زمن الوباء والبطل اللانمطي

في الأشهر التي تلت دعوات الإغلاق التي قامت بها كثيرٌ من الدول، بدأت مفاهيم جديدة لفكرة البطولة ومحاربة الوباء بالتكوّن داخلنا، فبدلًا من الحروب التقليدية التي اعتدنا أن تسود العالم، صارت الحرب من نوعٍ جديد تتضمن الانعزال وعدم التلامس مع كل ما هو بشري.
بدلًا من البطولة التقليدية بدأت تسود فكرة الـ Anti-hero، البطل المضاد أو البطل اللانمطي وماهيته، وقد صارت فكرة البطل التقليدي لا تتناسب مع الأحداث من حولنا.

مصطلح البطل اللانمطي (Anti-hero) بدأ في الظهور أدبيًا بوضوح في رواية (دستويفسكي) “رسائل من باطن الأرض“، ثم سرعان ما انتشر في المنتصف الثاني من القرن العشرين، رغم ذلك فإن بدايات المصطلح لها آثار كثيرة في الدراما الإغريقية القديمة.

بتغير المفاهيم الخاصة بالبطولة مع التغيرات التاريخية والاجتماعية والسياسية خاصةً في أزمنة الحروب والأمراض، صار الأدب على مر السنوات أكثر قدرة على تمثيل الموضوعات المعاصرة مثل الفشل والسلبية وانعدام اليقين وفقدان الأمل أكثر من مفاهيم البطولة التقليدية والبسالة المطلقة، وهكذا ازدادت قيمة البطل اللانمطي خاصةً بعد الحرب العالمية الثانية في الكتابات الواقعية والعبثية والوجودية.

تجلّت شخصية البطل اللانمطي بوضوح في مسرح العبث وخصوصًا في مسرح (بيكيت) وشخصيات (ويليام فوكنر) و(آرثر ميلر) أو الأبطال الوجوديين لـ(سارتر)، يمكننا أن نقول عن تلك الشخصيات أنهم “ليسوا أبطالًا” بالمعنى المتعارف عليه، وخاصةً في مواقفهم ومفهومهم عن الحياة وعن أنفسهم.

تبدأ نظرة الأفراد للحياة في التغير كاملةً عقب الأزمات الكبرى من حروب ومجاعات وأوبئة، فمثلًا لن يكون مسرح العبث مقبولًا بيننا مثلما كان بين الذين عاصروا الحرب العالمية الثانية وانهيار كل شيء من حولهم فجأة، لن نستطيع فهم الوجودية الحقّة دون التعرف على الأحداث التي كانت موجودة وقتها وكيف أدت إلى تشظّي الإنسان.

إعلان

الحديث عن البطل اللانمطي -من هو وكيف هو- ينتج حينما نتعرف أولًا على وجوده، البطل اللانمطي لم يعد هو الشخص الذي يملك القدرة على “الفعل” أو مقاومة أي حدث خارجي يقوم بتحديد مصيره، بل صار يظهر عادةً بصورة “الضحية”، لا يقوم بالفعل نفسه لكن يؤثر عليه العالم في أفعاله، هو ليس الممثل، بل صار أشبه بالدمية التي تتحكم فيها القواعد والعادات، أنتج واقع الحياة الحديثة تلك الشخصيات التي صارت ضحايا معزولة عن المجتمع الذي تعيش فيه، هي انعكاس لرؤيتنا الحقيقية لذواتنا.

مثلما كان دومًا هناك أنواعٌ مختلفة من الأبطال في مختلف العصور، فإن فترات ما بعد الحرب والأوبئة ولّدت شخصية جديدة لها وجهة نظر مغايرة للعالم، ومع انعدام الجدوى تشكّلت نظرة البطل اللانمطي السلبية للحياة.

