دخل ثابت للجميع بلا شروط ! هل يحقق الفيروس حلم العدالة الاجتماعية؟

منذ عدة سنوات كنت أتجادل مع أحد الأصدقاء حول أولويات الإنفاق الحكومي، وبينما كنت أرى تقتيرًا في موضع الكرم وإسرافًا فى موضع الترشيد، كان الصديق يرى غير ذلك، حتى سألني مستنكرًا: أتريد أن تعطي الحكومة الناس “دخل ثابت” من الأموال سائلة فى أيديهم بلا مقابل ولا عمل؟
فلما كانت أجابتي “بنعم” أوقف الحوار فورًا وهو يظنني غير جاد، ولكنني لم أكن أمزح ايضًا.

هل يمكننا منح دخل ثابت للجميع حول العالم اليوم ؟

نشهد اليوم اضطرابات اقتصادية واسعة لا تكاد تنجو منها أي دولة صغيرة أو كبيرة أو أي قطاع اقتصادي، نتيجة انتشار فيروس كورونا واضطرار الحكومات حول العالم لإيقاف الأنشطة الاقتصادية المتنوعة كليًا أو جزئيًا، الأمر الذي يتهدد القوى العاملة حول العالم بالعوز والعجز عن سد احتياجاتهم الأساسية، خاصة وأن الجائحة تسببت فى أزمة ركود عالمية هي الأسوأ منذ عقود، ولا يتوقع الاقتصاديون انفراجة قريبة .

ولهذا صعدت إلى السطح من جديد المطالبة بتطبيق فكرة اقتصادية ثورية قائمة على أن تقوم الحكومات بمنح مواطنيها دخل ثابت يكفي الاحتياجات الأساسية بغض النظر عن دخلهم الفعلي وكونهم يعملون أم لا!

كانت الفكرة تبدو غاية في الغرابة وقت طرحت منذ سنوات، ولم تكن مبررات توفير سقف حماية للمواطنين من تقلبات السوق الحر الذي قد يجعلهم عاطلين في أي وقت، ورفع مستوى معيشة الأكثر فقرًا لحمايتهم من الانحراف والجريمة وعواقب الفقر المدقع كافية لقبولها، خاصة وأن تكلفتها الضخمة تستلزم إعادة تشكيل النظام الضريبي وطريقة إنفاق الدولة بطريقة جذرية. ولكن اليوم، حين تطالب الحكومات عموم الناس بالبقاء في المنازل، تكتسب تلك الفكرة رونقًا، ومنذ ساعات وافق الكونجرس الأميركي بعد صراع سياسى حادّ، على خطة طوارىء تتضمن تقديم حزمة مساعدات بقيمة تتخطى 2 ترليون دولار لمواجهة كورونا، من ضمنها مبلغ 290 مليار دولار لتقديم مساعدات نقدية لملايين العائلات الأمريكية بمعدلات 1200 دولار للبالغ و 500 دولار للطفل.

تطور فكرة الدخل الثابت للجميع في الغرب .

وإن كانت جذور تلك الفكرة ظهرت فى الغرب فى القرن السادس عشر على يد توماس مور، ثم في أواخر القرن التاسع عشر على يد توماس سبنس وتوماس بين، باعتبار أن ضمان دخل ثابت للكافة يحمي المجتمع من استغلال الأغنياء وتسلطهم على الفقراء، الذين يتحولون تحت الاضطرار إلى عبيد اقتصاديين، فلا يكون لحرياتهم السياسية أو العقائدية معنى وقتها، ولا يمكنهم الحفاظ على كرامتهم وشجاعتهم. إلا أن الفكرة تم طمرها في القرن العشرين باعتبارها أقرب للشيوعية من الليبرالية التي ترسخت فى الغرب، ولم تظهر بقوة إلا فى أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية 2008 م، وفي العقد التالي تمت العديد من التجارب المحدودة للفكرة في كندا وفنلندا والهند وغيرهم، ولكن المحاولة الأكبر لتطبيقها كانت من خلال استفتاء أُجري في سويسرا 2016 لتطبيقها على كامل البلاد، ولكن غالبية المواطنين رفضوا تطبيقها وقتها.

إعلان

ومؤخرًا أعلن مرشح الرئاسة الامريكية 2020 أندرو يانج دعمه لفكرة دخل ثابت ، كما دعمها مؤسس الفيس بوك مارك زوكربيرج، ورئيس تسلا أيلون ماسك، وإن كانا أسسا دعمهما على رؤية مستقبلية أن الاعتماد على الإلكترونيات والروبوتات سيقلل من فرص العمل للبشر بدرجة كبيرة في المستقبل الكبير، مما يجعل حصول كافة البشر على دخل ثابت أساسي كافٍ ضرورة، حتى لا يتعرض الاقتصاد لموجات كساد وركود، نتيجة زيادة حجم الإنتاج عن القدرة الشرائية للمواطنين، ولم يكن دعمها للفكرة لأسباب اجتماعية أو أيدولوجية.

