راسبوتين وأسطورة الراهب الذي لا يموت

ربّما تعرف الأغنية الشهيرة التي تحمل اسمه، أو سمعت عنها في مكان ما، أو لاحظت شهرة شخصٍ يُدعى راسبوتين؛ يذكره البعض بوقارٍ واحترام، والبعض برهبة رجلٍ عظيم، وآخرون يرونه أضحوكةً ومادّةً للسخرية، ومثالًا لتأثير الجهل والفقر على الناس. فمن هو راسبوتين وما سبب شهرته الواسعة؟

من هو راسبوتين؟

يُعتقد أن جريجوري راسبوتين وُلد في عام ١٨٦٩م في سيبيريا أقصى شمال روسيا لعائلةٍ فقيرةٍ من المزارعين، ولم يتلقّى التعليم الكافي وربّما لم يتعلّم حتّى القراءة والكتابة، لكنّ أهل قريته البسطاء دائمًا ما ذكروه في محادثاتهم؛ فطبقًا لهم امتلك الطفل قدراتٍ خارقة، وعُرف بالطفل المعجزة القادر على تحقيق المعجزات وشفاء المرضى وربّما مباركة الناس.

يُقال إنه حين كان بعمر الثانية عشر قد تمكّن من حلّ قضية سرقة حصانٍ في القرية؛ حيث تنبّأ بوجود الحصان في منزل أغنى رجال المدينة، وأنّ الأبقار أنتجت أضعاف الكمّية الطبيعيّة من اللبن عند وجوده بجوارها، وامتلك قدرةً غريبةً في تهدئة الحيوانات والتعامل معها بسهولة.

كان يُعتقد أنّ اسمه يعني “الفاجر”، لكن حديثًا تغيّرت آراء المؤرّخين إلى أنّه غالبًا يعني “موضع التقاء نهرين” نسبةً للمنطقة التي وُلد بها في سيبيريا.

منذ طفولته وكان راسبوتين مفتونًا برجال الدين وأعمال الكنيسة، وأراد أن يكون منهم في يومٍ من الأيّام، وبالفعل انضمّ إلى أحد الأديرة بعمر التاسعة عشر على أن يصبح راهبًا، لكنّه ترك الدير سريعًا رغبةً في الزواج.

إعلان

وعُرف عنه سوء الطباع كذلك ودخوله الدائم في مشكلاتٍ وشجاراتٍ في الحانات، وربّما الاعتداء الجنسيّ أيضًا، وكثرت مغامراته النسائيّة في كل اتّجاه.

وبالفعل تزوّج امرأةً تُدعى Proskovia Fyodorovna وأنجب منها عددًا من الأطفال، لكنّه غادر عائلته بعد ذلك بسنواتٍ قليلة، وسافر إلى اليونان والشرق الأوسط وكذلك إلى عدد من رحلات الحجّ للأراضي المقدّسة في القدس.

بعدها عاد إلى روسيا، ويُعتقد أنّه انضمّ لمجموعةٍ مسيحيّةٍ أو اعتنق مذهب يشجّع على ارتكاب المعاصي، يقول كلّما كان الإنسان عاصيًا كلما اقترب من الله، فكان يقضي أيامه في شرب الخمر، وينام في منازل البغاء، واشتهر بكونه يمتلك شهيّةً جنسيّةً خياليّة.

ارتدى راسبوتين ملابس الرهبان ونصّب نفسه رجل دين، وأخذ على عاتقه مهمة التبشير ونشر الدين في أنحاء روسيا؛ فكان يمرّ على القرى والمدن ويدّعي رغبته في غسل معاصي النساء بالنوم معهم وتخليصهم من الذنوب، وبفضل الكاريزما الهائلة وقدراته على الإقناع؛ تبتعه أعدادا كبيرة، وذاع صيته في كل مكان.

وفي بلاد مهلهلةٍٍ ومتأخّرةٍ مثل الامبراطورية الروسية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين؛ دولةٌ متأخّرةٌ عن باقي أوروبا بقرون، وتعيش في عصر اضمحلالٍ وتراجع. كانت مهمة راسبوتين غايةً في السهولة، وتبعه البسطاء والسذّج والفقراء، وسريعًا أصبح من أشهر رجال الدين هناك، وعُرف عنه تحقيق المعجزات وشفاء المرضى، وخرافاتٍ عديدةٍ ومتنوّعة.

