ذاكرة الجسد… أحلام مستغانمي في حب الوطن

هذه الرواية التي قال عنها نزار قباني:

دوختني وأنا نادرًا ما أدوخ أمام رواية من الروايات وسبب الدوخة أن النص الذي قرأته يشبهني إلى درجة التطابق“.

وُلدت أحلام مستغانمي، الروائية الجزائرية عام ١٩٥٣م، وكان والدها محمد الشريف من أبطال ثورة الجزائر وقد سُجن طويلًا، وفي سبعينيات القرن الماضي  انتقلت مستغانمي  لتعيش في فرنسا ، حيث تزوجت من صحفي لبناني، وحصلت على درجة الدكتوراة من جامعة السوربون، كما حصلت روايتها البديعة “ذاكرة الجسد” الصادرة عام 1993 على جائزة نجيب محفوظ (1998)، واختارتها منظمة الأمم المتحدة لتكون سفيرة اليونسكو من أجل السلام. وتُعَد أحلام مستغانمي من أكثر الكاتبات العربيات تأثيرًا ومؤلفاتها الأكثر رواجًا، ولها دورٌ عظيمٌ في مناهضة العنف بشكل عام ومناهضة العنف ضد المرأة بشكل خاص، فهي دائمًا مدافعة قوية عن حقوق المرأة على جميع المستويات.

لم يُكتب الكثير عن أحلام مستغانمي في وطننا العربي، ولم تأخذ هذه الكاتبة حقّها في المديح، فدائمًا ما يأتي اسمها مقترنًا في عالمنا العربي بالعشق والحب، وأحيانًا ينتقدها الكثير في بلادنا العربية بأن كتابتها فجة وبها إباحية. وللأسف تأتي هذه التحليلات النقدية ظالمة ومسطّحة وفارغة من عمق الكتابة، بينما تتمحور تجربة الكتابة عند أحلام مستغانمي حول الوطن. فتجربة أحلام مستغانمي فريدة وملهمة، فمثلها مثل الكثير من أبناء الجزائر، لغتها الأولى هي اللغة الفرنسية، أما اللغة العربية هي اللغة الثانية التي تعلمتها في المدارس، وعلى الرغم من هذه الحقيقة المؤلمة، إلا أن احلام مستغانمي أصرت أن تكون كتاباتها بالعربية، أصيلة وناعمة ذات مفردات مميزة، وجمل وعبارات فصيحة، تسلسل أفكارها بمزيج محبب من تجربة ناجحة لتزاوج الثقافة الفرنسية الأنيقة مع أصالة الثقافة العربية، مع الحفاظ على الصلابة التي يتسم بها أهل الجزائر.

تأتي رواية “ذاكرة الجسد” كملحمة، أو كقصيدة حب وحنين للوطن، فالعلاقة بين بطليها وكأنها علاقة عشق صوفية، يشوبها حنين دائم، فتبدو الرواية للوهلة الأولى وكأنها قصة حالمة ورومانسية بين فنان وحبيبته التي تصغره بأعوامٍ كثيرة. ولعلها مجرد قصة حب جميلة، تزخر بمشاعر الاشتياق والرغبة، قصة حب يتخلله الحرمان والتحمل. فخالد، ذلك الفنان الرسام، يقع في غرام ابنة مثله الأعلى وقدوته سي طاهر، ولكن الحبيبة، مع القراءة المتعمقة المتأنية، وعند التأمل والتدقيق، هي الوطن المفقود، فتشعره حبيبته بالحنين وافتقاد الجذور؛ فأبطال أحلام مستغانمي في صراع دائم بين العيش الأوروبي والجذور العربية، بين الغرب والشرق، بين الانفتاح والانغلاق.

وتعيد الكاتبة وتزيد من جمال وأصالة مدينة قسطنطينة، فلا تأتي على ذكر الجزائر ولو مرة واحدة، فقسطنطينة هي الوطن، هي الجزائر. وتتردد كلمة القسطنطينة مئات المرات، فهي الوطن والكفاح، وهي الحب والجرح الذي لا يندمل.

إعلان

ولا يذكر خالد اسم حبيبته إلا نادرًا، لأن حبيبته أو معشوقته ما هي إلا الوطن، والعلاقة بينه وبين الحبيبة أو الوطن، علاقة معقدة للغاية والمشاعر متناقضة وجيّاشة، فحبّه يبدأ بقمة النشوة والحنين ثم ينقلب على الحبيبة، فيغضب وينقم عليها، ويغار عليها، فيحبها، ثم يكرهها، يتلهف عليها ثم يلفظها.

