دراسة موجزة حول رسالة “حي بن يقظان”.. لماذا هي درة من درر الأدب العربي؟
حي بن يقظان هي قصّةٌ فلسفيّةٌ عربيّة، كان أوّل من صاغها ابن سينا (ت ٤٢٨هـ)؛ إذ استلهمَها بينما كان في سجنِ قلعةِ همدان، ثمّ تلقّاها الفكرُ العربيُّ على نطاقٍ واسع؛ فتناقلَها النُساخُ والكُتّاب، وقد أعادَ صياغَتها بعد ابن سينا بقرنين الفيلسوف الأندلسي “أبو بكر بن طُفَيل” (ت: ٥٨١هـ) الذي استبقى عنوانَها وأخرجها من طورِ القصّةِ إلى طورِ الرواية. وكان نَصُّ ابنُ طفَيل هو الأكبرُ شهرةً ودويًّا والأوسعُ انتشارًا من بين صياغاتِها الأربعة؛ ففي قريبٍ من زمنِ ابنِ طُفَيل؛ أضافَ “شهابُ الدين السهروردي” (ت: ٥٨٧هـ) فصلًا ثانيًا من (حي بن يقظان) ليطيلَ هذا العملَ الإبداعيّ، وجعل الفصلَ بعنوانِ “الغُربة الغربية”. ثم عاودَ الكتابةَ العلّامةُ “ابن النفيس” (ت: ٦٨٧هـ) بنفسِ الإطارِ الروائيِّ لحي بن يقظان باختلافِ العنوانِ والمحتوى. فمثلت ابداعًا أدبيًّا مُمتَّدًا في التراثِ العربيِّ الإسلامي. أمّا بالنسبةِ لمقالنا هذا؛ فإنّه سيتناولُ نصَّ ابن طفيل على وجهِ الخصوص.
الأمرُ المميّزُ في قصّة ابن طُفيل هو القالبُ الأدبيُّ الإبداعيّ الذي وضعَ فيه أفكارَه الفلسفيَّةَ والمتصوّفة؛ مما جعلَ القارئَ حاضرًا في كلّ جوانبِ الرواية، وكذلك تنقّل ابن طُفَيل في الأساليبِ المختلفة ِفي السرد؛ فيبدأ محدّثًا مخاطبَهُ عن نشأة ِ “حي بن يقظان” بأنَّ هناك امرأةٌ كان أخوها ملِكًا، وكان يمنعُها عن الرجالِ وعن الزواج، فعرفَت تلك المرأةُ رجلًا يسمّى “يقظانًا” وأنجبت منه طفلًا، وخافت على طفلِها فألقته في اليَمّ – الذي يذكرّنا بقصة سيدنا موسى عليه السلام- فجرفتهُ المياهُ إلى جزيرةٍ استوائيّةٍ معتدلةٍ وخصبة، نشأ فيها بجوارِ ظبيَةٍ أرضعَتهُ؛ فكانت كالأمِّ بالنسبة له. ومن ثمّ بعد ذلك يروي الرأيَ الآخرَ الذي تقاولَهُ الناسُ عن حي بن يقظان حول أنَّه قد تخلَّقَ ذاتيًا باجتماعِ العناصرِ الطبيعيَّة مع بعضها، ويتحدّث عن بعضِ الأمورِ النظريَّة، ولم يُرجِّح أحدَ الرأيين، بل اكتفى بعرضِهِما.
وبعد ذلك ننتقلُ بالأسلوبِ السرديِّ الروائيِّ عن نشأة حي بن يقظان الفطريّةِ بين الطبيعة، ثم تأتي اللحظةُ الفارقةُ لحي بن يقظان التي ينبثِقُ منها وعيُه: عندما تموتُ الظبية، ويقومُ بتشريحِ جثّتِها ليبحثَ عن علّةِ سكونِها ليصلحَها، ومن هُنا تبدأُ تساؤلاتُهُ عن أمرِ الموتِ والحياة، الجسدِ والرّوح، ومعانٍ أكثرَ وأكبر؛ فيمرُّ عمرُهُ في التأمُّلِ والتعلُّم، وتتكوَّنُ لديه الفِكَرُ والحقائق؛ فيلجأُ لتشريحِ الحيواناتِ لستنبطَ أوجُهَ الشبَهِ في العلَلِ المختلفة، ويتفحّصُ النباتَ والأحجارَ والماءَ والتراب، وتارةً ينظرُ إلى الفَلَكِ والقمرِ والنجوم، وتتكوّنُ لديه الحقيقة: أنّه لابُدَّ من وجودِ روحٍ غير الأجسام، و أنَّ كُلَّهم لابُدّ لهم من خالقٍ واجد؛ هذا الذي أوجدَ ذاتَهُ التي وَعَت به:
“وقد كان تبيَّن له أن أدركَهُ بذاتِه، ورسخَت المعرفةُ به عنده، فتبيّنَ له بذلك أن ذاتَه التي أدركَهُ بها أمرٌ غيرُ جسمانيّ، ولا يجوزُ عليه شيءٌ من صفاتِ الأجسام، وأنَّ كلَّ ما يدركُهُ من ظاهرِ ذاتِهِ من الجسمانيّة فإنّها ليست حقيقةَ ذاتِه، وإنّما حقيقةُ ذاتِهِ ذلك الشيءُ الذي أدركَ به الموجودَ المطلقَ الواجبَ الوجود”.
