ظاهرة التولد ونشوء الحياة

كتب الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في القرن الثامن عشر الجملة الشهيرة: “لن يكون هناك أبدًا نيوتن لحزمة من العشب”، وما عناه إمانويل كانط هنا أنّه لم يتوقّع أن يظهر في علم الأحياء شخص يصنع ما صنعه نيوتن؛ الذي وجد القاعدة القانونية والأسس المنظّمة للفيزياء، ذلك لأنّ كانط كان يعتقد أنّه لا توجد قوانين واحدة تنظّم ظاهرة الحياة على كلّ أشكالها.

السبب في ذلك هو أنّ ظاهرة الحياة هي من أعقد الظواهر في الطبيعة، وكان من الصعب أن نجد فيها نظامًا يوحّد بوضوحٍ جميع مركباتها، أدّى هذا إلى إعاقة تطوّر علم الأحياء إلى فترةٍ متأخّرةٍ جدًّا نسبيًا؛ ذلك لأنّه لم يكن لدى العلماء العاملين في هذا الموضوع نظريّةٌ موحّدةٌ تفسّر ما يرونه بشكلٍ واضح.

بالطبع؛ كان كانط مخطئًا، وذلك لأنّه في غضون سبعين عامًا من قوله هذا ظهر كتاب داروين “أصل الأنواع”. كشف هذا الكتاب عن النظام المنهجيّ الذي يتحكّم في ظاهرة الحياة بكلّ أشكالها، ويعطي القاعدة القانونية الواضحة والمُوحِّدة لها؛ لهذا عندما يتحدّث مؤرّخو العلوم عن علم الأحياء؛ يعزّون لحظة نشوئه الحقيقية إلى ظهور نظريّة داروين.

لم يتحدّث داروين في كتابه عن كيفية نشأة الحياة، بل ركّز اهتمامه في القوانين التي تحكم تطوّرها؛ من أشكالها الأولية إلى أشكال وجودها المعقدة، لكنّه خمن في حينه -كما ظهر في عددٍ من الرسائل التي كتبها- أنّ الحياة نشأت من البيئة الـ “لاحَيَوِيَّة” (Abiotec) التي كانت تسود الأرض بعد تكوّنها بقليلٍ في مرحلة “ما قبل الحياة”. هذا الاعتقاد هو الاعتقاد السائد اليوم بين العلماء الذين يبحثون في أصل الحياة ونشوئها. السؤال المركزيّ في هذا العلم هو أنّه كيف أدّت الشروط السائدة في الأرض المبكّرة إلى الانتقال من الكيمياء العضوية المعقّدة، التي كانت موجودةً في حينه، إلى انبثاق ظاهرة الحياة، بكلمات أخرى: كيف تولّدت البيولوجيا من الكيمياء؟

الطبيعة التراكمية للمعرفة وسؤال نشوء الحياة

أودّ أن أتوقّف قليلًا؛ قبل أن نكمل؛ عند صفةٍ عامّةٍ للمعرفة العلمية التي لا تُعطَ حقّها بوجهٍ عام؛ ألا وهي الطبيعة التراكمية الخاصّة لهذه المعرفة؛ حيث يستطيع العلماء في أيّة لحظة كانت من الزمن التعاملَ فقط مع قسم من الأسئلة العلمية التي من الممكن أن تُسأل؛ لهذا يصبّون جُلّ جهودهم على عددٍ محدود من التساؤلات التي تتوفّر لديهم الإدراكات العلمية الكافية والأدوات البحثية الفعّالة التي تمكّنهم من تحقيق تقدُّمٍ ما في الإجابة عليها، ولو بصورة جزئية. أضف على ذلك -ولربما هذا هو الجانب الأعمق من تراكميّة المعرفة- أنّه غالبًا لا يكون واضحًا للعلماء ما هي الأسئلة التي يجب أن تطرح، وإنّما تتضح هذه الأسئلة رويدًا رويدًا مع التقدُّم العلمي.

إعلان

مثالٌ بارزٌ على هذا هو السؤال العلمي: كيف ظهرت الحياة؟ حيث تجنّب أغلب العلماء في التاريخ -ومن ضمنهم داروين ومعاصريه- التفكير في هذا السؤال عمدًا؛ لأنّ معظمهم كان يدرك أنّه لا يملك المعرفة الأساسية، ولا الأدوات الأولية التي تمكنهم من التعامل معه. هذا على الرغم أنّ الكثيرين من العلماء في القرنين الماضيين كانوا يعتقدون أنّ الحياة ظاهرةٌ طبيعية، حتّى في نشأتها، كما تشير إليه بوضوحٍ رسائل داروين.

