دروس نتعلمها من نابوكوف: العثور على الحرية في لغة أجنبية
راجية حسيب تتحدث عن إتقان لغة ثالثة
أمتلكُ نسخةً عمرها تسعة عشر عامًا من رواية “دعوة إلى جلسة قطع الرأس” لنابوكوف. أقدّرُ عمرها هذا عن طريق “الباركود” على غلافها الخلفيّ، والذي يذكرُ اسمَ المكتبة التي ابتَعتُها منها، مكتبة “Borders”. كانت المكتبة تقع في الطابق الأرضيّ من مركز التجارة العالمي، وقد زرتها مرات عدة خلال الشهور الثمانية عشر التي قضيتها في نيويورك، حينما وصلت من مصر في نوفمبر من عام 1998م. أحاول استعادةَ تلك اللحظة حين وقفت أمام قسم الروايات في مكتبة Borders أتفحص الرفوف، حتى وقعت عيني على رواية نابوكوف، أظنّ أن العنوان أثار فضولي، ولم أدرك في تلك اللحظة -وكنت أبلغ الثالثة والعشرين- كم ينبّئ شراء رواية لنابوكوف في مركز التجارة العالمي بمستقبلي.
أعجَبتُ بنابوكوف قبل أن أقرأ كتبه بمدةٍ طويلة. كنت قد عدت إلى الدراسة في سنّ الثانية والثلاثين، راغبةً في تغيير مهنتي، ودراسة الأدب الإنكليزي. أومأتُ بنبراتٍ من الرهبة الخافتة موافِقةً كلما ذكر أحدهم “لوليتا”؛ إذ لم يكن إعجابي به نتيجة تأثير أسلوبه في الكتابة، أو تلاعبه المذهل بالتناص، أو بمواضيعه الجريئة. عندما سمعت باسمه، لم أكن أعرف عنه سوى أنه رجلٌ روسيّ كَتَبَ باللغة الإنجليزية. وعندما وجدت نفسي محاطة بطلّابٍ أمريكيين يبلغون نصف عمري، ويملكون -كما ظننت- صلةً فطريةً باللغة الإنجليزيّة لن أحظى بها أبدًا -تشبّثتُ بنجاح نابوكوف في القيام بما أتوقُ إليه.
غالبًا ما كان الاستماع إلى أقراني يتحدّثون بطلاقةٍ وبدون لكنة غريبة كافيًا حتى يغرقني في الشكّ، ويجعلني أتساءل عن الحماقة التي جعلتني أترك مهنة الهندسة المعمارية من أجل كتابة الأدب باللغة الإنكليزية، وفي لحظات اليأس تلك كان مجرد التفكير في أن نابوكوف كتب بلغته الثانية سببًا كافيًا لأحبّه.
حتى في ذلك الحين، كنت مدركة للمغالطة المنطقية التي غذّت هذا العشق، تمسّكتُ مع ذلك بالحياة عبر خطّ رابط وهميّ بيني وبين نابوكوف، رغم أن هشاشة هذا الرابط تبعث على السخرية؛ حيث كان مهاجرًا مثلي، وقد كتب بالإنجليزيّة، وعلى ما يبدو سيترتّب على ذلك أنّني سأفعل الشيءَ نفسه. عرفت أن المنطق كان مغلوطًا، إلا أنني لم أكترث لذلك.
كنت أطارد حلمًا جامحًا لدرجة أنّني تشبثتُ طواعيةً بأرقِّ ظلٍّ من الأمل من أجل معقوليته. أردت منذ بلوغي السابعة أن أكون كاتبة؛ فقد كتبت ونشرت بعض القصص القصيرة باللغة العربية حين كنت أعيش في مصر، ولم أتوقع يومًا أن ينتهي بي المطاف في أمريكا. بعد وصولي إلى أمريكا بخمس سنوات جلست إلى طاولةٍ في شقة مؤلفة من غرفتَيْ نومٍ في لوس فليز، ودوّنتُ في دفتر ملاحظاتي الحججَ المؤيِّدة والمعارضة للتحوّل إلى الكتابة باللغة الإنجليزيّة.
كان في قلب معضلتي سؤالٌ أخلاقيّ، وهو: هل مسموح لي أن أعتنق لغة تعرّفتُ إليها في الصف الرابع وتعلمتها كلغة أجنبية ثانية (بعد الألمانية)، وأن أدّعي أن الإنجليزيّة لغتي دون أن يكون ذلك حقًا مكتسبًا لي منذ الولادة؟ وأي سلطة كنت أخشاها؟ من يقرّرُ ما يمكنني فعله وما لا يمكنني؟ هل كتابة الأدب بلغةٍ أجنبيّةٍ أمرٌ ممكِنٌ حتى؟ هل قام أحدهم بالأمر من قبل؟
صادفتُ في وقتٍ لاحقٍ العديدَ من المؤلّفين الذين كتبوا بلغةٍ أجنبية، كثير منهم كُنّ نساء من أصول عربية، لكن الاسم الوحيد الذي تبادَرَ إلى ذهني في ذلك اليوم من العام 2006م وأنا جالسة إلى طاولةٍ مستعارة في شقة مفروشة في لوس فليز كان اسم نابوكوف.
