فتغنشتاين: موقف من الإلحاد والإيمان (مترجم)
علينا أن نستدعي موقفَ فتغنشتاين في قضيَّةِ صراعِ الملحدين مقابل المُعْتَقد الديني؛ لِنَرى ما هو الجانبُ الذي تقوم إفادتُه بِدَعْمِهِ في هذا الحقل؛ أَيَّ الطرفين تخدم شهادتُه؟
عِنْدَما يقوم الملحدون الجدد بانتقاد المعتقدات الدينية، فهم عادةً ما ينتقدون المعتقدات التي يتناولها الفكرُ الدينيُّ الخالصُ في أُطْرُوحَاتِه، أو نحو ذلك مما يعتقده النَّاس. يُفترض أنَّ معتقداتِ المؤمن المُتمرِّسة والمصقولة مُحصَّنَةٌ ضِدَّ هذه الهجمات، وغالبًا ما يَنْشُدُ أولئك الذين يُقَدِّمُون هذه النَّوْعِيَّةَ من الردود على تلك الهجمات أعمالَ فتغنشتاين (1889-1951) الأخيرة؛ أعني محاضراته وحواراته حول الجَماليَّات، وعِلْم النَّفس والمعتقد الديني (1967)، وكتابه عن الثقافة والقيمة (1970)، وتم نشر هذه الأعمال بعد وفاته. أَدْلَى فتغنشتاين بتعليقاتِه ومُلاحظاته المثيرة للاهتمام، والغامضة كذلك في كتبه هذه حول الاعتقاد الديني، ويلوِّح من خلالها بأنَّ مثل هذه الانتقادات المُوَجَّهَة صوبَ الاعتقاد الدينيّ تضل سعيَها.
ما يلي هو دَلِيل مُوجَز للدِّفَاعَات الفتجنشتاينيّة الرائدة عن العقيدة الدينيَّةِ المُتجَذِّرَة في أعمال فتغنشتاين المُتأخرة. من الجدير بالملاحظة أنَّ أُطروحاتِ فتغنشتاين المتأخِّرة في هذا المجال مُثيرة للجدل. إنَّ الآراءَ التي أُنَاقشُها في هذه الأَسْطُرِ ليستْ بالضَّرورة ما قاله فتغنشتاين جَليًّا، ولكنَّها تُعْزَى إليه. تدارسنا وجهات النَّظَرِ عَنْ كَثَب، ولم نجد ما يكفي لطَمْأَنَةِ مُعظم المؤمنين الدينييِّين بِشَأَنِ انتقادات الملحدين، بسبب أنّ معتقداتهم “خارجَ حُدُود [المُتَكَلَّمِ فيه]”. ولا يعني هذا أن الانتقاداتِ المعاصرة للإيمان صحيحة، لأنَّها قد لا تكون كذلك. كلُّ ما في الأمر أن فتغنشتاين يُمِدُّ هذه الهجماتِ شيئًا من الحصانة.
يقول فتغنشتاين في المحاضرات أنَّ غير المؤمن لا يمكنه إنكار ما يعتقده المؤمن؛
“إذا سَأَلْتَنِي عمَّا إذا كُنْتُ أومِنُ بيوم القيامة أم لا، بالمعنى الذي يقول به المتدينون؛ فلن أقول: لا، لا أُومِن أنه قد يكون هناك شيء من هذا القبيل. يبدو لي من الجنون تمامًا أن أقول هذا.
وإذا ما شرحتُ الأمر أكثر سأقول: “أنا لا أومِنُ بكذا…”؛ فإن المؤمن لن يُصَدِّقَ أبدا بما وصفتُه له.
ولا يمكنني بعد ذلك أن أنكر عليه بأيِّ شكل”.