أضف إلى ذلك؛ أنّه لم يكن بالإمكان طرح الكثير من الأسئلة المتعلّقة بظهور الحياة قبل القرن العشرين؛ حيث لم يكن العلماء يعرفون، أو حتّى لم يستطيعوا أن يتخيلوا؛ العَلاقة العميقة بين الكيمياء الحيوية ومبنى المجموعات البيولوجية الجزيئي، مثل الـ “دي-أن-إيه” وغيرها. كذلك لم تكن الأسس الفيزيائية للكيمياء معروفةً في ذلك الوقت؛ حيث ابتدأت معالمها بالوضوح فقط بعد اكتشاف نظرية الكمّ في النصف الأوّل من القرن العشرين؛ ممّا أدّى إلى قفزةٍ هائلةٍ في فهمنا لطبيعة الأربطة الكيميائية بشكلٍ عميق.

يعني هذا التحليل أيضًا أننا لا نعرف مسبقًا إذا كنّا نستطيع الإجابة على كلّ الأسئلة العلمية التي أمامنا، حتّى بعد مرور وقت كبير، ولكنّه يعني أيضًا أنّ العلماء الذين يبحثون فيها يعتقدون أنّ هناك فرصةً جيّدةً للإجابة على الكثير من أسئلتنا. هذا النمط من التقدُّم العلمي جليٌّ جدًا أمام من يدرس تاريخ العلم؛ بالذات منذ الثورة العلمية التي حدثت في القرنين السادس عشر والسابع عشر وحتّى الآن.

ينطبق هذا التحليل أيضًا على سؤال نشوء الحياة على الأرض؛ فهناك احتمالٌ أننا قد لا نستطيع الإجابة عليه أبدًا. لكن ما يحدث اليوم هو أنّ هناك تقدمًا كبيرًا في الإجابة على الكثير من التساؤلات المتعلّقة بهذه المسألة الكبيرة.

يجب هنا التنويه إلى أمرٍ هام، علينا ألّا نُبَلبِل بين عدم القدرة على الإجابة على سؤالٍ علميٍّ معيّن في وقت ما، وبين الاستنتاج الجارف بأنّه ليس له إجابة علميّة، وذلك لأنّ مصدره فوق طبيعي. هذا خطأٌ فادحٌ يقع فيه الناس، ومنهم المفكّرون كثيرًا.

الخطأ في هذا النمط من التفكير له عدّه جوانب، أوضّح اثنين منها هما: أولاً؛ في الأغلبية الساحقة من الأسئلة العلمية التي طُرِحَت في التاريخ توصلنا إلى إجاباتٍ واضحةٍ ولو بعد قرونٍ عديدة؛ لهذا، وفي أغلب الحالات، ما لا نستطيع الإجابة عليه الآن سوف نحصل على إجابةٍ عليه في المستقبل.

ثانيًا؛ عندما نقرّر أنّ هناك سؤالًا لا يمكن الإجابة عليه؛ يتحوّل في كثير من الأحيان إلى سؤال غير شرعي، ويصبح مجرّد التفكير فيه ممنوعًا. نصل من هنا سريعًا إلى كمّ الأفواه واعتبار أي نوعٍ من التفكير والبحث من الممنوعات.

طبعًا؛ هناك بعض الأسئلة التي قد لا نستطيع أن نجيب عليها مبدئيًّا، وذلك لأنّ كلّ تفسيرٍ يتطلّب بدوره تفسيرًا؛ في سلسلةٍ لا نهائيةٍ (Infinite Regress) من التساؤلات والتفسيرات حتّى نصل إلى طريقٍ مسدودة. علينا عندها أن نقرّر أين تتوقّف هذه السلسلة من التساؤلات والتفسيرات، وهو قرارٌ فلسفيٌّ بطبيعته، لكن علينا أيضًا أن نُبقي هذا القرار في مساحة الشك والنقاش، ولا نتعامل معه كأمرٍ مقدّسٍ غير قابلٍ للتساؤل.

