الواجب الأخلاقي والصراع الروسي الأوكراني
في الحروب والمجاعات والكوارث الطبيعية، تسقط الأقنعة وتظهر لا إنسانية الإنسان. تسيطر المصلحة الخاصة على المصلحة العامة ويركض كلٌّ في طريقه حتى إن اقتضى الأمر دفع الآخر القريب منه والاعتداء عليه. تتشوّه الملامح وتُفضَحُ النفوس. ثم تطفو الحقيقة بما فيها من قبح على السطح وتظهر الأكاذيب والادّعاءات في جيوب معطف غوغول ويستحيل الإنسان تماما كغريغور سامسا خنفساءً.
يغيب الواجب الأخلاقي الكانطي ويحضر المستعمِرُ الأبيض في هذا الصراع الروسي الأوكراني وفي كل مرّة، متبنيًا أخلاق السيّد القويّ التي خاضت فيها النظرة النيتشوية للأخلاق.
بين أخلاق السادة وأخلاق العبيد عند نيتشه والواجب الأخلاقي عند كانط
فكّرت الفلسفة منذ بداياتها في ماهية الأخلاق. ولئن ربطها سقراط بالعلم والمعرفة، فقد أضاف أفلاطون في محاوراته أنها معرفة تقودنا إلى الحق بما فيه من تحقيق للخير. تعددت بعدهما المفاهيم والنظريات والفلسفات حتّى جاء نيتشه وماركس ليطرحا فكرة بشريّة الأخلاق وانبثاقها من البناء التحتي (الواقع الاقتصادي والاجتماعي) بالنسبة لماركس ومن البناء النفسي، الذاتي بالنسبة لنيتشه.
في كتاب جينالوجيا الأخلاق، يتحدّث نيتشه عن الأخلاق باعتبارها أداة ابتدعها العبيد الضعفاء والجبناء والمستكينون للسيطرة على السادة الأقوياء الأرستقراطيين. فهي بالنسبة له، انعكاس للقوة التي يحملها السيّد بين ضلوعه ومرآة للضعف والذلّ والمهانة التي يقرّ بها العبد في داخله. من جهة أخرى، تحدّث كارل ماركس عن ماهية الأخلاق، مركّزا كالعادة على الظروف الاقتصادية التي لا يمكننا أن ننأى عنها وعن الصراع الطبقي الذي يحكم هذه المجتمعات الرأسمالية، ليعتبرها أداة يسيطر بها القوي، المنتمِي للطبقة الثرية على الضعيف المنتمي للطبقات المضطهدة. فالأخلاق عند ماركس ليست أخلاقًا كونية إنسانية مشتركة بل أخلاق طبقات تعيش صراعًا سرمديًّا.
بين تلك الرؤى النيتشوية و الماركسية، تميل الكفّة إلى الواجب الأخلاقي الذي دافع عنه إيمانويل كانط والذي يشملنا جميعًا على اختلافاتنا. يقول كانط إن منبع هذا الواجب هو العقل وحده وأن الخير خيرٌ ما دام يرتبط بإرادة خيِّرة وصالحة تجعله يُطبّق قطعيا على كل البشر باعتبارهم ذواتً وغاياتً، لا وسائل لتحقيق تلك الغايات وباعتباره بعيدًا عن كل الدوافع الماديّة الصادرة عن حب الذات والانتصار لها دون غيرها.
ظلّ طرح إيمانويل كانط يقرّبنا من الخير والسلام والمحبة الخالصة والصدق باعتبارها مساعٍ إنسانية خيّرة وظلّ النظام العالمي اليوم وعلى رأسه أمريكا وأوروبا يطوّع تلك الأخلاق ليجعلنا سادة وعبيدا، مضطهدين وأثرياء، ولنرى اليوم ازدواجية المعايير الأخلاقية في التعامل مع الصراع الروسي الأوكراني.
“ليسوا لاجئين سوريين”… “هؤلاء أوربييون متحضرون”:
سقطت الأقنعة عن وجه المجتمع الأوروبي منذ بداية هذا الصراع بين روسيا وأوكرانيا. صارت الإنسانية انتقائية ومزدوجة، تحمل جينات عيون زرقاء وشعر أشقر وتسكن في شمال هذا الكوكب. تسمع أو يخيّل لها سماع دوِيّ المدافع في الحدود الأوكرانية فتندد به وترى منذ عقود اغتصاب الطفولة في بقاع أخرى فلا تحرك ساكنًا. مركزية اقتصادية وسياسية تلد مركزية أخلاقوية، تكون فيها السلطة الأمريكية/الأوروبية محددا للقيم وهادما لها.