يُوَضِّحُ فتجنشتاين -على نطاق واسع- بافتراضه أنَّ غير المؤمن لا يستطيع أن يُنكِر ما عليه المؤمن من إيمان فحسب، بل لا يمكنه أن يدحض هذه المعتقدات أيضا، ولكن، لماذا؟
هنا، يختلف قَارِؤُو فتغنشتاين. هناك إجماع كبير إلى حد ما على أنَّ فتغنشتاين يفترض أنَّ المتديِّنَ والمُلْحِدَ يستخدمانِ جُمَلًا مثل وجود الله، وأنَّ يسوع قام من بين الأموات، وأنَّ هناك يوما آخر، ومع ذلك، تُسْتَخَدَمُ هذه الجُمَل بشكل مختلف، وبمعانٍ مُتَبَايِنَة. يثير ما سبقَ المزيدَ من الأسئلة:
- كيف يختلف هذا الاستخدام بالضبط؟
- لماذا علينا أن نفترضَ أنَّ الملحدين يجب أن يفشلوا في إنكار ما يُعبِّرُ عنه المؤمنون، بل في دحض مُعْتَقَدَاتِهم باستخدامِ هذه الجمل؟
تُقَدَّمُ عدد من وجهات النظر الفتجنشتاينيّة المختلفة للإجابة عن هذه الأسئلة، وسأعرض ثلاثًا من وجهات النظر المُتَنَازَعِ حولها في هذا المقال.
وفقًا لما سأطلق عليه اسمَ اللامعرفية الفتجنشتاينيّة؛ فإن المُتَديِّنين لا يستخدمون جملًا مثل الله موجود والمسيح قام من بين الأموات على نحو يُقَدِّمون بها ادِّعاءاتٍ بعينِها على الإطلاق. وإذا لم يُقَدَّم أيُّ ادِّعَاءٍ دينيٍّ، حينئذٍ لا يكونُ للنقد الإلحاديِّ ما يُنكِره أو يدحضه. إذا كان وجود الله لا يُسْتَخْدَم بشكل تُقَدَّمُ به ادِّعاءات، وإنّما بطريقة أخرى، فكيف يُسْتَخْدَمُ إذن؟
قدَّمَتِ التَّعبيريَّة واحدةً من الاقتراحات التي تقول أنَّ المؤمنين يستخدمون جُمَلًا مثل الله موجود للتعبير عن السُّلُوكِ والعواطف. فقد نُعبِّر مثلا بقولنا الله موجود عن نوع حادٍّ من التَّفاؤل أو الشُّعُورِ بالخُشُوعِ. لعل استخدام المتدينين لوجود الله يُشْبِهُ في الواقع قولِهم يا إلهي كنوع من التَّعَجُّب لوجود الكون أصلا. لكن، إذا كانتْ تلك هي الكيفيَّة التي نعبِّر بها عن الله؛ فكيف نعرف أنَّه موجود؟ وما هو الدليل على ذلك؟ إنَّها أسئلة لا يمكننا أن نُمسكَ بزمامها، بيد أنَّها نوع من الأسئلة التي يطالبُ الملحدون بتقديم إجابات لها.
تساعدُنا اللامعرفيَّةُ في فهمِ كيفيَّةِ استخدامِ اللُّغَةِ الدِّينيَّةِ، وتُلخِّصُ المسألةَ في قولهم أنَّ ما يُعَبِّرُ عنه المتديِّنون باستخدام هذه اللغة ليس شيئًا يُمكن للنقدِ الإلحاديِّ أنْ يدحضَه أو يُنْكِرَه. تأتي سلبيَّةُ اللامعرفيَّة في أنَّها لا يُمكن تصديقُها إلى حدٍّ بعيد فيما تفيده حول الكيفيَّة التي تعمَلُ بها اللغةُ الدِّينيَّةُ غالبًا. ويشجِّعُنا فتغنشتاين نفسُه على عدم العنايةِ بالكيفيَّة التي تُسْتَخْدَمُ بها اللغة، ويدفعُنا نحو النَّظَر والمُلاحَظَة، كما يدعونا إلى أن نُرَكِّزَ على الممارسة اللغوية في سياقِها الطَّبيعيِّ، التي لا تظهر كما تَدَّعِي اللامعرفيَّة. يبدو أن معظمَ المُتديِّنين -ومن بينهم معظم من عدُّو أنفسَهم فتغنشتاينيين- يستخدمون اللغة الدينية؛ من أجل تقديم مجموعةٍ من الادِّعاءاتِ الميتافيزيقيَّة والتَّاريخية وغيرها، ومِمَّا أهَمَّهُم كثيرًا أن تكون هذه الادِّعاءاتُ صحيحةً.
