تجاهلناها كثيراً فاحتلت شاشاتنا: نظرةٌ بيئيَّةٌ على الأعمالِ الدراميَّة المُعاصرة

جمع الإنسان بالطَّبيعة علاقة سرمديَّة. فلا تخلو لحظة في تاريخ البشريَّة من تفاعلٍ تبادُلي بين الناس والطبيعة. وقد ازداد مؤخراً الاهتمام بالبيئة والتحذير من تفاقم الخطر المُتربِّص بالإنسان والمُتمثل بانهيار النظام البيئي كاملاً نتيجة تجاوزات لا عديدة وانتهاكات لحرمة الطبيعة لم تتوقف منذ الثورة الصناعيَّة وحتى اليوم.

انعكس هذا الخطر المحدق على الأدب والفن، وشهدنا تصاعد النقاش البيئي في الأعمال الأدبيَّة وازدياد الوثائقيات المهتمة بتسليط الضَّوء على المشاكل البيئيَّة والتَّلوث، كوثائقي Garbage Island: An Ocean Full of Plastic ومحور ذوبان الثلوج في وثائقي Our Planet الجديد على شبكة نيتفليكس.

هذا التصاعد ليس جديداً تماماً، فقد عاد التيار البيئي للظهور منذ أواخر القرن الماضي عبر حركات وأحزاب اجتماعية وسياسية، وظهر معه منهج التحليل البيئي الذي أعاد تفسير الكثير من المفاهيم. فاتَّجه الفلاسفة والنقاد الأدبيون والمفكرون إلى إعادة سبر أغوار الأعمال القديمة واستعراضها بشكلٍ جديد متوافقًا مع المفهوم البيئي.

لا يُقصد بالمفهوم البيئي والمنهج الطبيعي مُجرد ذكر البيئة وعناصرها في النصوص أو الأعمال الفنيَّة، بل هو حالةُ اندماجٍ وتماهٍ بين الإنسان والطبيعة، وترابُط مصير، وانعكاسٍ مُتبادلٍ تذوبُ معه كلّ الخطوط بين الطبيعة والإنسان، كما ذابت الخطوط بين الواقع والخيال في منهج ما بعد الحداثة.

ولم تكن شاشة التلفاز استثناءً، ففي السنوات الأخيرة صرنا نشاهد أعمالاً تحمل رغم إثارتها وربّما فانتازيتها، توجهاتٍ بيئية واضحة ترفع من قيمة العمل وتُعطيه بُعداً غير متوقعٍ من مسلسل يظنُّ المشاهد للوهلة الأولى أنَّ هدفه ترفيهيٌ بحت.

إعلان

مسلسل Dark الألماني الشهير، والذي سيصدر جزؤه الثاني قريباً، هو المثال الأوضح على المنهج البيئي في الفن. فقصَّة المسلسل تدور حول مدينة في ألمانيا أُنشِئ فيها معمل للطَّاقة النوويّة، وفي هذه المدينة أيضاً ونتيجة حدثٍ معين، تفتحُ بوابةٌ زمنيّة تنقل بعض سكان المدينة 33 سنة إلى الخلف أو إلى الأمام.

القصة للوهلة الأولى تبدو عن الزمن ومعضلاته، لكن عند تحليل العمل من وجهة النَّظر البيئيّة، نجدُ أنَّنا أمام منظومةٍ بيئيةٍ مُغلقة، مُتمثلة بالمدينة التي يبدو سُكَّانها حبيسي تعاستهم فيها، وتتوالى الأجيال في جوِّ المدينة الكئيب الذي يعبر معظم قاطنيها عن كرههم لها. المدينة مُتأثرة بكلِّ وضوحٍ بالتَّلوثِ النووي، والنَّاس مُتأثرون بالمدينة وتلوثها ممَّا انعكس على نفسياتهم، وسبَّبَ سوداويَّة مُرعبة اختار كُتَّابُ النَّص أن يعرضوها لنا على شكلِ جرائمَ شنيعةٍ عابرة للزمان، ليُرسِّخوا الرسالة أكثر، ويقولوا للمُشاهد: انتبه، الزمان يذهب ويروح ويلتف حول نفسه، لكنَّ التركيز على المكان. المكان الثَّابت السامّ الذي يؤذي الناس بعد أن آذاه أصحاب المعمل النووي والمتآمرون والذين أخفوا المشاكل والتجاوزات.