الطريق إلى الشهرة

وصل صيته أخيرًا إلى العاصمة، ووجدت سمعته طريقها إلى قلب بيوت النبلاء والطبقات الأرستقراطية، والذين كعادتهم في البلاد المتأخرّة؛ يكونون أكثر عرضةً للإيمان بالخرافات والشعوذة، وأصبح شبه مقيمٍ في منازلهم، حتّى قامت إحدى النبيلات بتقديمه إلى قريبتها الملكة زوجة القيصر؛ على أساس أنّه وليٌّ من الأولياء الصالحين ورجل دين صادق.

في إحدى الخطب في الكنيسة عام ١٩٠٣ تنبّأ راسبوتين بميلاد وريث العرش الذكر الذي طال انتظاره في خلال عام واحد فقط، وبالفعل جاء ولي العهد “أليكسي” في عام ١٩٠٤؛ ممّا وطّد علاقة راسبوتين بالقصر الملكيّ، وثبّت سمعته كأهمّ رجال الدين هناك، وأكّد قدرته على التنبؤ ورابطه مع الذات الإلهية.

ومرةً أخرى؛ يُشاع أنه بينما كان يتناول الغداء مع الملكة ويحدّثها عن العناية الإلهية؛ حتّى توقف فجأةً وصرخ “إنه في الغرفة الزرقاء”، وأسرع كلاهما إلى غرفة البلياردو الزرقاء حيث وجدوا الأمير الطفل على وشك فقدان حياته، لكن راسبوتين أنقذه في آخر لحظة عندما حمله بعيدًا عن موضع سقوط حملٍ ثقيل من الأعلى!

لكنّ يوم سعده كان عندما عانى الطفل بشدّةٍ من أعراض الهيموفيليا، وهي حالةٌ دائمةٌ تسبّب نزيفًا شديدًا في حالة إصابة المريض بأيّ جرح، وفشل الأطبّاء والمعالجون في وقف النزيف المستمرّ الذي هدد حياة ولي العهد، حتّى تمكّن راسبوتين بشكلٍ ما من وقف النزيف وإنقاذ الأمير، ومن بعدها أصبح القيصر وزوجته رهن إشارة الراهب.

لا أحد يعلم بالضبط كيف كان يتمكّن في كلِّ مرةٍ من إيقاف النزيف، ربّما كانت معجزةً حقيقيّةً أو قدراته على شفاء المرضى، أو كما يُعتقد حاليًا أنه كان يعمل على خفض ضغط دم الطفل، وبالتالي تقليل النزيف، أو عزوفه ورفضه لعقار الأسبرين الجديد، الذي كان يستخدم في تسكين الآلام، واكتشفوا بعد ذلك أنّه مضادٌّ لتجلّط الدم، ويساعد على سريان الدم؛ ممّا يؤدي لتفاقم نزيف مرضى الهيموفيليا!

وتبعه قطيعٌ من التابعين وراغبي البركة عُرفوا ب Rasputinki؛ حيث تجمّع المئات يوميًّا حول منزله في العاصمة، وانتظروا لما يزيد عن ثلاثة أيامٍ هناك لمقابلته.

خمس عشرة دقيقة من الشهرة

بحلول عام ١٩١١؛ عزّز راسبوتين قبضته على القيصر عن طريق السيطرة على زوجته، وبادّعاء الإلهام الإلهيّ لم تستطع المقاومة، وبينما كان القيصر نيكولاس الثاني صاحب شخصيّةٍ ضعيفة، ولا قِبَلَ له بالحكم أو تولّي السلطة؛ فكان ينحاز لأوامر راسبوتين بضغطٍ من زوجته.

وارتفعت أسهم الراهب راسبوتين في كلِّ مكان، وانتشرت الأقاويل أنّه المتحكّم الحقيقيُّ في روسيا وكلُّ الأوامر تصدر منه، وتوالت عليه الهدايا والعطايا طمعًا في توسّطه أو لتأدية خدمةٍ ما من الحكومة، ومن تقع عليها عينه تقوم بمشاركته الفراش كالعادة.