تُعَدُّ قيامةُ يسوع -كمسألة تاريخيَّة- شيئًا يُعْنَى به معظم المسيحيِّينَ على وجه الخصوص، بل يقدمون في الحقيقة أدِلَّةً لتدعيم هذا الفَرْضِ التَّاريخيِّ أغلب الوقت، مثل تقارير شهودِ عيانٍ لجُثَّةِ المسيح بعد وفاتِه. ويبدو أنَّ معظمهم يستخدمون وجود الله لتقديم فَرْضٍ عن موجودٍ مثاليٍّ مُتَعَالٍ، وهو ادِّعاء يعملون على الدِّفاع عنه إذا ما واجهُوا انتقادات مثل مُعْضِلة الشر الكائِنة؛ تلك الحُجَّة التي تقولَ أن تَجَذُّرَ الشر في هذا العالَم يُعَدُّ دليلًا جيِّدًا ضدَّ فرضيَّة وجود إله، مطلق القوة، كُلِّيُّ العِلْم، خير محض. فما الذي يحملنا أنْ نُدَافعَ عن فرضية ما إذا لم تكن هناك فرضيَّة يلتزمون بها من الأساس؟ يتَّضِحُ لنا أنَّه إذا كان هناك أُمَّة مُتَدَيِّنَة تستخدم اللغة الدينيَّة بطريقة لا معرفيَّةٍ تامة؛ فإنها تشكلِّ أقليَّة ضئيلة.
بالنظر إلى استحالة معرفة الكيفية التي تُسْتَخْدَمُ بها اللغة الدينية بشكل عام بالنسبة للامعرفية؛ فإنَّ العديد من مُؤَوِّلِي فتغنشتاين قاموا برفضها. فتغنشتاين يقبل بالادّعاءات الدينية، فاللغة الدينية ليست تعبيرية بحتة، وإلا ستكون العقيدة الدينية ليست أكثر من “نوع غريب من النشوة” كما تقول الفيلسوفة جينيا شونباومسفيلد “Genia Schönbaumsfe” في (A Confusion of Spheres).
يأتي الفيلسوف سيفيرين شرودر “Severin Schroeder” في مقاله (The Tightrope Walker) مُؤيِّدًا؛ فيقول:
“خلافًا لوجهة النظر الشائعة؛ فإن فتغنشتاين لم يقدم تأويلاً تعبيريًا بحتًا للعقيدة الدينية… بل ويشدِّدُ على أهمية الالتزام، وعلى البعد العملي للدين، دون إنكارٍ؛ أنه ينطوي على معتقدات صحيحة”.
وبخلاف وجهة النظر اللا معرفيَّة تلك، تُقَدَّمُ ادِّعاءات من المتديِّنين عندما يقولون أنَّ الله موجود وأنَّ المسيح قام من بين الأموات، وفي الغالب نجد أنَّ هناك أبعادًا إضافيَّة ومُمْتَدَّة لهذه المعاني والادِّعاءت؛ لا يستطيع الملحد فهمَها.
إنَّ الملحد المُنْكِرُ لا يستطيع إدراك تلك الأبعاد والمعاني الكامنة في اللغة الدينية.
يقول الفيلسوف الديني جون كوتينغهام “John Cottingham” في عام 2009 أنَّ فتغنشتناين يريد أن يقول أنَّ “ألعابنا اللغوية منسوجة بشبكة من الأنشطة غير اللغوية، ولا يمكن فهمُها بمعزل عن السياق الذي يمنحها الحياة”. ثم يستخدم كوتينغهام “Cottingham” قياسًا لتفسير ما يفوت -في رأيه- النقدَ الإلحاديَّ ويغيب عنه، حيث يقترح أنَّ ما يقوم به الانتقاد الفلسفيّ للمساعي الدينيّة هو “منهج عَصَّارَة الفاكهة”: وهي محاولة لاستخلاص السائل الصافي (من عصير فاكهة معين) من المعتقدات الدينية، ومن الممكن فحصه بمعزل (عن المكونات الأخرى)، مع تجاهل سياق “خليط العصائر”، ومع ذلك، فإن مُسْتَخْلَصَ العصير لا يعطينا الطعم الحقيقي للفاكهة كما يُفترض، بل “يقدم لنا في كثير من الأحيان شرابًا غير مستساغ طعمه ولا شكله. إن الشخص الذي يتذوق (عصير) الفراولة فقط عن طريق عَصَّارة الفاكهة، ويقرر بحزم: “لا أريد هذا (ولا أحبه)”، قد يتحول إلى اتّخاذ موقف راديكالي فقير، من تلك الفاكهة التي تجعل مُحِبَّ الفراولة منتعشًا.
