“صوتُ الموسيقى”: ملحمةُ القرن العشرين السينمائيّة

يعتبر فيلم “صوت الموسيقى” (1965) من أعظم أفلام السينما الموسيقيّة في تاريخ السينما العالميّة، إن لم يكن أفضلها على الإطلاق. وقد توافرت عدة عوامل مختلفة ومتناغمة، على الرغم من تباينها، في جعل هذا العمل أكثر تميزًا عن أمثاله من الأعمال التي تنتمي إلى هذه النوعية من الأفلام. ولعل جمال صوت جولي أندروز الفريد، وخبرتها الطويلة في الغناء والتمثيل، بأكبر المسارح الموسيقيّة في أمريكا وانجلترا، كان من أهم العوامل التي رشحتها لبطولة هذا الفيلم والذي أخرجه روبرت وايس.

أما كلمات هذا البناء الموسيقيّ وألحانه، فقد كانت لرودجرز وهامرستين، اللذان أثمرت جهودهما المشتركة في أحسن ما كُتِبَ للمسرح الغنائيّ باللغة الانجليزيّة. ولعل الخلفيّة الطبيعيّة للدراما، والمتمثلة في جلال جبال النمسا وشموخها، المطِّلة على الوديان الخضراء والأنهار المتلألئة، فقد نجح المخرج في رسم لوحاتها من خلال لقطات بانوراميّة واسعة، ملأت فضاء الشاشة الفضيّة، وكأنها ثلاثيّة الأبعاد، تم التقاطها عن طريق كاميرات مثبتة على طائرات الهليكوبتر، ولا يُحييها سوى صوت جولي أندروز الستريوفونيك.

ولعل النص الأدبيّ ذاته قد نجح في إضفاء جو من الإثارة والتشويق والتعاطف مع عائلة صغيرة، مكونة من أب أرمل وأبنائه السبعة (صَبيّان وخمسُ فتيات، أكبرهم ليزا في السادسة عشر، وأصغرهم جريتل في الخامسة من العمر)، بالإضافة إلى مربيتهم ماريا، بطلة الفيلم، إذ يحاولون الفرار من ذوي القمصان البنية اللون.

أما الكوميديا الخفيفة في فيلم صوت الموسيقى فتنبع من التناقض بين طباع الأب، الذي اكتسب من مهنته، كضابط بحري، حبًّا للنظام، يصل إلى حد التزمت والشدة من ناحية، وبين أطفاله المحبين للمرح والغناء والموسيقى، والذين يجدون ضالتهم في المربية الجديدة التي نجحت فيما فشلت فيه معظم سابقاتها في تهذيب أولئك الأيتام وتنمية مواهبهم.

وتبدأ أحداث الرواية، وقد التحقت ماريا – بطلة الفيلم – بدير للراهبات، بعد أن نذرت نفسها لحياة التقشُّف والزهد، لم تكن لتتواءم مع حبها للحياة وموهبتها الموسيقيّة، وميلها الدائم للضحك والمرح. وأدركت الراهبات بذكاء أنّ قدرة ماريا على تحمل العزلة وحياة التأمل، درب من المحال على تلك الطالبة الضحوك المرحة. فأسرعت الراهبات بترشيح ماريا للوظيفة التي طلب منهم كابتن جورج فون تراب المساعدة في إيجاد حل عمليّ لها.

إعلان

فكان كابتن فون تراب، وبعد عدة محاولات فاشلة لإيجاد مربية صالحة تنجح في تهذيب سبعة أبناء، قد أعلن صراحةً أنّه لا طاقة له بتربيتهم بعد وفاة أمهم. وسرعان ما يتعلق الأطفال بالمربية الجديدة، بل ورأوا فيها أمًّا بديلة جديرة بشغفهم وامتنانهم لكل ما تعلموه عنها ومنها من حب للموسيقى وروح دعابة، وتعويض عن الحنان الذي طالما افتقدوه بغياب الأم وصرامة الأب.

وأمسى طبيعيًّا أن يهتم الأب، الحريص على مصلحة أبنائه، بتلك المربية على الرغم من ارتباطه بالخطبة بالبارونة ايلسا شريدر، صاحبة الأصول الأرستقراطية، والتي كانت تماثله في المكانة الاجتماعية. لكنه أدرك تدريجيًّا، وبمساهمة صغاره المولَعين بماريا، بأن سعادته الشخصيّة والعائليّة منوطة بحبه لماريا.