ويصلُ ابنُ طُفَيل ببطلِهِ إلى أعماقِ التصوّف، ومن خلالِ جولاتِ “حيٍّ” وتفكُّرِهِ في السماءِ والأرضِ والصفاتِ الإلهية؛ أخذ ابنُ طفيل يسردُ تأمُّلاتِه وأفكارَه عن الكثيرِ من القضايا.. ويصلُ ابن يقظان في النهايةِ إلى أن يرتقي بفكرِه ويَصير عابدًا زاهدًا.. لذلك يمكنُنا القولُ أنَّ “حي بن يقظان” بمُجمَلِها تعبِّرُ عن الوعيِ الإنسانيِّ في نموِّه وارتقائِه.
“وعَلِمَ إن علمه بذاته؛ ليس معنى زائدًا على ذاتِه، بل ذاتُهُ هي عِلْمُهُ لذاتِه؛ وعِلْمُهُ بذاتِه هو ذاتُه، تبيّنَ لهُ أنّهُ إن أمكنَهُ هو أن يعلم ذاته، فليس ذلك العلمُ الذي عَلِمَ به ذاتَه معنى زائدًا على ذاتِه، بل هوَ هو!”
أمَّا في الجزءِ الأخير؛ يعرضُ قضيَّةَ الصلَةِ بين الفلسفةِ والدينِ بحكايةِ الصديقين “أبسال” الذي كان يميلُ للزهدِ والتصوّف، و”سلامان” الذي كان فقيهًا في الدين ويميلُ إلى الاختلاطِ بالناس، واللذان كانا يعيشان في الجزيرةِ العامرِة بالسُّكانِ التي كانت قريبةً من جزيرة “حيّ ابن يقظان”، ويرتحلُ “أبسال” إلى جزيرةِ حيّ لكي ينعَزِل، وهناك يلتقيان ويتفاهمان، ويعلِّمُ “أبسال” “حيًّا” الكلام، ثم يتعرَّفُ منه على تأمُّلاتِه وأفكارِه، ويقرِّرُ “حيّ” الذهابَ إلى الجزيرةِ العامرةِ لكي يعلّمَ الناسَ بما عرفَه، ويذهبان بالفعل، وهناك تحدُثُ جملةٌ من المواقفِ الدراميّة -التي صاغَها ابن طفيل ببراعة وابداع الأديب-، ويقرِّرُ كلاهما العودةَ إلى الجزيرة، كلٌّ منهُما في عُزلَتِهِ وتأمُّلاتِه حتى يتوفَّاهُما الله.
شهرة حي بن يقظان
لاقَى هذا العملُ البارزُ في الأدبِ العربيِّ نجاحًا وصيتًا كبيرين حتَّى في الغربِ غيرِ الإسلامي؛ فتُرجِمَ إلى العبريّة في القرنِ الرابعِ عشر الميلادي، وثمّ إلى اللاتينيّة وعُرِفَ باسم: “philosophus autodidactus” أي: “الفيلسوفُ المعلِّمُ نفسَه” ولحقتها العديد من الترجماتُ اللاتينيّةُ الأخرى ثم إلى الانجليزيّةِ “the improvement of human reason”والهولنديّةِ والألمانيّةِ والأسبانيّةِ والفرنسيّةِ والروسيّة.. وقد قيل بتأثُّرِ العديدِ من الأعمالِ الأدبيّة بها بعد ذلك: مثل قصة (النقّادة) لجراسيان و(روبنسُن كروزو) لدانيال ديفو و(طرزان) لإدجار بوروز، و(كتاب الأدغال) لكبلنج وغيرها؛ لتصبحَ رسالة”حيّ بن يقظان” من أهم الكلاسيكيات المُلهِمَةِ على مرّ العصور المُخْتلِفة.
المراجع رسالة (حي بن يقظان) - ابن طُفَيل، المكتبة الشاملة (نسخة رقميّة). تراث الإسلام (القسم الثاني)؛ فصل التصوّف، تصنيف: شاخت وَبوزورث/ تعريب: د.حسين مؤنس، إحسان صدقي العمد - سلسلة عالم المعرفة ١٩٧٨م. حي بن يقظان: النصوص الأربعة ومبدعوها، تأليف: د. يوسف زيدان.