تؤول شونباومسفيلد “Schönbaumsfe” فتغنشتاين بطريقة مماثلة، حيث أنها تشير إلى وجود أبعاد ومعانٍ في استخدام اللغة الدينية مفقودة عند الملحدين. لا يستطيع من لا يملك الأذن الموسيقية أن يناقضَ حُكمِ وتذوُّقَ شخص لديه الحسّ الموسيقيّ؛ لأنه فاقد للتذوُّق الموسيقي؛ فكيف يفهم ما يقوله الذوّاقون، يجادل فتجنشتاين بأنَّ غير المؤمنين لا يمكنهم إنكار ما يقوله الشخص المتدين؛ لأنهم لا يملكون معانيه وتجربته.
يُمكِن لفتغنشتاين والملحدين أن يُرَدِّدُوا كلمات المتدينين ببغائية على حد تعبير شونباومسفيلد “Schönbaumsfe”، وهي الطريقة نفسها التي يقوم بها شخص لا يملك التَّذوق الموسيقي عندما يردِّد كلمات من لديه مَلَكَةُ التذوق (بإمكانهم الحديث أيضًا عن الموسيقيين والمؤلفين العظام، وما هي القواعد التي تُنظم بها الألحان… إلخ)، ولكن، أقصى ما يمكن لأولئك الفاقدين للمَلكة الموسيقية أو الذين يفتقرون للشعور الديني هو فهم فكري وثقافي مجرد للموضوع (يمكن مقارنته بتعلُّم رمز ما). ولكي نتمكن من إنكار مفاهيم المتديِّن أو متذوِّق الموسيقى؛ فإننا نحتاج إلى نوع من التَّفاهُم الذي يجعل العمل الموسيقيَّ أو الصلاة (الكلمات الدينية) مقررةً وحيَّةً داخليًّا، لا ذلك النوع الذي يسمح لي بترديد كلمات مختلفة كالببغاوات.
هناك بعض المعقولية لهذه النظرة الفتجنشتاينية -مثال العصَّارة الذي أشرنا له سابقًا – أي أنَّ هناك طبقات غنية من المعنى والأهمية ينطوي عليها الاستخدام الدينيّ (مثل: الله موجود …إلخ)، وهذه المعاني مفقودة عند الملحدين. ولا نبالغ حينما نقول أنَّ العديد من الملحدين ليس لديهم سوى ذلك الفهم الفقير (العصير) للدين.
مع ذلك، ففتجنشتاين بحسب شونباومسفيلد “Schönbaumsfe” سيكون مخطئًا في استنتاجه أنَّ وجود تلك الطبقات الغنية من المعنى والدلالة الغائبة عن الملحدين، بسببها سيعجزون عن مناقضة ما يعتقد به المتدين.
لِنتناولْ هذا المثال، لنفترض أن ماري تسمع توم يصف أوتو بكلمة كراوت “Kraut” (المترجم: كلمة ألمانية تستعمل في الإنجليزية كمصطلح مُهِين للألمان). في هذا القول، يُواصل توم بوضوح اعتقادَه بأنَّ أوتو ألماني. ومع ذلك، يمكن أن يكون القصد أكثر من مجرد وصفه بالألماني. ربما ينوي التعبيرَ عن احتقاره للألمان، وبالتالي احتقاره لأوتو باستخدام هذه التعابير. قد يكون المقصد الحقيقي في تعبير توم هو إهانة أوتو.