وقد ضحّى خالد بالكثير من أجل وطنه، ففقد يده التي بُتِرت وهو يكافح من أجل تحريره، وإذ ينتظر المقابل، يناظر رد الجميل، يناظر من حبيبته أن تبادله حبه وتضحياته، إلا أن حبها دائمًا ما يأتي شحيحًا، فهي المرأة اللعوب التي لا تُصرِّح بحبها، وتكتفي بالتدلل بفن. ورويدًا، ومثل الوطن فإنها تخذله. ويصف خالد حياة بأنها الحبيبة، وهي وطنه، وهي جذوره، وهي المرأة الفاتنة التي تلوّنت وخانت، فتنتابه نوبات من الهذيان والجنون، تصل إلى أوجها مع نهاية الرواية، مع اكتشافه خيانة حياة له، فقد تلوّثت وتلوّنت واختارت أن تتزوج من رمز آخر، رمز من الفاسدين والسارقين لأحلام الوطن.

وأحلام مستغانمي ظاهرة لغوية، فعربيَّتُها تأتي بانسيابية وتتخللها عبارات كثيرة بالدارجة الجزائرية، لتمزج بين الفصحى والعامية، مما يثري التجربة، ويضفي عليها نكهة عربية أصيلة، وتأتي مفردات أحلام قاطعة وحزينة وجميلة في آن واحد، تشعرك بانقسام الوطن العربي وضياعه. فالرواية التي كتبت منذ سنوات طويلة، ما هي إلا ذاكرة الوطن العربي، ذاكرة جسد تقطَّع وانقسم وتمّ بتره، فخالد هو العروبة البائسة، وهو الأمل الضائع والمبتور، مبتور اليد مثل بطلها خالد.

ورموز أحلام كثيرة وجميلة، فعلى مدار صفحات الرواية، تجعل القارئ يتصور لوحات الجسور المتكررة في أعمال خالد، الذي يتمتع بشغف رسم الجسور، خاصةً جسور قسطنطينة. فأحلام مستغانمي، مثل بطلها خالد، تعيش في الغرب لكنَّ روحها معلّقة بالشرق وبالوطن. فالجسر هو همزة الوصل بين الشرق والغرب، بين فرنسا والجزائر، بين عالمين لا يتقابلان، والجسر هو الحلم، الذي يعكس حالة الاضطراب والتناقض، وهو ما يرسمه خالد على أمل الوصل والتّواصل بالوطن. إنّ الجسر هو ذاكرة الماضي والحاضر، وحالة مضنية من البحث عن الذات، ورحلة البحث الأبدي، فالجسر هو الوسيلة أو السراب الذي يصالحه على روحه، فقد اغترب خالد وبَعُدَ، وإن ظلت روحه معلقة بجسور وطنه.

وتأتي نهاية الرواية حزينة ومحبطة، فخالد قد وصل لقمة جنونه وهذيانه، ويقرّر أن يُهدي أغلى لوحة لديهِ، وهي لوحة الجسر، للحبيبة الفرنسية، وكأنه يقطع كل صلته بالوطن الذي خذله يرقص رقصة موت، فحبيبته الفرنسية لا تُقدِّر هذه اللوحة، ولا تفهم ولعه بالجسور.

والحبيبة الفرنسية هي محاولة هروب من حنينه للوطن وخذلانه، ولكنّ كاثرين، التّي عاش معها،  لم تتمكّن من الاستحواذ على وجدانه. وعلى الرغم من أنّه مارس معها الحب، وتلاصق مع جسدها، إلّا أنها لم تستطع أن تسلبه روحه، فروحه وقلبه مع الوطن، ذلك الوطن المقدس الذي لا يمسه، ذاك الوطن الذي لا يستطيع أن يتلمّسه أو يصل إليه، فيما تظل حياة هي الوطن والحب الحقيقي، وهي فرحه وحزنه، وهي ابنته وأمه، وهي معشوقته التي أتعبته وخذلته، وعلى الرغم من  الغربة والبعد، تظل هي الحب، فيعيش بذاكرة جسده.

نرشح لك: رواية أطياف كاميليا.. المرأة بين التمرد والانكسار

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: نهاد حلمي هليل

تدقيق لغوي: أحمد المسيري

تدقيق علمي: دينا سعد

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا