صراع في حجرة الكتابة
يقول الناشر الأمريكي (هينري هولت) عن رواية (رحلات في حجرة الكتابة) للكاتب (بول أوستر):
يحتفي أوستر برفقٍ بقوَّةِ الخيال، ويُعجَب بطبيعة العقل المتاهيَّة في إجلالٍ فلسفيّ بارع وماكِر.
ومِن شهادة النَّاشر نستنبط أنَّ “بول أوستر” خلال هذه الرواية تحديدًا يُمَجِّد مسيرته الروائية بنفسه، ويُبدي فخرًا لِما أنجزه مِن متاهات روائيَّة فلسفيَّة. ومَن قرأ رواية “رحلات في حجرة الكتابة” سيفهمني ويفهم النَّاشر الأمريكي “هينري هولت”، أمَّا مَن لَم يقرأها، فهذه نبذةٌ قصيرة عَنها:
تبدأُ الرواية في حجرةٍ مُرَبَّعة صغيرة، فارغة إلَّا مِن: طاولة، كومتان مِن الأوراق المصفوفة على الآلة الكاتبة، العشرات مِن الصور الفوتوغرافية، وفراش، ومَع هذه الأشياء المُبهمة يوجد رجل عجوز يُدعى السَّيد “بلانك” لا يتذكَّر كيف أتى إلى هذه الغرفة، ولا يعلم أهي سِجن أم مَصَحَّة أم ماذا!. تدور أحداث الرواية كلها في يومٍ واحد، وخلال هذا اليَّوم يستقبل السيد بلانك عِدة مكالمات، وزيارات مِن إناسٍ لا يعرفهم، بينما هم يعرفونه، بل وينتظرون مِنه فعلٍ استثنائيّ يُنقذ مصائرهم الدنيويَّة .. ينتظرون مِنه ثِمَّة شفقة أو تعويض عَمَّا فعله في حياتهم.
مَن هو السَّيد بلانك؟
عجوزٌ، نجح بول أوستر في جعلهِ أخرق، فقد ذاكرته وآماله، وتراجع بعيدًا خلف دائرة المعرفة. يقطن في حجرة لا يتذكر كَم مَرّ عليه فيها مِن الوقت، ولا يتذكر كيف وَصل به الأمر إليها.
ومع ترابط خيوط الحبكة يتضح أنَّ هذا السَّيّد بلانك فعل ما لا يُحمَد في حَق إناس لا يتذكرهم أيضًا، يتوافدون عليه في هذه الحجرة المغلقة، ويسردون بقصدٍ أو بدون قصد ما فعله معهم مِن أفعالٍ ذميمة وأفعال خَيِّرة.
عِند التَّخلِّي عن حَبكة النَّص الرئيسية لوهلة، والنَّظر نظرة أكثر شموليِّة لمشروعِ أوستر، يَتَّضِح لنا أن كل شخصيات الرواية هي شخصيات قديمة مُستخدمة في روايات بول أوستر السابقة، إلا شَخص وحيد، هو السَّيِّد بلانك نفسه. أي أنَّ كل الشخصيات التي تتوافد على الغرفة المغلقة، الموجودون في الصور الفوتوغرافيِّة، هُم شخصيات روائية استلهمها أوستر مِن خياله مِن قبل، بينما بلانك في هذه الحالة يُمَثِّل دَور أوستر نفسه، وشخصياته تَحوم حَوله مُستجديين تَعويض أو تَكفير عَمَّا فعله بِهم مِن قَبل.
ومَع تضييق النَّظر مِن جديد عَلى رواية “رحلات في حجرة الكتابة” نجد أنًّها كُتِبت بطريقةٍ تجريبيَّة، أي أنَّ بول أوستر أثناء كتابتها كان يجهل ما سيحدث بعد دقيقة أو أقل مِن سيرِ الأحداث. كان فقط يستلهم شخصياته السابقة، ويضعها في مواجهة شخصيَّة مَع مُمَثِّله ” السَّيد بلانك “، ويبدأ الصِّراع هناك، في حجرةِ الكتابة.
مِن رواية “رحلات في حجرة الكتابة”:
يتوَقَّف السيد بلانك عن القراءة، لكي يريح عينيه، مغلغلًا أصابعه في شعرهِ،ومُتفكرًا بمعاني الكلمات التي قرأها توّاً. حين يُفَكِّر في إخفاق الرواي في محاولة التسلُّق والنَّظر مِن النافذة، يتذكَّر فجأة نافذته هو، أو بكلامٍ أدق، يتذكَّر الستارة المُسدلة على النافذة، والآن بما أنَّه لديه الوسيلة للانتقال إلى هناك دون الحاجة إلى الوقوف، فإنَّه يقرر أنَّها اللحظة المناسبة لرفعِ الستارة واختلاس النَّظر إلى الخارج. إذا تمَكَّن مِن رؤية محيطه، فلربَّما سيستعيد شيئًا مِن ذاكرته مِمَّا سيعينه على تفسيرِ سبب وجوده في هذه الحجرة.
المسؤولية الأخلاقيَّة Moral Responsibility:
يبقى السؤال الأهم واجب الطَّرح بعد قراءة هذه الرواية، هَل على الكاتب مسؤولية أخلاقيَّة تجاه شخصيَّاته الروائيَّة؟
الإجابة تَستوجب تَحديد نطاق المسؤولية الأخلاقية مِن الأساس، ففي الفلسفة الأخلاقيَّة المسؤولية هي استحقاق رد فعل كنتيجة مُناسبة عَن فعل ما، وفقًا لالتزامات أخلاقيَّة معيَّنة، سواء اللوم أو الثناء، أو المكافأة، أو العقاب .. إلخ.