التولّد (Emergence)

نأتي الآن لإحدى أهمّ صفات قوانين الطبيعة التي لا يمكن من دونها فهم ظواهر الوجود المعقّدة؛ ألا وهي ما يسمّى بظاهرة التولّد أو الانبثاق. هناك أمثلةٌ كثيرةٌ على هذه الظاهرة؛ تظهر في جميع المستويات التي من الممكن أن نصف بها الواقع. أوضح الأمثلة عليها هي مثلًا علم الكيمياء بوصفها علمًا منبثقًا من الفيزياء، والبيولوجيا بوصفها علمًا منبثقًا من قوانين الكيمياء والفيزياء. سوف أتوسّع هنا في هذه الفكرة العامة، وأعرضها بشكلٍ مفصّلٍ قليلًا. سوف أركّز هنا بالذات على توجهي لهذه المسألة لأنّها من أكثر الأفكار إثارةً للنقاش في العقود الأخيرة. قبل الولوج في هذا؛ نبدأ بمثالين عن هذه الظاهرة: الأوّل من عالم الفيزياء والآخر من عالم الأحياء.

تعالوا نفكّر في صفةٍ فيزيائيةٍ للهواء في غرفة ما، الحرارة مثلًا. نعرف ماذا يعني أن تكون الحرارة في الغرفة مرتفعةً أو منخفضة. نشعر بذلك مباشرةً عند دخولنا إلى الغرفة، ونستطيع أن نقيس هذه الحرارة بواسطة “ميزان حرارة”؛ صُمّم خصّيصًا لمثل هذه المهمة. الحرارة لذلك هي قيمةٌ فيزيائيةٌ واضحةٌ بالنسبة لنا؛ لأننا نشعر بتأثيرها علينا بشكلٍ مباشر، لكنّ الغاز في الغرفة مكوّنٌ من ذرّاتٍ وجزيئاتٍ صغيرةٍ جدًّا (نيتروجين وأكسجين وقليلٍ من ثاني أكسيد الكربون)، هل هذا يعني أنّ لكلّ ذرةٍ من هذه الذرّات درجة حرارة معينة؟ بالتأكيد لا؛ إذ ليس هناك معنى فيزيائيٌ لحرارة ذرّةٍ واحدة، وذلك لأنّ الذرّة في الفيزياء الكلاسيكية تملك صفاتٍ داخليةٍ معيّنة، ولها كتلةٌ وسرعة، ولا معنى لمفهوم الحرارة بالنسبة لها. لهذا من الواضح أنّ مفهوم الحرارة يحمل معنى فقط عندما نتحدّث عن مجموعاتٍ كبيرةٍ جدًا من الذرّات. إذن الحرارة هي خاصيةٌ منبثقةٌ من قوانين الفيزياء الأساسية التي تحكم المجموعات الكبيرة من الذرّات، لكنّها تظهر لنا بشكلٍ مختلفٍ تمامًا عن تلك القوانين.

في الحقيقة كان هذا أهمّ الموضوعات البحثية في فيزياء القرن التاسع عشر؛ حين اكتشف العلماء[1] العلاقة بين الفيزياء الحرارية، وبين قوانين الفيزياء الأساسية التي تحكم حركة الذرّات والجسيمات الصغيرة. لهذا؛ صفاتٌ فيزيائيةٌ مثل الحرارة، والضغط، والكثافة، والرطوبة، والمساميّة، واللزوجة، والقساوة، وما إلى ذلك؛ هي أمثلةٌ واضحةٌ لصفاتٍ متولّدةٍ أو منبثقةٍ في الفيزياء. ذلك لأن ليس هناك معنى لهذه الصفات على المستوى الميكروسكوبي (Microscopic Level) أي على مستوى الذرّات التي هي مكوّنات المادة الأساسية، بل تكتسب هذه المقادير معناها فقط على المستوى الماكروسكوبي (Macroscopic Level)، أو المستوى العِياني؛ الذي يصف مجموعاتٍ كبيرةٍ من الذرّات والجزيئات.