أصبح البطل اللانمطي في القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين هو إجابة لانعدام اليقين بالقيم المتعارف عليها واستجابة لعدم أهمية الإنسان الحديث وتلاشي وجوده، القيم الأخلاقية نفسها صارت متغيرة، الناس يحاولون طوال الوقت إيجاد المعنى في ظل حياة محيّرة، يحاولون إنشاء نظامٍ في ظل عالم فوضوي لا يمكن التحكم به أو فهمه، صار البطل اللانمطي هو النموذج الجديد لعصرٍ بلا بطل.

مثل واقعنا الآن، تحولت العديد من المجتمعات من قبل إلى البطل اللانمطي لتحقيق رغباتهم في خلق بطل إنساني واقعي، قادر على تحقيق الخير ولكنه معيب، مثل أي إنسان، ولتحقيق هذه الرغبة استبدل كُتّابُ منتصف القرن العشرين البطلَ المثالي بالبطل اللانمطي الحداثي، تبنى (سارتر) و(بوفوار) هذا الاتجاه كما هو واضح في “الغثيان” لـ (سارتر)، فـ (روكنتين) هو البطل الوجودي الذي قادته محاولات اختراق حجاب الإدراك إلى مزيج من الاشمئزاز الوجودي والتعجب، هو بطل مغاير من خلال يأسه وعزلتِه متعددةِ الأوجه.

كنتيجة مباشرة لهذا المزج بين الرواية والفلسفة، ابتكر الروائيون الوجوديون أبطالًا “لم يعد وجودهم حياة، بل قدرًا”، أصبح الموقف تجاه الوجود الإنساني -كما قال (ويليام فوكنر) في روايته “الصخب والعنف”- يكمن في المعاناة نتيجةً للمصير غير المحدد الذي لا يمكننا السيطرة عليه، وهكذا في الوقت الذي تزايدت فيه المشاعر الداخلية المليئة بخيبة الأمل، طوّر الكُتّاب “البطل الوجودي اللانمطي” الذي لا غاية له.

اعتاد الناس على التحدث عن البطولات العظيمة أثناء الحروب، العدو الذي يحاربونه، شجاعة وبسالة الجنود والناس في التغلب على الأمر أو حتى هزيمتهم، التغني بالقدرات الخارقة التي تنبت وسط الأحداث الملحمية، لكن لم يعتادوا وباءً وعدوًا خفيًا لا يراه أحد، ما هو غير معتاد يربكهم، وباء يستشري وسط الناس جميعًا مهددًا حياتهم أو في أفضل الفرص مهددًا حياة أحبائهم، لم يعد هناك مجالٌ للبطولات أو التحدث عن أبطال خاضوا معارك ما، انقلبت صورة البطولة المتعارف عليها لتصير أشبه بالبطل اللانمطي، البقاء في المنازل منعزلين وحيدين دون أي قدرة على “الفعل” هو الحل للقضاء على هذا العدو الغامض غير المفهوم، لا بطولة نتشاركها، لا وجود حتى للحظات إنسانية مشتركة خارج المنزل، مجرد القدرة على تحمّل حالة الملل والقدرة على الانعزال أكثر فأكثر هو ما يحتاجه الأمر، تفكيك يحدث لأفكارنا الملحمية وتنعكس على مستقبل تقديرنا لجدوى الأفراد والحياة.

في محاولات التعايش وسط الوباء المحيط بنا يسعى الفرد لمحاولات إعادة صياغة ذاته، ويكون له الاختيار في السعي من أجل تلك الذات الفريدة والأصيلة أو الذات التي هي كالبطولة المثالية المتوافقة مع المعايير المتعارف عليها، وإذا اختار المرء السماح للمعايير التقليدية بتشكيل كيانه، فإن الفرد ينكر أصالته ولا نمطيته ويقوم بمحاولات التعايش مع حياةٍ غير حقيقية.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: جيلان الشمسي

تدقيق لغوي: سلمى الحبشي

اترك تعليقا