عصر الحكمة
في البدء كانت الكلمة، الميثاقُ الأوّل للتاريخ البشريّ، قلبُ المعرفة، وغاية التواصل الإنسانيِّ. في الأزمنة القديمة، لم تكن الحاجة إلى الكلمات أقلُّ أهميّة من الحاجة إلى تفسير تلك الكلمات وكلّ ما يتصل بها من لغاتٍ وعلوم ومعارف وما تُصرِّحُ به من مشاعرَ وأفكارَ وانتماءاتٍ. كانت الحاجة إلى الترجمة وثيقة الصِّلة بكل ما تحملهُ الكلمات من أهميّة، ومن هنا ظهرت الترجمة كلغةٍ جديدة تَربِطُ بين الحضارات وتُنير الطريق إلى حضاراتٍ جديدة وتقدِّم تواصلًا تاريخيًّا وثقافيًّا وأدبيًّا أكثر شمولًا.
لم تَنــل حركةُ الترجمة إلى العربية الحظّ الوفير من الاهتمام على مدى عصورٍ طِوال، ويرجِع السبب في أغلب الأحيان إلى الغموض الذي أحاطَ بتاريخ الترجمة والذي يعود في بادئِ الأمرِ إلى قلَّة المعرفة بتاريخها الطويل، ونُدرة التناول التاريخيِّ لها من قبل الباحثين.
كانت البداية في مجتمع المدينة المنوّرة، حيثُ التعدّد الإنسانيُّ واللغويُّ والذي دفع البعض لتعلِّم تلك اللغات وإجادَتِها والتحدث بها، ويُذكَر، في هذا الشَأن، أنّ زيدًا بن ثابت كان مترجمًا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم- لكلًّ من اللّغة الفارسيّة والروميّة والقبطيّة والحبشيّة.
وربما دعت حركة التوسُّع الإسلاميِّ إداريًّا وسياسيًّا إلى نشأة حركة الترجمة والوعي بأهميّة الازدواج اللغويّ والثقافيّ بين أهل هذه اللغات. وفيما يبدو أن هذه الحركة كانت سمةَ التوسُّع الأوليّ للعقل العربيّ؛ فقد أتاحت له فرصة الالتقاء بثقافاتٍ شديدة الاختلاف، وحضاراتٍ قديمة، منها ما كان لها أشدّ الأثر في تاريخ هذا العالم.
وواقع الأمر، أنّ هذه الحركة اتَّضَحت بشكلٍ ما في عهد بني أميَّة إلّا أنَّها لم تكن سوى مجرّد حركاتٍ فرديّة تحيا بحياة القائمين عليها وتنتهي بموتهم، ومن هنا لم تتخذ شكلًا علميًّا منظّمًا كتلك التي حدثت في العصر العباسي والذي يُعدّ البداية الحقيقة للعصور الذهبية التي تناولت العلوم والفنون والأداب، ونقلَت الكثير منها إلى الحضارة العربية، ثمّ شكّلت بدورِها مصادِر الحضارَة الغربيّة الحديثة.
فيقول جورجي زيدان في كتاب تاريخ آداب اللغة العربيّة:
إنَّ معظم الخلفاء العباسيّين كانوا أهلَ ثقافة وعلم اهتموا بالعلم والعلماء، بل هم أنفسهم يُعدُّون من العلماء والأدباء والشعراء.
وكان الخليفة المنصور أوّل الخلفاء العباسيّين الذين أولَوا اهتمامًا وعنايةً بمجال الترجمة ورعاية القائمين عليها، ويرجع ذلك لاهتمامه الشديد بعلوم النجوم ورغبته في معرفة ما قام بكتابته القُدماء في هذا الشأن، ففي عهده تمَّت ترجمة أوّل المؤلفات اليونانية وهو كتاب “الأصول والأركان” لأقليدس، وتبعهُ كتاب “السند هند ” و “كليلة ودمنة”، وأمَّهات الكتب العلمية أرسطاطاليس وغيرها في الطبِّ والتنجيم والهندسة.
أمّا الخليفة الرشيد، فلم يقتصرعلى رعاية ترجمة بعض العلوم، وإنّما تَطرَّقَ إلى تشكيل مجموعات من العلماء وتوكيلهم مهمّة البحث عن المخطوطات اليونانية في بلاد الروم، وقام بتشجيع المترجمين، وحَفَّزَ رجال الدولة على الانخراط في هذه الحركة، وحثَّهم على دعمها ممَا جعلها مشروعًا جماعيًّا.