يأتي المثال الثاني الذي أودّ ذكره من عالم الأحياء، ويتعلّق بمفهوم الإدراك. نعرف اليوم أنّ الإدراك ليس حصريًّا على البشر، بل هناك الكثير من الكائنات الحيّة التي تتحلّى بما نستطيع أن نسميه إدراكًا. من تلك الكائنات الكثيرُ من الثدييات؛ كالفيلة والقرود والدلافين والحيتان والكلاب والقطط، لكن أيضًا منها الطيور؛ كالغربان والببغاوات. كذلك، وربّما يكون هذا مفاجئًا للبعض، هناك كائناتٌ حيّةٌ بحرية تمتلك إدراكًا مثل الأخطبوطات؛ التي لا يقلّ إدراكها تطوّرًا عن الكلاب. هنا أيضًا نستطيع أن نجزم أنّ الإدراك هو صفة متولّدة؛ لأنّ الخلايا الحيّة التي تركّب هذه المخلوقات ليس لها إدراكٌ منفرد، وإنّما ينتج إدراكًا نتيجة تجمّعٍ معيّنٍ وخاصٍّ لعددٍ كبيرٍ من الخلايا؛ التي ينتج عنها تنظيمٌ وظيفيٌّ وأدائيٌّ مركّبٌ لدرجة أنّه يقفز بالكائن الحيّ الذي يملكه بشكلٍ نوعي. في الحقيقة؛ أغلب أنواع الكائنات الحية، مركبةً كانت أو بسيطة؛ مثل النباتات ووحيدات الخلية؛ لا تملك إدراكًا. إذن، الإدراك هو صفةٌ متولدّة؛ لأنّها تنبثق عن اصطفافٍ وتنظيمٍ وظيفيٍّ معينٍ عيانيٍّ -ماكروسكوبي، أي على أبعادٍ كبيرة- للخلايا التي تكوّن أجسام وعقول الكائنات الحيّة التي ذكرتها؛ بالذات الخلايا العصبية.

نستطيع أن نلخص أنّ التولّد هو ظاهرةٌ تحدث على مستوى طبقات الواقع المركبّة (مثل الغازات، الكيمياء، الحياة، الإدراك، العقل، المجتمعات، إلخ) التي تملك خصائصَ وصفاتٍ وبُنَى جديدةً خاصّةً بها ومختلفةً عن خصائص شرائح الواقع الأعمق الذي تنبثق منه، كذلك يصعب عادةً أن نتوقّع أو نتنبأ سلفًا بصفات هذه الشرائح المعقّدة من الواقع؛ والقوانين التي تحكمها؛ من مجرّد معرفتنا للمكوّنات الأساسية التي تسود القوانين الأساسية في الطبيعة والعلاقات بينها. تجدر الإشارة أنّ طبقات الواقع العميقة كثيرًا ما تكون أبسط من الظواهر المتولّدة، مثل بساطة قوانين الفيزياء نسبةً إلى تعقيد قوانين علم الأحياء، لكن هذا ليس صحيحًا دائمًا، مثال على ذلك؛ قوانين نيوتن للحركة هي قوانين متولّدة، لكنّها أبسط بكثيرٍ من قوانين نظرية الكمّ التي تحكم شريحة الواقع الأعمق.

أودّ أن أوضّح الآن ما أعنيه عندما أتحدّث عن “شرائح الواقع المختلفة”. كما ذكرت سابقًا، التوجه الذي أتبناه إجمالًا في رؤيتي للطبيعة -كذلك هنا- هو أنّ الواقع بكلّ أشكاله يشكّل وحدةً واحدة؛ أسمّيها “وحدة الطبيعة” (Unity of Nature)، لهذا عندما أتحدّث عن “شرائح الواقع المختلفة” لا أقصد أنّ كلّ شريحةٍ تصف واقعًا مختلفًا، إنّما أقصد أنّ هناك طرقًا مختلفةً من الممكن أن نصف بها هذا الواقع.

لتوضيح هذا دعونا نفكّر في الطريقة التي نتحدّث بها عن الماء؛ فكلّ ما نهتمّ به في حياتنا اليومية هو أنّ الماء هو سائل شفاف لا طعم له؛ نحتاج إليه لكي نعيش، لهذا نشربه عندما نعطش، عندما نطبخ، لتنظيف أجسامنا، وما إلى ذلك من صفاتٍ عامّة. لكننا إذا كنّا نريد أن ندرس الصفات الفيزيائية والكيميائية للماء؛ علينا أن نستعمل لغةً مختلفةً لوصفه، مثلًا علينا أن نذكر أن مبناه الكيماوي هو H2O، أي أنّ جزيء الماء يحوي ذرّتين من الهيدروجين وذرةً واحدةً من الأكسجين ترتبط ببعضها برابطةٍ تساهمية (Covalent Bond)، وله صفاتٌ قطبيةٌ تجعله مذيبًا جيدًا، وهو ليس حامضيًّا ولا قاعدياًّ، وما إلى ذلك من الصفات الكيميائية للماء. من الواضح أنّ هذين الشكلين لوصف الماء يتناولان نفس المادّة ونفس الواقع، وإنّما هما طريقتان مختلفتان لوصفه فقط.