افترض الآن أنَّ ماري تُعَاني من حالة تجعلها لا تدرك هذه الإهانة، هذا يؤدي إلى إخفاق ماري في فهم الاستخدام الكامل لكلمة كراوت، وعلى وجه أكثر دقة، ماري ستفشل في فهم الطريقة التي يستخدم توم بها هذا التعبير، في هذه المناسبة بالتحديد. إن الطرقَ المتنوعة والغنية لاستخدام مثل هذه الكلمات (Kraut) مفقود تمامًا عند ماري، حيث أنها تعتقد أن (Kraut) تعني فقط ألماني (German)، وبالتالي إذا علمتْ ماري أن أوتو ليس ألمانيًا، فستقول لتوم: لا، أنت مخطئ، أوتو ليس كراوت (ألمانيًّا). هل نجحت ماري في مُعارَضة توم؟
بالتأكيد، نجحتْ. صحيح أنَّ ماري ربما لا تملك سوى ذلك الفهم الفقير (عصارة) لما تعنيه عبارة توم، لكن ذلك لا يمنعها من تحقيق معارضة ناجحة، بل دحض ما قاله توم.
وبالمثل، حتى لو لم يكن لدى الملحدين سوى مفهوم “العصَّارة” الفقير لما يعبر عنه المتدينُ باستخدام جمل مثل (الله موجود..إلخ)، فهذا لا يعني عدم قدرتهم على إنكار المعتقدات الدينية المُعبَّر عنها باستخدام مثل هذه الجمل، وبالتالي لا يتبع ذلك أن الملحدين لا يمكنهم دحض ما يعتقده المتدين.
لكن، ربما ما ينوي فتجنشتاين وشونباومسفيلد “Schönbaumsfe” اقتراحَه هو أنه عدم وجود أيِّ تداخل بين ما يعتقد به المتدينون وما يفترض قيام الملحدين به.
ماذا لو كانت معاني الإنسان المتدين مَجَازِيَّة على سبيل المثال؟ افترض أن توم هو الفراشة التي تُحَلِّقُ حول نار جين المتوهِّجة. إذا سمِعَتْني ماري ولم تدرك هذا المجاز، سترد قائلةً أنَّ جين ليست نارًا متوهِّجة، وتوم لا يمتلك أجنحة، وهنا يبدو واضحًا أن ماري لم تفهم بشكل صحيح. هناك القليل من التداخل بين ما فهمتْه ماري وما أقصده بالفعل. وبلا شك، فشلتْ ماري تمامًا في مُعارَضَتِي.
ولكن، لعلَّ ما يعنيه الدينيون عندما يقولون الله موجود هو معنى مجازي؛ فالنتيجة كانت سوءَ فهم من قبل المنتقد الملحد لما يعتقد به المؤمن؟ فلنسمِّ هذا وجهة نظر “العصارة” المدعمة.
إذا صرختَ كش ملك! وكانت هذه الصرخة وسط لعبة ورق، فسيرتبك الجميع ويحتار.
تكمن المشكلة في وجهة نظر “العصارة” المدعمة أنها مثل اللامعرفية، فهي من المستبعَد أن تفسر لنا كيف تُستخدم اللغة الدينية بشكل عام. عندما يقول المتدين: الله موجود، ويردُّ الملحد بالإشارة إلى عمق الشر في العالم؛ فيحاول المؤمن عندها تفسير الشر من خلال الثيوديسيا ( تفسير يقدم التبريرات والتفسيرات للشر، فالحرب هي نتيجة تصرفاتنا، ووجود الشر؛ لبناء شخصياتنا)، أو يترك الأمر غامضًا (فالله موجود، ولديه أسباب جيدة؛ ليسمح بحدوث هذا الشر). إذا كان ما يعنيه المُتَدَيِّن هو معنى مجازي بشكل كلِّي؛ فإنَّ مثل هذه الأجوبة الدينية ستكون منطقيةً بقدر جوابي لماري بالإشارة إلى أنَّ الدليل ليس قاطعًا فيما يخص أن جين ليست نارًا متوهجة، وأن توم لا يملك الأجنحة، أو بالإصرار على أنَّ كل ما نعرفه أن جين هو جسد متوهج من النار.