تجلّت ازدواجية المعايير تلك في طريقة تعاطي الإعلام الغربي مع هذه الأزمة، حتى سمعنا مراسل شبكة سي بي أس الأمريكية تشارلي داغاتا يقول:” كما تعرفون، هذا ليس مكانا كالعراق وأفغانستان، هذا مكان متحضر نسبيا وأوروبي نسبيا” والنائب العام الأوكراني السابق ديفيد ساكفارليدزي يضيف على قناة بي بي سي:” المشهد مؤثر جدا بالنسبة لي لأني أرى أوروبيين بعيون زرقاء وشعر اشقر وأطفال يقتلون بصواريخ بوتين”.
لم تكن منابر الإعلام وحدها منابر لا إنسانية، فقد نشرت الصحفية الأمريكية Stephanie Hegarty على منصة تويتر تدوينة قالت فيها إن طالبة نيجيرية ظلت تنتظر على الحدود البولندية الأوكرانية طيلة 7 ساعات، شاهدة على إرجاع السود من الصفوف وعدم السماح لهم بتجاوز الحدود قبل الأوكرانيين. كما تحدّثت عن هذا التضامن الانتقائي المزدوج في الحدود البولندية مجلة L’Humanité في عددها الأخير الصادر يوم 2 آذار 2022 وتجاوزت ردات الفعل العنصرية حدود العبارات لنرى على تويتر مقاطع فيديو يظهر فيها أوروبيون وهم بصدد دفع مواطنين ملونين ومنعهم من ركوب القطار.
يحضر التمييز العنصري في هذا الصراع صورة وتعليقا وتحلّ المصلحة الخاصة محل المصلحة الجماعية العامّة لنرى “السيّد الأبيض” كما كان دائما مستعمِرًا مغرورًا ونرى القوى الإمبريالية على حقيقتها… قوى لا مكان فيها للإنسان أو لحقوقه… قوى تقدّس الروح مادامت غربية وتنفي الإنسانية مادامت مرتبطة بدول الجنوب…
يوجد في الصراع الروسي الأوكراني ما لا يوجد في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي!
تفاقمت الأزمة الأخلاقية الإنسانية خلال صراع الجارتين وانصاعت كل قوّة خلف حليفتها، مستخدمة جلّ أدواتها من رياضة وثقافة وتعليم وفنون وتاركة لوهلة تلك الأكذوبة التي تبنتها شريحة من المثقفين العرب والتي تنفي العلاقة بين الرياضة أو الفن والسياسية وتسخر من حملات المقاطعة والمقاومة. بدأت هذه الأزمة التي ليست إلا تعبيرا عن لا إنسانية الغرب وازدواجية معاييره مع الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) الذي عاقب اللاعب المصري محمد أبو تريكة إثر رفع قميصه في كان غانا 2008 وإظهاره حينها لرسالة تعاطفٍ مع غزة والذي منع اليوم رفع العلم وعزف النشيد الوطني الروسي وفرض دقيقة صمت على كل المباريات الحالية تضامنا مع الشعب الأوكراني. فالرياضة اليوم تحمل رسالة تضامن لم يكن من الممكن رفعها في وجه كيان صديق للفيفا ولحلفائها.
تجاوز هذا التناقض ملاعب كرة القدم وفعاليات كأس العالم، فشمل الأدب ليزعج دوستويفسكي وهو راقد في قبره وليبرهن له أن الخير قيمة غريبة عن الإنسان وأن الغباء هو الثابت الواحد بين كل المتغيّرات. أفقنا اليوم وأفاقت روح دوستويفسكي على خبر إلغاء دورة أدبية حول الكاتب الروسي العظيم فيودور دوستويفسكي في جامعة بيكوكا الإيطالية وبعد ضجة إعلامية شملت وسائل التواصل الإجتماعي، تغيّرت المعطيات ورضخت الجامعة، سامحة لفيودور بدخول قاعاتها. بعد الأبد، تُطرق أبواب الألحان ويحين دور الموسيقى للخوض في هذا الصراع، بعد أن سحبت أوركسترا زغرب الفيلهارمونية مقطوعتين للموسيقار الروسي الشهير تشايكوفسكي، تضامنا مع أوكرانيا في حربها ضد الدب الروسي.
لم يدّخر المعسكر الغربي جهدًا للانتصار لحلفائه وشيطنة أعدائه حتى صارت غايات تحقيق الفوز والانتصار والحفاظ على موازين القوى تبرّر الوسائل وتنفي الأخلاق وتقتل الإنسانية كما كانت وظلّت تفعل طيلة عقود.