الدخل الثابت في الفقه الإسلامي

وقد يتعجب البعض أن قلنا أن هذه الفكرة التي تبدو اشتراكية حمراء، لها فى الفقه الإسلامي لهذا الأمر أصول عميقة.
ففي السنة الأولى من عهد أبي بكر الصديق ظهر الفائض المالي من مال الخراج لأول مرة فى الدولة الإسلامية الناشئة، فقسم أبو بكر المال بين الناس بالتساوي على الصغير والكبير، الحر، والمملوك، والذكر والأنثى بلا تفرقة، فكان نصيب كل فرد سبعة دراهم وثلث، ثم ارتفع نصيب الفرد فى العام التالي إلى 20 درهم.

وفى عهد عمر ارتفع الفائض، فأنشأ ديوان العطاء، ورتب الناس منازل، فجعل لأزاوج النبي والعباس إثنا عشر ألف درهم، وللحسن والحسين وقدامى المسلمين من المهاجرين والأنصار ممن شهد بدر، خمسة آلاف درهم، ومن لم يشهدها أربعة آلاف، ولأبناء المهاجرين والأنصار ألفين، وسائر الناس ثمانمائة درهم. ويذكر الإمام أبو يوسف أن عمر في آخر عهده اتجه إلى أن يساوي بين الناس في العطاء، ولكنه توفي قبل نهاية العام.

ولكن هذا الوضع سرعان ما تغير، فمع صعود الأمويين ارتبط العطاء بالولاء، فكان يُمنح بناء على موافقة الأفراد والقبائل لسياسة الأمويين، والاصطفاف معهم ضد أعدائهم، ويُمنع ممن لا يبدون حماسة في الدفاع عن الدولة. وتدريجيًا، انسحبت الدولة من دور كفالة الحياة الكريمة لسائر أفرادها، من خلال العطاء الذي استأثر به العسكريون والشعراء وموظفو الدولة ومقربوها بلا حساب ولا قواعد ثابتة، ولكن الفقه لم يتجاهل المسألة كما تجاهلتها الدول.
وقد تناول الفقة الإسلامي المسألة من باب مصارف الزكاة والخراج والفيء، فاتفقت كلمتهم على أن لا يترك أحد لا يجد كفايتة من الاحتياجات الأساسية، واختلفوا في الكيفية.

فنجد الشافعي يقول: (وينبغي للإمام أن يحصي جميع ما في البلدان من المقاتلة وهم من قد احتلم، أو قد استكمل خمس عشرة من الرجال، ويحصي الذرية، وهم من دون المحتلم ودون خمسة عشرة سنة، والنساء صغيرهن وكبيرهن، ويعرف قدر نفقاتهم وما يحتاجون إليه في مؤناتهم بقدر معاش مثلهم في بلدانهم، ثم يعطى المقاتلة في كل عام عطائهم، والذرية ما يكفيهم لسنتهم من كسوتهم ونفقتهم طعامًا، أو قيمته دراهم أو دنانير، ويعطى المنفوس شيئًا ثم يزاد كلما كبر على قدر مؤنته، وهذا يستوي في أنهم يعطون الكفاية ويختلف في مبلغ العطايا باختلاف أسعار البلدان وحالات الناس فيها).

ومثل ذلك نجد ابن حزم يقول: (وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكوات بهم، ولا في سائر أموال المسلمين، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر، والصيف والشمس، وعيون المارة).