تبدأ نسخة أخرى من وجهة نظر”العصارة” المدعَّمة من أفكار فتجنشتاين التي تَعْتَبِرُ أنَّ استخدامنا للغة مغروس في “الألعاب اللغوية” أو “أشكال الحياة”. افترض أنِّي صرختُ: كش ملك! في لعبة ورق، سيؤدي ذلك إلى حيرة وارتباك، لأن “كش ملك” لها لعبتها الخاصة بها وقواعدها المُنَظِّمَة لها، المختلفة عن لعبة الورق. في الواقع، أكون قد فشلت في قول أيِّ شيء على الإطلاق. في المقابل، يقترح البعضُ أن كلماتٍ مثل المسيح قام من بين الأموات موطنها الحقيقي في اللعبة الدينية اللغوية، وعندما يتم وضعها في ألعاب لها قواعد تختلف عن اللعبة الدينية (على سبيل المثال المختبر العلمي، أو فصل التاريخ الأكاديمي)؛ فإنّنا نُجَرِّدُها من معناها. لكن هذه الكلمات لا تقدم شيئًا يجعلها محطَّ نزاع للعالِم في مختبره أو للأستاذ في فصل التاريخ. إنَّ النقد العلميَّ والتاريخي للاعتقاد الديني أمر مستحيل.
من جديد، هذا المنظور المختلف لوجهة نظر “العصارة” المدعمة، لا يمكنه تفسير استخدام اللغة الدينية عادة. المتدينيون أنفسهم يستخدمون باستمرار مفاهيم مثل الله موجود، وعيسى قام من الموت في السياقات العلمية والتاريخية، ويستخدمون الحُجَجَ؛ لإثبات وجود الله، والدلائل التاريخية؛ لإثبات القيامة. حتى وإن كان الحديثُ عن وجود الله وقيام عيسى صحيحًا فيما يخص أنَّ لهما لعبتهمها الخاصة في أشكال الحياة الدينية التي يفشل غير المؤمنين في الانتماء لها؛ فإنَّ ذلك لا يعني أن هؤلاء غير المؤمنين لا يستطيعون رفض وإنكار هذه المعتقدات بشكل معقول.
فبعد كل شيء، كانت الاتهاماتُ بالسحر التي قُدمت خلال محاكمات سالم “Salem” (المترجم: قرية أمريكية للساحرات، تعود للقرن السابع عشر) تأخذ شكلَها ضمن إطارِ لعبةٍ دينية يفشل الملحدون في الانتماء لها، لكن، ذلك لا يمنع الملحدين المعاصرين بنقض وتفنيد الاتهامات الدينية بالسحر في القرن السابع عشر.
وجهة نظر ثالثة تُعزى إلى فتجنشتاين فيما يتعلق باللغة الدينية والتي أسميها وجهة نظر الملحد السالبة. في هذه النظرة، يكون الشخص المتدين ملتزمًا -ليس أكثر مما يعتقده الملحد- بل إلى أقل من ذلك.
وإليك هنا مثالًا بسيط: لنفترض أنَّ تيد قد أخذ الصورة التشبيهية لله كأب ينظر إلينا من الغيوم بشكل حرفي مبالغ فيه. يعتقد تيد أنه عندما يلتزم المتدينون بوجود الله، فإنهم يلتزمون بوجود شخص طبيعي يجلس حرفيًا على سحابة في مكان ما في الأعلى، وهو ينظر إلينا في الأسفل. ولأجل دحض هذا الاعتقاد، يَتَفَقَّدُ تيد كلَّ سحابة ولا يجد مثل هذا الشخص على أيٍّ منها.
عندما يقول تيد الله غير موجود، مستخدمًا لفظ الله كما يفهمه، يفشل تيد حقيقةً في مناقضة المتديّن. علاوة على ذلك، بينما قد يدحض تيد فهمَه لما تُعْرِبُ عنه جملةُ الله موجود، يفشل بوضوح في دحض ما يؤكد عليه مؤلِّهُنا المتمرِّس باستعماله جملة الله موجود.
غالب النُّقَّاد الملحدين للدين ليسوا بالطبع مسؤولين عن مثل هذا الفهم السخيف، ولكنهم مسؤولون عن شيء أكثر دهاء. يؤكد اللاهوتيُّون على أن الله ليس شيئًا؛ فهو ليس نوعًا من العناصر الموجودة مع الكون ومحتوياته. يقول اللاهوتي دينيس تيرنر للملحد في كتابه (Faith Seeking): “لا فائدة من افتراضك مخالفتي إذا ما قلت: ليس هناك شيء يُدْعَى الله، لأنني وصلتُ إلى هناك جيدًا قبلك”.
وبالنظر إلى أنَّ الملحدين يفهمون أن الله شيء موجود بالإضافة إلى كل الأشياء الموجودة، وبغض النظر عن كيفية توصيفهم لله في محاولة إنكار وجوده، فإنّهم سيفشلون في الحقيقة في مناقضة التصوُّرات الدينية عند المؤمنين المتمرسين كما يقترح دينيس تيرنر.