في لحظاتِ اليأس تلك، كان مجرد التفكير في أن نابوكوف كتب بلغته الثانية سببًا كافيًا لأحبه.
بِتُّ أعرف الآن أنّه من الخطأ افتراض أنَّ الأشخاصَ العظماء هم أشخاصٌ طيّبون. قرأت بما فيه الكفاية عن نابوكوف واستخفافه بالكاتبات من النساء لكي أُكبِح جماح إعجابي به، لقد زعم بأنهنّ من “طبقةٍ أخرى”، ولا أعتقد أنه اعتبرهن من طبقةٍ راقية. رغم ذلك، فما زلتُ ممتنّة له، حتى أنّني قررتُ أثناءَ كتابة روايتي الأولى “In The Language of Miracles” جعْل شخصيّة الرواية الرئيسيّة مسحورةً بالفراشات تكريمًا لنابوكوف. خلت أنّ الحشراتِ الرقيقة والملونة ستشكّل رابطًا آخرًا هشًّا بيني وبين الرجل الذي أعطاني الأمل حين كنت في أمسّ الحاجة إليه، والذي أكدت لي أعمالُه على قدرة المؤلفين على الكتابة بلغاتٍ أخرى، بل وباستطاعتهم إتقانها حتى يصبحوا “أحد مؤلّفي النثر البارزين في القرن العشرين” كما هو مذكور على الغلاف الخلفي من نسختي من رواية “دعوة إلى جلسة قطع الرأس”.
والآن، بينما أجلس في منزلي غرب فيرجينيا، ترفرف بمحاذاة نافذتي فراشة. يا للعجب! أرى ذلك أيضًا كعلامةٍ على أنّني كنت على حقٍّ حين تعلقتُ بحلمي الشجاع.
بعد أن سلّمت المسودة النهائية لروايتي الثانية “A Pure Heart” إلى محرّري، اضطررت إلى العودة إلى نابوكوف. كنت حينها سددت جزءًا من الفجوة المحرجة في معرفتي به، وذلك بقراءة العديد من كتبه، لكني لم أكن قد قرأت “دعوة إلى جلسة قطع الرأس” بعد. عندما حمَلتُ الكتابَ بين يديّ بعد سنوات طويلة، شعرت بشيء من الحنين إلى نفسي التي تبلغ الثالثة والعشرين، تخيلت نفسي وأنا صغيرة، مهاجرة جديدة، واقفة أمام الرفوف في مكتبة “Borders” أختارُ روايةً كتبها مهاجرٌ روسيّ عن رجلٍ مدان، غير مدركة أن مركز التجارة العالمي سوف ينهار بعد سنتين من ذلك اليوم، وأنّي سأقضي مع عدد لا يحصى من المسلمين الأمريكيين وقتًا طويلًا في الاعتذار عن هذا الحادث، دون أن أعرف أنّني سوف أنشر روايات باللغة الإنجليزية.
لكن لعبةَ الجهلِ والمعرفة تلك هي ربما جزء من نظامي الرمزيّ للإرادة الذاتية. في رواية “دعوة إلى جلسة قطع الرأس”، يكتب السجينُ سينسيناتوس: “أعرف شيئًا، أعرف شيئًا، لكنّ البوحَ به أمرٌ صعب. كلا، لا أستطيع. أودُّ الاستسلام، لكنّني أشعرُ وكأننّي أغلي من شدة الغضب، أشعر بوخزٍ من النوع الذي يقودك إلى الجنون إذا لم تبُح به بطريقةٍ ما”.
“كنت لأصاب بالجنون لو لم أُفصِح عن كل ما أدركته وعانيته أثناء تعلم الكتابة، لو لم أتعلم هذه اللغة التي أحبّها رغم أنها ليست لغتي الأم، لو لم أتوسّل إليها حتى تبادلني هذا الحب حتى آوي إلى شرنقتها في العام 2019م بينما كنت أعيش واقع حياة المهاجرين المرير. أجلس إلى مكتبي، أكتب وأطارد فراشات نابوكوف، وأرغب في إعادة تشكيل نفسي. أقول لنابوكوف الذي لم يكن ليوافق ربما أو حتى يهتم بكتاباتي: شكرًا لأنّك فتحت هذا الباب الذي أعبره الآن.
الآن أرسمُ طريقي.