وفي المسلسل مشهدٌ يُلَّخص كلَّ هذا الكلام. حين نعودُ بالزمن إلى الماضي القديم، حين تقرر بناء المعمل، وفي نفس الحقل حيثُ يُلقي أحد الصناعيين خطاباً عن قداسة الطاقة النوويَّة، هناك تماماً، نجدُ جثتي طفلين من المستقبل، ملقاتين على كومةِ رملٍ في موقع بناء المعمل. وهي رسالة واضحة أنَّ كلَّ ما جرى في هذه المدينة، وكلَّ الموت والخوف والحزن والظلام الذي غطَّاها على مدى أكثر من 99 عاماً، هو بسبب تجاوز البشر لحدودهم أمام الطبيعة، ومحاولتهم ترويض ما لا يستطيعون احتواءه. عند استعراض القصة من هذا المُنطلق، يبدو محور الزمن فيها وغموضه أقل أهميَّة أمام أثر الطَّبيعة المُباشر علينا وما مشاهدُ تساقط الطُّيور وضياع الناس في كهفٍ وسط الغابة والباب الفولاذي الفاصل بين الحقيقة والباحثين عنها إلا تجسيدًا لهذه الفكرة.

ليس هذا العمل الوحيد، فهناك على سبيل المثال أيضاً مسلسلٌ فرنسي يُدعى La forêt أو “الغابة”. ويستعرض أيضاً أثر الغابة وتفاعلها المُتبادل مع سكان المنطقة، وكيف أثَّرت على المُهمشين وكانت مخبأً للأشرار وملاذاً للطيبين في آنٍ معاً. المسلسل يتحدث عن جرائم قتلٍ غامضة لكنَّ للغابة فيه دوراً أكبر من الممثلين والحبكة القصصية. وأخيراً وليس آخراً يظهر آخر الأعمال البيئيَّة وربَّما أقواها حتى الآن: مسلسل تشيرنوبل القصير من إنتاج HBO. هذا العمل الذي أثار ضجةً كبيرةً وحصل على تقييماتٍ مُرتفعةٍ بعد صدور حلقتين فقط، وتابع التَّأثير بعد الحلقة الثالثة ليشدَّ المتابعين نحو مشاهدةِ عرضٍ درامي لقصةٍ معروفة وشهيرة، وسبق لمئات الوثائقيات الحديث عنها، لكنَّ المُعالجة الدراميَّة البيئيَّة كما ذُكِر أعلاه، هي الأكبر أثراً في النَّفس البشريَّة، وهي خليفة عصر ما بعد الحداثة أو ربّما شريكته في مُداعبة الروح البشريَّة ودفعها نحو طرح الأسئلة المناسبة.

هجر الإنسان الطبيعة زمناً طويلاً، منذ أنِ ازدهرت الثورة الصناعيَّة وحتى اليوم، وهاهو الآن يحاول العودة إليها ليطلب رضاها، ولكنَّ الأثر الطَّويل للإهمال لا يمكن محوه بسهولة. وكلُّ هذا الخوف والظلام في الأعمال الأدبيَّة والفنيَّة ما هو إلا إدراكٌ باطنيٌّ من البشريَّة أنَّ زمن حصدِ النتائج قد جاء، وعلينا جميعاً المُشاركة في الإنقاذ أو الاستعداد لتحمُّلِ العواقب.

المصادر:
أهمية النقد البيئي في الدراسات النقدية – الأستاذ محمد أبو الفضل بدران، من المؤتمر الدولي الرابع للغة العربية.
Dark (TV Series 2017–)
La forêt (TV Mini-Series 2017–)
Our Planet (TV Series 2019–)
Chernobyl (TV Mini-Series 2019)

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: زياد التغلبي

تدقيق لغوي: مريم

اترك تعليقا