وتدور أحداث تلك الشبكة من العلاقات الإنسانيّة والعائليّة في إطار تاريخيّ وسياسيّ، في أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين، في جو ملبَّد بغيوم الحرب العالمية الثانية. فكان أدولف هتلر، والمؤمن بنقاء الجنس الآري وسيادته، قد وُلِد بالنمسا والتي أراد أن يضمّها إلى ألمانيا في اتحاد فيدراليّ قبيل التحرك لغزو أوروبا، والسيطرة على مقدرات العالم.

وفي عام 1938، أدرك فون تراب، المؤمن باستقلال النمسا التي كان أحد جنودها، بخطورة الموقف الذي يهدد بلاده، وبعد أن تم استدعاؤه رسميًّا للخدمة العسكريّة كقائد لإحدى بوارج الأسطول النازيّ. ونلاحظ، من خلال تتبعنا للحبكة الدراميّة لهذا الفيلم، أن رولف، العاشق الولهان لليزا، ابنة الكابتن الكبرى، كان قد انساق وراء الدعاية النازيّة، بل وبدأ يناصب فون تراب العداء، إلى درجة أنه حاول بقوة السلاح تهديد فون تراب وعائلته، عند محاولتهم – بمساندة راهبات الدير – الهروب عبر جبال الألب، وعبور الحدود إلى سويسرا، حيث الأمان من الأجواء الكريهة لحرب راح ضحيتها الملايين من الأبرياء في العالم أجمع.

يضم هذا الفيلم “صوت الموسيقى”، توليفة فريدة من قصة الحب، والإثارة، في إطار من البهجة والرقصات والأغاني في أحضان الطبيعة الخلابة. فاحتوى على مجموعة من أجمل أغنيات الأطفال التي انتشرت في حضانات العالم ومدارسها الابتدائية عن طريق حصص الموسيقى، مثل أغنية ماريا “دو ري مي” لتعليم الأطفال النوتة الموسيقية، وأغنية “راعي ماعز الجبل الوحيد”، وأغنية “وداعًا، إلى اللقاء”، وقد يعتقد الكثيرون أن تلك الحبكة الرومانسيّة للأحداث، ما هي إلا نتاج قريحة شاعريّة متقدة، إلّا أن الفيلم، في واقع الأمر، مأخوذ عن مذكرات ماريا فون تراب، التي نشرتها عام 1949 بعنوان “قصة مطربي عائلة تراب”، وذلك في أعقاب وفاة زوجها جورج فون تراب عام 1947، حيث قامت بنشر الكتاب دعمًا لفريق مطربي العائلة.

وفي عام 2010، احتفلت مذيعة التلفزيون الأمريكي أوبرا وينفري باليوبيل الفضيّ لظهور تلك التحفة الموسيقيّة، حيث عملت على لم شمل واستضافة أبطال الفيلم، جولي أندروز، وكريستوفر بلامر، و”أبنائهما” السبعة، باعتبارها أكثر عائلة في تاريخ السينما الأمريكيّة شعبيّة. وأظهر الكثير من ضيوف البرنامج امتنانهم لتلك التحفة الفنية، التي اعتبرها كل منهم نقطة فارقة ومصدر إلهام في التصدي لتحديات الحياة.

كما فاجأت المذيعة التلفزيونية الفذة جماهيرها العريضة باستضافة ماريا فون تراب الحقيقية، وكذلك أحفاد فرقة فون تراب الأصليّين الذين قدموا إحدى أغنيات الفيلم على مسرح البرنامج. وقد ساهم انتشار الفيلم على الأسطوانات المدمجة DVD في وصوله إلى الملايين من الأجيال الجديدة المتعاقبة، ليستمتع به الصغار والكبار على حد سواء.

واليوم، إذ نستهل العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، فلا شك أن شعبيّة “صوت الموسيقى” لدليل قاطع على قدرة الفن السابع على منافسة أعظم الكلاسيكيّات الأدبيّة والفنيّة باتخاذه الصوت والصورة أداةً للفن الرفيع، وحلمه الأزليّ بالحق والخير والجمال.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عصام الدين فتوح

تدقيق لغوي: أحمد المسيري

اترك تعليقا