عَطْسَةُ الْمَوْتِ
لا تَعْطَسْ
يُخبرنا الأديب الرّوسي الشّهير “أنطون تشيخوف”، الَّذي عاش في القرن الـ19 أنّ: «العطس فعل خطير فكُن حذرًا جدًّا إذا أردت أن تعطس فأنت لا تدري إلى أيّ شيء قد تُفضي بك هذه العطسة.»
أنطون تشيخوف
قصّة (موت موظَّف) هي إحدى القصص القصيرة الَّتي كتبها أنطون تشيخوف، وتقع في صفحتين ونصف. وقد كتبها عام 1883م عندما كان عمره 23 سنة وكان ما يزال طالبًا في الكلّيّة الطّبيّة في جامعة موسكو, ونشرها في مجلة ( إسكولكي) (الشظايا) (العدد27 بتاريخ2 يوليو 1883) وهي إحدى المجلّات الفكاهيّة من الدّرجة الثّانية ووقّعها باسمٍ مُستَعار هو “تشيخونتيه”، ومن المدهش أن تعرف أنّ القصّة القصيرة الَّتي ظهرت قبل 130 سنة ما زالت تُنشر ويُعاد طبعُها وتُترجَم إلى لغات أجنبيّة عديدة.
إن عطست ستكون في ورطة!
تدور هذه القصّة حول “إيفان” الموظف المثالي الَّذي وصفه تشيخوف (بالرّائع) والَّذى ذهب ليستمتع بأحد العروض المسرحيّة ولكنّه عطس فجأة أثناء العرض فبلّل العجوزَ الَّذي يجلس أمامه والَّذي تَبيّن أنّه جنرال في مصلحة السّكك الحديديّة. ومن هذه اللّحظة بدأت مشكلة “إيفان” والَّتي كانت تكمن في تقديم اعتذار لائق يقبله الجنرال الَّذي يجلس أمامه في الصّف الأوّل؛ فحاول جاهدًا لجعل الأمر ينتهي كما يريد، ويُنهي تلك المشكلة بشكل مثالي من منظوره؛ لذا نجده يُصرُّ على تقديم تفسير لفعله واعتذار عن ذلك الفعل. حاول الاعتذار خمس مرّات للجنرال رغم ما أبداه الرّجل من استياء وتذمُّر من محاولات “إيفان” للاعتذار، وكلّ مرّة كان يزداد التّوتُّر لدى “إيفان” وكان ينعكس ذلك التّوتُّر في حجم الاعتذار المُقدَّم للجنرال فكان الاعتذار الأخير هو الأطول ليُظهر لنا “تشيخوف” مدى سوء الحالة النّفسيّة الَّتي وصل إليها “إيفان”.
التّصاعُد المعلوماتي في القصّة:
حملت قصّة “موتُ موظَّف” تصاعُدًا في المعلومات الَّتي تُقدّم للقارئ والَّتي تزداد داخل القصّة كُلّما تقدّمنا في القراءة؛ فنجد أنّ “تشيخوف” قد أعطانا فى البداية معلوماتٍ عن “إيفان” مثل اسمه ومهنته ومثاليّته، ثم بداخل النّصّ ومن خلال ما دار فيه من أحداثٍ قَدَّم لنا معلوماتٍ تتعلّق بِسِماتِه النّفسيّة والَّتي انعكست في مراحل اعتذاره للجنرال وأيضًا في حديثه مع زوجته على كونه شخصا خائفا مُتَزَعْزِع الثّقة بالنّفس قَلِقا بشأن أفعاله وبشأن ردّ فِعل الآخرين تجاه تلك الأفعال. ونَفْس التّصاعُد المعلوماتي نجده في شخصية الجنرال فقد أعطانا في البداية معلوماتٍ تتعلَّق بشكلِه فوصفه بالعجوز والأصلع، ووصف وظيفته فذكر أنّه جنرال يعمل في مصلحة السّكك الحديديّة، ثم تزداد المعلوماتٌ فتظهر سماتُه النّفسيّة فيما جاء على لسان “إيفان” من كونه إنسان خبيث (الخبث يطل من عينيه) وكذلك في تعاليه على “إيفان” ورفضه لسماع اعتذاره.
قوة الصّراع:
كذلك أظهر “تشيخوف” تصاعُدًا في الصّراع الدّاخِلي لدى “إيفان” بعد أن قَدَّم الاعتذار الرَابع للجنرال وقرّر أنّه لا يطيق عناء الاعتذار المُباشِر له ثانية وأنّه سيكتفي بكتابة رسالة؛ لكنّه سرعان ما عَدِلَ عن ذلك الرّأي لأنّ الرّسالة لن يكون لها نَفْس تأثير الاعتذار المُباشِر.
انتبهوا…. لقد مات!!! :
أنهى “تشيخوف” قِصّته بنهاية قويّة وصادمة بموت الموظَّف إثْرَ حَدَثٍ لا يُنبئ عن مِثْل هذا التّطوّر، واستخدم لفظ (مات) صراحةً ولم يستخدم أيّ ألفاظ تدل على الموت وربما تلك المُباشَرَة اللّفظيّة مع النّهاية القاسية غير المُتوقَّعَة جاءت لتَدُقَّ ناقوسَ الخطر في المُجتَمَع .
مٌستويات المعنى في موت “إيفان”:
قصّة “موت موظَّفٍ” هي قصّة ذات مستويات مُتعدِّدة من المعانى؛ فهي تعطينا مَعْنى مباشِرًا عن إشكاليّةٍ ما بين شخصٍ من طبقة اجتماعية مُعيَّنَة لديه وساوس تجاه أفعاله لاسيّما كونها كانت موجَّهَة لطبقة أعلى (الإشكالية بين “إيفان” والجنرال). وهي أيضًا تحمل مَعْنى أكبر للعلاقة بين طبقتين ممثَّلتين في “إيفان” والجنرال. وكلا الطبقتين بهما درجة عميقة من التّحلُّل ف”إيفان” يُمثِّل طبقة اعتادت على الرّوتين والبيروقراطيّة وآلية الأفعال والخوف من الطّبقة الأعلى. والجنرال يٌمثِّل الطّبقة الأعلى المُتعالية، العجوز والمُسطَّحة الَّتي لا تهتم بمن أقل منها وحتّى لا تسمعهم؛ فالأمر الَّذي مثل إشكالية حياة أو موت لدى “إيفان” لم يجد أيّ صدى عند الجنرال فأظهر “تشيخوف” حالة من فَقْد الاتصال بين الطّبقتين، وتلك الحالة من الخوف والتّباعُد جعلت فِعْلًا بسيطًا وطبيعيًّا كعَطْسة “إيفان” يُؤدّي إلى وفاته.
ويبقى سؤالٌ بعد 130 عامًا من كتابة تلك القصّة، وبالخروج من روسيا إلى باقي بقاع الأرض: لماذا مازال يتحتّم على الموظَّف البسيط أن يموت من جَرَّاءِ عطسة بسيطة؟!!
قد يعجبك أيضًا: مراجعة لرواية (قصة حب إيرانية تحت مقص الرقيب)