عن مزيج غريب من التحليل الفلسفي المكثف جنبًا إلى جنب مع القصص ذات لغة سلسة. الكتاب عبارة عن كنز من الأفكار، وكثير منها يظهر بشكل كبير في الشروح السوسيولوجية الحديثة. أحد العناصر الأساسية في عمله هو التمييز بين شيء موجود “في حد ذاته” (En-Soi) و”لذاته” (Pour-Soi).

باختصار، En-Soi يشير إلى كل تلك الأشياء الثابتة والسلبية والمحددة. غالبًا ما تكون الأشياء التي نواجهها في العالم، من أدوات المائدة إلى الجربوع. (Pour-Soi) بالمقابل، هي تجربتنا الديناميكية الشخصية. إنها وعينا الموجه إلى الخارج نحو العالم. إنه الـ”أنا” الذي يفعل الأشياء و”يكون”. إنه أنت الآن ، أينما كنت، تنظر للأشياء.

بالنسبة لسارتر ، فإن النظرة (تُترجم أحيانًا باسم التحديق) هي عندما يجبرنا “الآخر” على رؤية أنفسنا كما نحن في ذاتنا (En-soi) بدلًا من أنفسنا (Pour-Soi). إنها تحوّلنا من موضوع حياتنا إلى شيءٍ في الخلفية. عندما ينظر إلينا شخص ما فنحن مجبرون على رؤية أنفسنا كما لو كنا من الخارج. كما كتب سارتر ، “أرى نفسي لأن شخصًا ما يراني”.

رؤية نفسي من منظورك

فكرة سارتر عن النظرة لا تتعلق فقط بالوعي الذاتي. غالبًا ما تباشر نظرة الآخر بخلق تعديلات في بنيتنا. إنها تغير الطريقة التي نرى بها أنفسنا بالكامل. نحن نرى أنفسنا ليس بمنظورنا لكن عن طريق نظرة الآخرين لنا.

أحد التداعيات الضخمة لهذا هو أن نصبح واعين تمامًا بأجسامنا. عندما نكون بمفردنا، فإن لا نعير أهمية لأجسادنا إلى حد كبير. إنه مجرد امتداد لي. عندما يرانا شخص آخر، يأتي جسدنا إلى الوجود ككائن أو شيء. إنه شيء يجب فحصه والحكم عليه – مثل الشيء في ذاته En-Soi.

عندما يحدث هذا، نجد أننا نسدل شعرنا، ونمسح أفواهنا، أو نجلس باستقامة قليلا. نقوم بتقديم أنفسنا بدلا من أن نعيش لأنفسنا. نحن ميزة يجب عرضها ، واهتمامنا (الذي دائمًا ما يكون موجهًا إلى الخارج) ينقلب لينظر إلى نفسه. إنه تركيز مفرط ووعي بالذات ولا يمكن لبشر أن يتجنبه.

بشرة سوداء، أقنعة بيضاء

هيمنت أفكار سارتر (بالإضافة إلى محاضراته العامة المتكررة وظهوره ومنشوراته) على الكثير من روح العصر الفكرية في أوروبا ما بعد الحرب. كان لاستكشافه لـ”النظرة” قابلية تطبيق ضخمة، جزءٌ منها يعود إلى شعورنا كلنا بها. لكن فكرة سارتر أصبحت أيضًا سمة مركزية في فلسفة العرق.

أعاد فرانتز فانون المارتينك الفرنسي والوجودية السوداء النظر في فكرة النظرة في كتابه بشرة سوداء، أقنعة بيضاء. بالنسبة لمعظم الأشخاص البيض فإن لون بشرتهم ليس صفة، بل الوضع الطبيعي والمعتاد – وضع ولد نتيجةً للانحيازات ولكونهم أغلبية وأصحاب سلطة لعدة قرون. بالمقابل فإن الشخص الأسود يدرك تمامًا بشرته من خلال نظرة الآخرين. لون بشرة الشخص الأسود يعتبر “صفة” لوجودهم لا تنطبق على الشخص الأبيض. كما كتب فانون: “عندما يحبني الناس، فإنهم يحبونني على الرغم من لوني، عندما يكرهونني يشيرون إلى أنه ليس بسبب لوني. في كلتا الحالتين، أنا محبوس في هذه الدائرة الجهنمية.”