فهل للشخصيات الخيالية واجب أخلاقيّ؟.
بتتبُّع حال الشخصيَّة الخياليَّة نجد أنَّها مادة مسلوبة الإرادة، أختياراتها حَتميَّة ومُسبِّبها هو الكاتب.
وتِلك هي الإجابة المَنطقيَّة أنْ “لا”. وقَبل أن تنتهي الإجابة نَجد عائق حاجز ومانع يقف في وجهِ هذه الإجابة:
الكاتب حين يستلهم شخصيته الخيالية يَكتبها عَلى الورق، فمَتَى كتبها على الورق خَرَجت مِن نطاق خَلْقه، وأصبَحت حُرَّة تَفرض نفسها على الكاتب ومساحته الموضوعة لها. فمِن الطَبيعي جدًا أن تجد كاتب يقول أنَّ شخصيته الروائيَّة فَرَضت عليه فعل كذا وكذا، بل وأجبرته على تغيير خطته الروائية أو القصصية بالكامل!
ومِن هنا نَصل إلى أنَّ هناك تفاعل كامل بين الكاتب وشخصيَّاته، إذ بكتابة الكاتب الأولى لشخصياته، أي لحظة خَلقهم أدبيًّا، خَرجوا خارج نطاق سيطرته الحاكمة، وأصبحوا حَقيقيين داخل عالم الكتابة، مُستقلِّين بذاتهم، لهم مشاعرهم الخاصَّة وميولهم الذاتيَّة .. ففي الحجرة المُخصَّصة للكتابة ستجد هذا العالم الصَّاخب، هذا الصِّراع بين الكاتب وشخصياته، صراعٌ بين كيانين أساسيين، ولا يُمكِن أن ينتهي الصِّراع بفائزيين، يستلزم الأمر فائز واحد فقط، دومًا.
عَن علاقات الكُتَّاب بشخصياتهم:
رُبَّما تربطهم علاقة حُب عَميقة لا تفسير لها، رُبَّما امتنان مُتبادل بينهما، ورُبَّما كُره!
المُتَّفق عليه أنَّ ما بينهم هو ما يَصنع عالم الأدب، العالم الموازي لعالمنا. وكثيرًا ما نَسمع عَن بكاء كاتب لأنَّ أحد شخصياته الخياليَّة مات!
وكثيرًا أيضًا ما نسمع عَن قَتل الكاتب لشخصية روائية رئيسية له عَن عَمد مِثلما فَعل الروائي “آرثر كونان دويل” عندما قَتَل شخصيته الأهم “شيرلوك هولمز”؛ ببساطة لأنه صار أقوى مِن المؤلف نفسه، وبعدما قتله حاول أن يُقَدِّم عوالم روائية وقصصية جديدة أو مُكررة، ولكِنَّها بائت -كلها- بالفَشَل، فقَرَّر أن يُعيده إلى الحياة مَرَّة أخرى. والطَّريف في الأمر أنَّ الشَّخصيَّة الأدبية هي المادة الوحيدة القابلة للعودة مِن المَوت؛ ذَلك لانَّ الحكايات ذاتها تَهزم المَوت.
وفي قصّة “آرثر دويل” و”شيرلوك هولمز” هذه نَستنتج أنَّ الكاتب قَد يغار مِن شَخصيته الروائية لشهرته عَنه، مَع أنَّه هو صانعها، إلَّا أنَّ الطبيعة البَشَرية لا تَقبل هَذا بكلِّ تأكيد!.
ونجد شخصيَّة “الكونت دراكولا” خالدة عَلَى مَرّ العصور بصفتها الشخصيَّة المُرعِبَة الأشهر، مَن يتذَكَّر كاتبها؟ إنَّه الإيرلندي برام ستوكر.
والمُتَحَرِّي “هيركيل بوارو”، الذي ابتكرته الروائيَّة البريطانيَّة “أغاثا كريستي”، وقَد شارك في 33 رواية لها، و 51 قصَّة قصيرة .. تخيَّل أن شخصيَّة مُهمة كـبوارو يموت داخل رواية “الستارة 1975” أثناء نوم!
تُرى ما الذي يُمكِن أن يدفع أغاثا كريستي إلى قَتل شَخصيتها الروائية التي بدأت مَعها مُنذ 1920 ؟ ما الذي يَدفعها إلى قَتل شَخصيتها المُربحة، وبَطل الأفلام التي تُضاهي شُهرته شُهرة جيمس بوند؟
لا إجابة مُحَدَّدة، فَقط العديد مِن التحاليل، مِن بينها، أن يكون قد حَدَث مع “أغاثا” ما حَدث مَع “آرثر دويل” ومتلازمة “شيرلوك هولمز”.
والعديدُ العديد مِن الأمثلة عَن مُتلازمة الكاتب ومسؤوليته تجاه شخصياته.
وهذا دَليلٌ ثان على وجود ما يُسَمَّى بالمسؤوليَّة الأخلاقيَّة أو اللاأخلاقيَّة للكاتب تجاه أبطاله، وكلَّما كَثُر هَذا التفاعل بَين الكاتب وشخصياته ظَهر ذَلك في كتابةِ النَّص؛ ذَلِك لأنَّ الارتباط القَوي هذا يَخلق نوع مِن المقامرة مِن قِبَل الكاتب أمام بَطل روايته؛
مَن يَعرِف أكثر عَن الآخر؟
مَن مرآةِ الآخر؟
مَن وَضع الآخر تَحت أبطه وصار به إلى نهاية النَّص؟
ويُجيبنا النَّص -خِلسة- عَن كل هذي الأسئلة، أو لا يُجيب!.