لا يقدم فتجنشتاين بإفاداته عن اللغة الدينية أي ردّ للمؤمنين على الملحدين.
من المثير للاهتمام، أن فتجنشتاين نفسَه يقول أنه عندما يتعلق الأمر بالله؛ فالقضية المطروحة ليست وجود شيء ما؛ لذلك ربما يلتقي فتجنشتاين مع نفس النقطة التي يثيرها تيرنر في أنَّ إنكار الملحد لله كونه شيئاً، هو إنكار لشيء لا يؤمن به أيُّ مؤمن عاقل. رغم كلِّ هذا؛ فإن وجهة النظر الفتجنشتاينية الثالثة لا تزال تواجه اعتراضات مهمة.
أولاً، إن وجهة النظر الملحدة باعتبارها سالبة غير قابلة للتصديق بالعديد من الجمل الدينية. انظر في جملة عيسى قام من بين الأموات، هل نفترض أنَّ ما يعنيه المسيحيُّ لا يفهمه الملحد؟ بالطبع لا، لأنَّ معظم المسيحيين يقولون حقًّا بالقيامة الجسدية على أنَّها حقيقة تاريخية، وهو بالضبط ما يفترضه خصومهم الملحدون.
ثانيًا، حتى ولو كان النقاد الملحدون يسيئون فهمَ ما يعنيه وجود الله، ويفكِّرون في الله على أنه شيء إضافي إلى الكون ومحتوياته، هذا لا يعني أنهم لا يدحضون ما يعنيه المؤمنون بقولهم الله موجود. فلنفترض مثلاً، أنَّ ماري ترى عدم وجود كائن مطلق القوة وكامل الخيرية، ليس من الجيد أن يردَّ المؤمن (وقتها) على ماري بقوله أنها تفهم الله على أنَّه قوة تعيش فوق سحابة، وأنه لا يؤمن بشيء من هذا القبيل. في الواقع ربما تكون ماري قد أظهرتْ أنه لا إله، حتى كما يفهم المؤمن هذا المصطلح، سواء كانت تحمل أيَّ سوء فهم من هذا القبيل أم لا.
ثالثًا، بالنظر إلى رؤية الملحد السلبية، حتى إذا كان الناقد الملحد قد أساء فهم المعنى المعقَّد الذي يعنيه المسيحي المتمرس بالله، فإن هذا لا يعني أنه غير قادر على فهم هذا المعنى. إذا كانتْ وجهة النظر الملحد السلبية صحيحةً؛ فإنَّ فهم ما يعنيه الشخصُ الدينيُّ أمر هين ومباشر؛ فيكفي الملحد أن يحذف ويتخلى عن مفاهيمه عن الله على أنه شيء، يعيش فوق سحابة، وغير ذلك هذه الصفات.
لا تقدم إفادات فتغنشتاين في الطريقة التي تستخدم بها اللغة الدينية التي عرضناها أيَّ طريقة للمؤمنين للرد على النُّقَّاد الملحدين. فشلتْ الإفادة في توفير المناعة التي كان يتأمَّلها مَن عدوا أنفسهم فتغنشتاينيين، بالإضافة إلى أنَّ الإفادة غير مقنعة في كيفية استخدام معظم المتدينين للغة الدينية بما في ذلك مَنْ عدوا أنفسهم فتجنشتاينيين. يقول الفيلسوف جون سيرل ذات مرة:”عليكَ أن تكون نوعًا فريدًا من المفكرين الدينيين للحفاظ على صلاتك، في حال لم تعتقد أنَّ هناك -في الحقيقة- إلهًا موجودًا خارج اللغة يستمع إلى صلواتك”.
كاتب المقال: ستيفن لو “Stephan Law” فيلسوف إنجليزي ومحاضر في الفلسفة في كلية هيثروب جامعة لندن ورئيس تحرير المعهد الملكي للفلسفة مجلة الفكر. تناولت كتب ستيفن مواضيع دينية وأخلاقية وفلسفية، وتُرْجِمَ من مؤلفاته إلى العربية كتاب (الإنسانوية: مقدمة قصيرة جداً).