في العديد من الثقافات، السواد هو الآخر. إنه مغاير وغير طبيعي ويعتبر أقلية. المشكلة وفقًا لفانون هي أن هذا الإحساس بالآخر يصبح داخليًا، ويصبح الكيفية التي يرى بها الناس أنفسهم. إنهم يدركون بشرتهم السوداء بطريقة لا يعرفها أصدقاؤهم أو زملائهم البيض. كما قال فانون: “طالما أن الرجل الأسود بين أفراد نوعه، فلن تكون لديه فرصة سانحة إلا في النزاعات الداخلية الصغيرة، لتجربة وجوده من خلال الآخرين.” ومع ذلك، فإن النظر إليك دائمًا كأسود يقوم بحصر الذات (لنفسها – Pour-soi) وثبيتها كشيء (في ذاته – En-soi) – ولكنه أيضًا أقل شأنا. ومضى ليكتب: “أجلس عند المدفأة وأصبح على علم بالزي الخاص بي. لقد رأيته. إنه شنيع فعلا. أتوقف عند هذا الحد، فمن يستطيع أن يخبرني ما هو الجمال؟”.

الأشياء الجنسية

كانت سيمون دي بوفوار تعمل وتكتب بالتوازي مع سارتر (بالإضافة إلى إلهام وتحرير وربما تطوير أفكاره). تبرز فكرة النظرة بشكل كبير في عملها النسوي العظيم “الجنس الثاني”.

في فصليّ الطفولة والفتاة، تقول دي بوفوار إن المرأة تتعلم في وقت مبكر من حياتها أن دورها هو أن تلاحَظ. يجب أن يتم تعريضهن للحكم عليهن واختيارهن ومن ثم أخذهن من قبل رجل في النهاية. إنها لحظة قاسية ومرعبة في تطور الفتاة الصغيرة، عندما تدرك في وقت ما حول سن البلوغ أنها لم تعد موجودة كشخص في نفسها، بل ككائن يجب رؤيته. كما كتبت دي بوفوار “تشعر الفتاة [البالغة] أن جسدها يهرب منها وأنه لم يعد تعبيرا واضحا عن شخصيتها. يصبح غريبًا عليها وفي الوقت نفسه يفهمها الآخرون على أنها شيء مجرد. في الشارع تلاحقها العيون ويصبح جسدها عرضة للتعليقات؛ تود أن تصبح غير مرئية لأنها خائفة من أن تصبح جسدًا وتخشى أن تظهر لحمها”.

تستمر دي بوفوار في القول بأن القضية تزداد ارتباكًا في كيفية قبول النساء بأن “يتم النظر إليهن” هو قدرهن ونصيبهن. توضح الكاتبة أنه في هذه المرحلة تسعى بعض النساء إلى لفت “النظرة” من الآخرين والاستمتاع بها – ولكن بطريقة تحافظ على مقدار ضئيل منهن. يمكن لمعظم النساء التمييز بسهولة بين نظرةٍ ما والنظرة. الأولى هي شيء لطيف نسبيًا، وهي شيء تريده النساء (كما ذكرت دو بوفوار).

لكن هذه الأخيرة أكثر ضررًا بكثير. إنها اجتياحية ومفترسة ومُشيِّئة. إنها أمر مخيف ونازع للإنسانية. كما كتبت: “تود [الفتاة] أن تُرى فقط بالقدر الذي تظهر فيه نفسها: [لكن] العيون دائمًا ما تكون مخترقة للغاية… الرغبة الذكورية هي إهانة بقدر ما هي تكريم.”

النظرة في كل مكان

النظرة هي شيء ينفر ويحكم ويقلل من الأقليات أو الجماعات المضطهدة في جميع أنحاء العالم. لكنها أيضًا شيء نعرفه جميعًا ويمكن أن نقدره. إنها الخجل أن يتم رصدك تفعل شيئًا سخيفًا أو فجًا أو خاطئًا. إنه أدراك ووعي الذات عندما نحكم على أنفسنا. إنها اللحظة التي نتوقف فيها عن عيش الحياة كما نريدها ونبدأ في عيشها على لحن شخصٍ آخر.

النظرة هي حين يتم فيه جر ذواتنا إلى المجال العام لفحصها وإصلاحها. عندما نقدر معنى أن العيون أقوى بكثير مما عرفناه في أي وقت مضى.

https://bigthink.com/thinking/the-philosophy-of-objectification/

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: رنا داود

ترجمة: حنان ضياء

اترك تعليقا