لكن مع هذه الشهرة والصيت كَثُر أعداؤه أيضًا، ونجا من محاولات اغتيالٍ عديدة، عزا البعض الفضل في ذلك لقدراته الغير عاديّة؛ ممّا كان يعزز الأسطورة، وقام بعدها بتعيين أصدقائه في المناصب العليا، وإبعاد من يحاول مواجهته. كان أحد أولئك الذين واجهوه وحاول التخلّص منهم هو عمّ القيصر الذي كان شديد الارتياب من راسبوتين وهدّده ذات مرّةٍ بالشنق، لكن في عام ١٩١٥ نجح في إقناع القيصر أن يعزل عمّه من قيادة الجيش، على الرغم من أنّ البلاد كانت في ذلك الوقت منخرطةً في الحرب العالمية الأولى. قيل أيضًا أن راسبوتين كان يستغلّ الحرب لمصلحته المالية الخاصّة؛ حيث تقاضى رشاوٍ في مقابل نقل جنودٍ من جبهة القتال!

وانتشرت إشاعاتٌ عن علاقته الغرامية مع الملكة، رغم استبعاد المؤرخين ذلك، لكنّه تفاخر بتلك العلاقة في إحدى المرّات بينما كان مخمورًا في أحد المطاعم، رغم ذلك رفضت الملكة تصديق ذلك، وادّعت أن أحدهم تنكّر في هيئة راسبوتين في محاولةٍ لإفساد سمعته، لكن الفضيحة طاردت كلاهما مدى الحياة، وتسبّبت في تشويه سمعة العائلة الملكية.

ثم ادّعى البعض أن الملكة ذات الأصل الألمانيّ كانت تعمل مع راسبوتين لصالح بلدها الأم في الحرب العالمية، وأنّ الراهب هو المتسبّب في ذلك، وفي يونيو ١٩١٥؛ تجمّعت حشودٌ في الميدان الأحمر في موسكو مطالبين بإعدام راسبوتين، وعندما اشتكى حاكم المدينة إلى القيصر من الاضطرابات التي تسبّب فيها راسبوتين؛ قام القيصر بعزل الحاكم فورًا في وجهه!

راسبوتين الذي لا يموت

تآمرت مجموعةٌ من النبلاء بقيادة أميرٍ يُدعى “فيليكس يوسوبوف” للتخلّص من الراهب المجنون الذي انتهت سلطة عائلته بوجوده وسيطرته على القيصر، وفي الثلاثين من ديسمبر ١٩١٦م؛ دعا الأمير ُراسبوتين لتناول العشاء في منزله، وبعد تناول وجبةٍ ثقيلةٍ من المُفترض أن تحتوي على سمّ السيانيد، وبشكلٍ مثيرٍ للدهشة لم تظهر على راسبوتين أيّ أعراضٍ على الاطلاق.

ثمّ شرع الرجال في إطلاق النار على راسبوتين؛ الذي نجا وفقًا للأسطورة، وكان لا يزال يتنفّس بعد وابلٍ من الرصاص، ولم يمت إلا بعد أن أُلقي به في نهرٍ جليدٍّي ليغرق، ومع ذلك قيل إنّه لم يمت حتّى في النهر، وربّما كان لا يزال حيًّا حتى العثور عليه، لكن المثبت بعد العثور على الجثّة أن سبب الوفاة هو رصاصةٌ في الرأس.

لكن تأثير راسبوتين لم ينتهِ مع مقتله؛ فبعد وفاته بأشهر قليلةٍ قامت الثورة الروسية في مارس ١٩١٧؛ فقد وصل الفساد معدّلاتٍ غير مسبوقةٍ خلال وجوده؛ في دولةٍ كانت تعاني من الفقر والظلم والطبقيّة بشكل أسوأ من العصور الوسطى، وبسبب الحرب العالميّة الأولى انتشرت مجاعاتٌ وأزماتٌ اقتصاديّةٌ طاحنةٌ مثّلت نهاية روسيا القيصرية، وتنازل القيصر عن عرشه، والذي تدمّرت سمعته بفضل راهبه الناصح.

وقضت العائلة الملكية ستّة أشهرٍ في الحبس المنزليّ قبل أن تقوم الحرب الأهلية ويُعدم القيصر وعائلته من الأطفال والنساء على يد الشيوعيين في يوليو ١٩١٨، كما كان قد تنبّأ راسبوتين من قبل: أنّه في حالة اغتياله شخصيًّا؛ ستكون نهاية القيصر وعائلته!

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: عبير الششتاوي

اترك تعليقا