مثالٌ آخر قد نفكّر به هو حركة السيارة. نستطيع أن نتحدّث عن حركة السيارة بالطريقة العادية اليومية؛  فنقول شغّلت السيارة بواسطة المفتاح، ودُست على دواسة البنزين لجعلها تسير؛ وما إلى ذلك، لكننا أيضًا نستطيع أن نصف هذه الحركة بشكلٍ أكثر تفصيلًا؛ حيث نقول إنَّ مفتاح السيارة يغلق الدائرة الكهربائية التي تؤدّي إلى إشعال شرارةٍ أولية. تشتعل الشرارة البنزين المخلوط بالهواء الموجود في حجرة الاحتراق بداخل محرّق الاحتراق الداخلي، بالتالي؛ يؤدّي هذا إلى ارتفاع الضغط كثيرًا في حجرة الاحتراق، مما يبدأ في تحريك المكابس (Pistons) الداخلية في المحرك؛ التي تنقل الحركة بواسطة أذرعٍ وعجلاتٍ مسننةٍ إلى دواليب السيارة، وإلى آخره. هنا أيضًا لا نحتاج الوصف الأخير عندما نتساءل عن حركة السيّارة في حياتنا اليومية؛ التي تمثّل شريحةً مركّبةً أكثر من الواقع. في نفس الوقت؛ تأخذنا الطريقة التفصيلية لوصف حركة السيارة إلى شريحة الواقع الأعمق الكامنة وراء هذه الحركة. هذان الوصفان صحيحان، ويتعاملان مع نفس الواقع، لكن أحدهما أبسط من الآخر وأكثر عمليةً في حياتنا اليومية، في حين أنّ الآخر أكثر عمليةً بالنسبة إلى الميكانيكي الذي يصلح السيارة مثلًا، أو إلى الميكانيكا الذي يدرس كيفية عملها.

يكشف الوصف الماكروسكوبيّ -العيانيّ، أي على أبعاد كبيرة- للواقع في كثير من الأحيان عن علاقاتٍ كان من الصعب أن نراها عندما نستخدم الوصف الميكروسكوبيّ -على أبعادٍ صغيرة- له، مثلما ذكرنا عندما تحدّثنا عن تولّد الحرارة من قوانين الحركة الكلاسيكية؛ إذ أنّه من الصعب أن نرى مسبقًا أنّه عندما نضع عددًا كبيرًا من الذرّات معًا سوف تُنتِج حركتها الداخلية صفة الحرارة، أو أن نعرف مسبقًا أنّ الكيمياء العضوية سوف تنتج من القوانين الأساسية للفيزياء، قبل أن نصل إلى شريحة الواقع التي تتكوّن بها الذرّات.

لهذا؛ نرى في كثيرٍ من الأحيان قوانينَ طبيعةٍ معينةً بشكلٍ أوضح عندما ننظر إليها بواسطة شريحةٍ معينةٍ من الواقع، ويصعب علينا أن نراها بوضوحٍ عندما ننظر إلى الواقع بواسطة شريحةٍ أخرى. نرى هذا بوضوحٍ كبيرٍ في القانون الثاني للثرموديناميكا التي سوف نتوسع بها في القسم التالي من الفصل.

يقسّم الفلاسفة والعلماء ظاهرة التولّد إلى نوعين، يسمى الأول بـ “التولّد الضعيف” (Weak Emergence). يعني هذا النوع من التولّد أنّ القوانين والأنظمة والعلاقات الجديدة التي تسود شرائح الواقع المركّبة تنبثق كليًا من القوانين التي تسود شريحةً أو شرائح الواقع الأكثر عمقًا؛ لهذا تعود كلّ هذه القوانين والأنظمة في الأصل إلى قوانين الفيزياء الأساسية وتنبثق منها. النوع الثاني من التولّد؛ يسمى بـ “التولّد القوي” (Strong Emergence). يعني هذا النوع إنّ العلاقات والقوانين والأنظمة التي تسود طبقات الواقع المعقّدة تحوي شيئًا أو أشياءً جديدةً بشكلٍ جوهري، ولا يمكن اختزالها إلى -أو تفسيرها بِواسطة- القوانين التي تسود شرائح الواقع الأعمق، أي أنّ شرائح الواقع المعقّدة تحوي قوانين جديدةً لا يعود أصلها إلى قوانين الطبيعة الأكثر عمقًا.