وبينما ذهب بعض المالكية والحنابلة إلى إعطاء الفقير من أموال الزكاة كفاية السنة، و تُجدد فى كل عام بحسب حاجته، نجدالنووي يقول: (قال أصحابنا في الفقير ماذا يعطى من الزكاة)، فإن كانت عادته الاحتراف، أعطي ما يشتري به حرفته أو آلات حرفته قلت قيمة ذلك أم كثرت، ويكون قدره بحيث يحصل له من ربحه ما يفي بكفايته غالبًا تقريبًا، ويختلف ذلك باختلاف الحرف والبلاد والأزمان والأشخاص وقرب جماعة من أصحابنا ذلك، فقالوا من يبيع البقل يعطى خمسة دراهم أو عشرة ومن حرفته بيع الجواهر يعطى عشرة آلاف درهم مثلًا إذا لم يتأت له الكفاية بأقل منها، ومن كان تاجرًا أو خبازًا أو عطارًا أو صرافًا، أعطي بنسبة ذلك، ومن كان خياطًا أو نجارًا أو قصارًا أو قصابًا أو غيرهم من أهل الصنائع، أعطي ما يشتري به الآلات التي تصلح لمثله، وإن كان من أهل الضياع يعطى ما يشتري به ضيعة أو حصة في ضيعة تكفيه غلتها على الدوام. قال أصحابنا فإن لم يكن محترفًا ولا يحسن صنعة أصلًا ولا تجارة ولا شيئًا من أنواع المكاسب، أعطي كفاية العمر الغالب لأمثاله في بلاده، ولا يتقدر بكفاية سنة. قال المتولي وغيره: يعطى ما يشتري به عقارًا يستغل منه كفايته. قال الرافعي: ومنهم من يشعر كلامه بأنه يعطى ما ينفق عينه في مدة حياته. والصحيح بل الصواب هو الأول، هذا الذي ذكرناه من إعطائه كفاية عمره هو المذهب الصحيح الذي قطع به العراقيون وكثيرون من الخراسانيين، ونص عليه الشافعي وذكرت البغوي والغزالي وغيرهم من الخراسانيين، أنه يعطى كفاية سنة ولا يزاد، لأن الزكاة تتكرر كل سنة فيحصل كفايتة منها سنة سنة، وبهذا قطع أبو العباس ابن القاص في المفتاح والصحيح الأول وهو كفاية العمر).

فيمكننا القول أن خلاصة الموقف الإسلامي هو عدم جواز ترك الناس يعانون الفاقة، ووجوب كفالة الاحتياجات الأساسية للحياة الأدمية للكافة، سواء قامت الدولة بذلك أو نظم المجتمع نفسه للقيام بهذا الدور إن تقاعست عنه، وإن كان ذلك الفقه قد خفت مع العصور الحديثة ولا يتم ذكره، فربما يكون الوقت ملائم لإعادة النظر فيه بوضع حلول عملية تناسب العصر ومقتضيات الواقع، وضمان الحد الأدنى من الدخل اللازم للمعيشة للجميع، وإن كان يبدو مفرط التكلفة للوهلة الأولى، إلا أنه بالتدقيق يظهر مقدورًا عليه، فإن أردنا وضع نموذج عملي، نجد تحويل دعم الغذاء والطاقة (يتم إهدار نسبة كبيرة منهم، وبالاضافة إلى سوء التوزيع يضاف إليهم تكلفة التوزيع والرقابة عليه بدون ضمان، لوصول الدعم لمستحقيه المقصودين) إلى دعم نقدي وسداد الفارق بضريبة عادلة التوزيع، واقتصاد فى النفقات السيادية له عظيم الاثر في إنعاش السوق، ورفع القوة الشرائية للمواطنين الذين يصبح لديهم فائضًا ينفق على الكماليات والتحسينات، ويزداد بقدرة الادخار والاستثمار، بالإضافة إلى حماية المجتمع من غوائل الفقر وتوابعه الجسيمة.

هل مازلت تري فكرة “دخل ثابت للجميع” غريبة؟

الأزمات عادة قاطرة التغيير، والمحن عادة أبواب الحلول غير التقليدية، وهذه المرحلة فرصة لإعادة النظر في الكثير من الأمور، كحقوق الملكية الفكرية للأدوية، والتي تمثل عائقًا أمام استعمالها على نطاق واسع، حيث تغالي الشركات المالكة لحقوقها فى أسعارها، وكذلك علاقات العمل و اقتسام الأدوار بين الدولة والمجتمع المدني الذي أصبح مطالبًا بأداء الكثير من المهام، بينما يكاد يحظر وجوده في العديد من الدول، ولدينا الكثير من الوقت لاستغلاله في التفكير. فربما تكون هذه الفترة المفصلية في التاريخ الحديث فرصة لنا ولغيرنا لتغيير واقع لم نسهم في تشكيله إلا بأدنى قدر ممكن.

*المصادر
كتاب الخراج للأمام ابي يوسف ص 53 وما بعدها
المحلي بالاثار للأمام ابن حزم ص303
الام للإمام الشافعي ج4 ص 162
المجموع للإمام النووي ج6 ص 194
https://www.usatoday.com/story/money/personalfinance/2020/03/29/stimulus-check-heres-how-use-your/2935290001/
https://en.wikipedia.org/wiki/Basic_income
https://news.stanford.edu/2018/08/08/stanford-scholar-explores-pros-cons-basic-income/

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أحمد فتحي سليمان

تدقيق لغوي: مصعب محيسن

اترك تعليقا