بيت الحكمة:
لم تكن بغداد في ذلك الحين مدينةً ثريةً فحسب، بل كانت من أهمِّ وأشدِّ دول العالم ثراءً كونها كانت تحتوي داخل أركانِها بيت الحكمة، الذي كان له الفضل الأكبر في تغيير مجرى الكثير من العلوم والمعارف في عصرنا الحالي. فقد كان بيتُ الحكمة يُضاهي، في منزلته، كلٌّ من المكتبة الوطنية بباريس والمكتبة البريطانية بلندن حاليًّا.
ضمَّ بيتُ الحكمة مجموعةً من النصوص والمخطوطات في مختلف العلوم وشتى اللغات والتي جمعها هارون الرشيد وأسلافه من الخليفة المهدي والخليفة جعفر المنصور، ولمّا زاد عدد المخطوطات الموجودة قام الخليفة المأمون، خليفة هارون الرشيد، بإقامة توسُّعاتٍ لدار الحكمة لتشمل رُواقًا خاصًّا بكلِّ فرعٍ من العلوم والمعارف.
حركة الدراسة:
كانت دار الحكمة ملتقًى للمترجمين والعلماء والكُتاب والنُسّاخ وكلّ المهتمين بالعلوم رجالًا ونساءً وأصحاب كل المعتقدات الدينية، حيث تمّت ترجمة العديد من النصوص والمخطوطات العلميّة والفلسفية للغة العربية والسريانية والتي بدورها انتقلت فيما بعد إلى لغات أخرى شكّلت جزءًا هامًا من معرفة هذا العالم الحديث ومن بينها مخطوطات أرسطو والتي قام بترجمتها الكندي، ومؤلفات أبُقراط وجالينوس والذي نقلها إلى العربية والسريانية حُنين بن إسحاق. حيث يعدُّ حُنين بن إسحاق من أهمِّ مترجمي بيتِ الحكمة، فقد درس الطبَّ وعلومَ العقاقير، كما ودَرَسَ اليونانيّة والعربيّة.
وقد كان حنين بن إسحاق يقوم برحلاتٍ إلى الإمبراطوريّة البيزنطيّة وغيرها بحثًا عن المخطوطات والنصوص في مختلف فروع المعرفة من طبٍّ وهندسةٍ وفلسفةٍ وما إلى ذلك .ولم تتوقف جهود حنين بن إسحاق عند هذا الحدِّ، بل قام بترجمة المُصطلحات العلميّة إلى مصطلحاتٍ عربيّة قريبةَ الفَهمِ مِمَّا أضافَ للعربيّة بُعدًا آخر.
وعلى غرار بيت الحكمة، أُقيمَ العديد من المراكزِ العلميّة المماثلة في العديد من مُدنِ الخلافة الإسلامية لِتُحاكي الأثرَ الذي قام به بيتُ الحكمة في النهضة العلمية آنذاك والتي لم يكن لها مثيل.
وفي القرن الثاني عشر الميلادي، تحوّلت الأندلس إلى مركز عالميّ للترجمة ولكن هذه المرّة كان العمل يخصُّ تحويل التراجم العربيّة إلى اللّاتينيّة، حيث ظهرت الأعمال اليونانية القديمة، والتي تمّت ترجمتها إلى العربيّة للمرة الأولى، حيث قام طلّابُ العِلم المسيحيِّين، واليهود، والمسلمين، بترجمة كُلِّ هذه النصوص إلى اللّاتينيّة والتي بدروها تُرجمت إلى لغاتٍ أوروبيّة أُخرى.
كان العصر العباسي بمثابة العصر الذهبيّ للعلوم والمعارف، والذي أضاءَ بدوره تاريخ العالم الحديث في كل مناحي الحياة .
التساؤل الذي أطرحهُ على نفسي في كل مرة أطالع فيها مظاهرَ النهضة العلمية في العصر العباسي، هل نستطيع برغم كل التطور المعرفيّ والتكنولوجيّ الذي نحيا تحت مِظلَّته اليوم أن نُحقِّق مثل تلك النهضة مرّةً أُخرى؟
الجهود حثيثة، ولكنّها ليست بالقدر الكافي. إذن دعوني أحلُم بأن تتوفّر هيئة دوليّة عربيّة رفيعة المستوى تسعى لترجمة كلّ العلوم والمعارف بكلّ اللغات إلى العربية، وأن يُتقنَ أبناءَنا لغاتٍ عدّة منذ الصغر، وأن نُنشِئَ أجيالًا تُقدِّس العلوم والمعارف، وتؤمن بأنّ المعرفة هي المستقبل.