الفرضية الأساسية التي أتبعها، ويتبعها الغالبية الساحقة من العاملين في هذا المجال هي فرضية “التولّد الضعيف”؛ التي تقول إنّ الواقع لا يحوي نشوءًا سحريًّا لقوانينَ جديدةٍ عند كلّ شريحة من شرائحه، وذلك لأنّ هذه الشرائح ليست شيئًا جديدًا مختلفًا تمامًا، إنّما تمثّل هذه الشرائح نفس الواقع، لأنّ الواقع هو واقع واحدٌ وموحّد، أي أننا نتبنّى هنا مبدأ “وحدة الواقع” (Unity of Reality). هذا ما عبّر عنه الفيزيائيّ الشهير ستيفن واينبرغ Steven Weinberg عندما قال: “أسهم التفسير تتجه دائمًا نحو الأسفل”، أي في اتجاه قوانين الطبيعة الأساسية أكثر.

الحرارة هي مثالٌ واضح لهذا. اتّضح في القرن التاسع عشر أنّ الحرارة تعبّر عن الطاقة الحركية العشوائية للجسيمات والذرّات التي يتكوّن منها هذا الغاز، لهذا من الممكن تفسيرها على المستوى الميكروسكوبيّ على أنّها حركةٌ غير نظامية لجزيئات الغاز، لكنّها تظهر لنا بوصفها قيمةً “متولّدة” جديدةً على المستوى الماكروسكوبي.

تتعدّى ظاهرة التولّد قوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، بل تجد تعبيرًا عنها في كلّ مناحي الوجود الموضوعي، لهذا نرى في الطبيعة تطبيقاتٍ متعددة لمبدأ التولّد الضعيف؛ المرة تِلوَ الأخرى، من أهمّ هذه التطبيقات نشوء الحياة نفسها؛ التي يحاول العلماء المختصّون تفسيرها بواسطة قوانين الكيمياء، حيث يحاولون فهم كيفية قفز الكيمياء في حالاتٍ خاصّةٍ لتنتج البيولوجيا.

بناءً على ما عرضناه عن التولّد؛ هناك دلائلُ واضحةٌ أنّ ظاهرة الحياة نفسها هي تعبيرٌ عن هذه الظاهرة؛ حيث تنشأ هذه الظاهرة في ظروف معيّنة -بشكلٍ تلقائيّ- دافعةً إيّاها إلى ذلك قوانين الطبيعة، لهذا تطوّر في العقود الأخيرة مجالٌ كبيرٌ يبحث في أصول الحياة وكيفية ظهورها، وإن كان من الممكن أن نجدها في أماكن أخرى في الكون.

تدعم هذه الفرضية كميةً كبيرةً من الأدلّة والبيانات التجريبية الرصدية، لذلك هي ليست “مجرّد فرضية” تأتي من محض الخيال، بل لها أساسٌ متينٌ وجذورٌ عميقةٌ متأصّلةٌ في أرضيّة تجربتنا العلمية الغنية والخصبة. كذلك؛ تلعب هذه الفرضية المركزية دورًا كبيرًا في مجالاتٍ عديدةٍ من العلوم، وهي ليست حصرًا على مجال أبحاث نشوء الحياة؛ فهي على سبيل المثال قاعدةٌ أساسيةٌ في العلوم الطبية، والعلوم الصيدلانية، وفروع علم الأحياء المتنوعة، وغيرها.

تتعامل جميع هذه العلوم مع الحياة بوصفها ظاهرةً طبيعيةً من الممكن فهم الآليات الكيميائية والبيولوجية التي تحكمها، وتدرس ارتباط هذه الآليات ببعضها. أوضح الأمثلة على ذلك الأدوية التي تحتوي بمعظمها على مركّباتٍ كيميائيةٍ اصطناعيةٍ يعطيها الأطباء لمرضاهم، استعمال هذه الأدوية يعتمد بشكلٍ لا يقبل التأويل على هذه الفرضية.


[1] بالذات، الإسكتلندي جيمس كليرك ماكسويل، James Clerk Maxwell، والنمساوي فريدريك بولتزمان، Ludwig Boltzmann.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: سليم زاروبي

تدقيق لغوي: عبير الششتاوي

اترك تعليقا