ديفا فرنسية من حواري شبرا
يطلق تعبير “ديفا” Diva عادةً على أيّ مطربة أوبرا ذائعة الصّيت وتمتاز بحضور طاغٍ في الوسط الفنيّ، متمتّعةً بشهرة عالمية وإعجاب شعبي متميز. استعارت نجمات الموسيقى الشعبية اللقب مؤخّرًا، بحيث ينطبق على مطربات شهيرات من أمثال أيديث بياف، وسيلين ديون في يومنا هذا. ولعلّ السّبب في وصف داليدا بالدّيفا يعود للمكانة العالميّة التي تبوّأتها في النّصف الثاني من القرن العشرين. وتنافست إذاعات العالم من فرنسا وكندا، إلى أوروبا جمعاء، على إذاعة أغنياتها، بل وعبرت البحر المتوسط إلى الشّرق الأوسط، حيث نالت مكانًة مُتميّزًة نَدَر أن يفوز بها مطربٌ عالميّ.
صُدِم عشّاق الموسيقى والغناء صباح يوم 4 مايو/آيار عام 1987م، بخبر وفاة نجمتهم المحبوبة داليدا، إثرَ تعاطيها جرعًة زائدًة من المُهدّئات، مع رسالة مقتضبة جاء بها:
أرجو أن تسامحوني، فما عدت أطيق تحدّيات ومآسي حياتي الظّالمة.
كان الخبر صادمًا بالنّسبة لما خبروه وعرفوه عن نجمتهم المُفضّلة، فداليدا الخمسينيّات كانت أعظم من احتفى بالحبّ في أغان مثل Histoire de l’Amour، وPortofino، وعُرِفت بروحِ الدّعابة في أغنياتٍ مثل Itsi Bitsi، وParole Parole، والتّي صاحبها في أدائها المُمثّل العالميّ آلان ديلون، الذّي كان قد ارتبط بها في علاقة عاطفية في بداية مشوارهما الفنيّ، كما كانت داليدا رمزًا للجمال الأنثويّ الفائق، وراقصة استعراضيّة من الطّراز الأوّل، طالما ساهمت أغانيها في المناسبات البهيجة والاحتفالات الرّاقصة.
ولدت الفنانة الفرنسية يولاندا كريستينا جيلوتي Yolanda Christina Gigliotti في 17 يناير/ كانون الثاني 1933م، لعائلةٍ إيطالية بحي شبرا الشّعبيّ بالقاهرة، ولم تكن طفولتها سعيدة بأيّ حال من الأحوال، إذْ أُصيبت بمرضٍ في عيونها استلزم عدّة عمليّاتٍ جراحيّة، مما فرض عليها فتراتٍ من الظّلام، امتدّت لشهورٍ، كما عانَت من تنمّر أقرانها بالمدرسة، إلى درجة أنْ كرهت النّظّارات الطّبية التّي نصح بها الأطباء المعالجون. ولعلّ العامِلَ الأوحد الذّي خففّ من وطأة إحساسها بالظُّلمات، وانعزالها وانطوائها، كان استمتاعها بموسيقى آلة الكمان التّي كان والدها يُتقِنُها، ورأت فيها الطفلة خير عزاء. إلّا أنّ الطّفلة لم تنعم طويلًا بموسيقى والدها والحنان الذّي كان يسبغه عليها، فقد صدر مرسوم عسكريّ بريطانيّ إثر قيام الحرب العالميّة الثّانية، بالقبض على كلّ الرّجال المقيمين بمصر لجنسيّات ألمانيّة أو إيطاليّة بالاحتجاز القسريّ بمعسكراتِ اعتقالٍ قاسيةٍ، وعزلهم كُلِّيًة عن ذويهم وأصدقائهم. فوجئت داليدا ووالدتها بالجنود الإنجليز يقتحمون منزلهما الصّغير، ويلقون القبض على والدها المسكين الذّي لم يكن له بالسّياسة أو دول المحور أيّ علاقة من قريب أو بعيد. فما كان جيلوتي إلّا لاجئاً، قد هرب من الفاقة وشظف العيشِ في بلده الأمّ إيطاليا، وجاء إلى مصر حالمًا بالسّتر له ولأسرته الصّغيرة.
وباختفاء ربّ العائلة، عانت عائلة داليدا الأَمريّن، فبالإضافة إلى العوز الماديّ، عانت الأسرة من القلق على مستقبلها ومصير عائِلها الوحيد. وفوجئت الأسرة، بعد شهور من المعاناة بأنّ الأب العائد من معسكر الاعتقال كان شخصًا موسوسًا، غليظَ الطباع، عنيفًا في تعامله مع ابنته وزوجته، إلى درجة التّهديد البدنيّ لكلتيهما، حتّى أنّ حبَّ الطّفلة لأبيها الفنّان تحوّل إلى كراهيةٍ بلغت حدّ أنّها كانت تدعو الله أن يُخلّص العائلة منه ومن شروره. وحين قضى الله أمرًا كان مفعولًا بوفاة ذلك التّعس، انتابت داليدا مشاعر مُتناقضة، ما بين الحبّ وعقدة الذنب التّي طالما عانت منها طوال حياتها.
ومنذ نعومة أظافرها، عشقت داليدا السّينما، وحلمت بأن تُصبح نجمًة مشهورًة في يوم من الأيًام. ظهرت موهبة داليدا في الغناء وهي لاتزال تلميذةً في المدرسة، وذلك في مسابقة من مسابقاتِ المواهب، ممّا اجتذب بعض المخرجين والمنتجين لإعطائها أدوارًا غنائيّة صغيرة في بعض الأفلام. واشتركت داليدا عام 1954م في مسابقة ملكة جمال مصر، وفازت باللّقب، إلّا أنّ العدوان الثّلاثي على مصر عام 1956م حال دون تمثيلها لمصر في المنافسة على اللّقب العالميّ. وهاجرت داليدا بُغيةَ تحقيق حُلمِها إلى فرنسا، حيث درست أصول الغناء، وبدأت بالفعل بالغناء في الملاهي اللّيليّة بشارع الشانزليزيه بالعاصمةِ الفرنسيّة، واستضافها مسرح الأوليمبيا الشّهير، حيث غنّى أعظم مطربيّ فرنسا من إيديث بياف إلى شارل أزنافور، وقد شاركت الأخير- بالإضافة إلى جيلبير بيكو- الغناءَ على خشبة المسرح العتيق.
نجحت داليدا خلال تلك الفترة في تسجيل أغنيات مثل Gondoliers، وBambino، محقّقةً شعبيّة منقطعة النّظير في فرنسا وكندا ولوكسمبورج في آن واحد. وقد احتفظت أُغنيات داليدا لثلاثة عقود بتلك المكانة المُتمّيزة، ممّا دفع بها إلى أن تجوب أوروبا والعالم، فحقّقت بألبوماتها ما يتجاوز 170 مليون نسخة من المبيعات.
وقد حافظت داليدا طوال حياتها على علاقتها بالعالم العربيّ، فطافت بالمغرب والجزائر حيث كانت أوّل فنانة فرنسيّة تزور الجزائر بعد الاستقلال. كما أنّ الفنانة الكبيرة حرصت على تسجيل ألبوم باللّغة العربيّة، تضمّن أغنيات مثل “حلوة يا بلدي”، و”سالمة يا سلامة”، ومجموعة من الأُغنيات الأُخرى، تظلّ ذات شعبيّة مدوّية إلى يومنا هذا. ولا يضاهي شعبيّة داليدا في لبنان إلّا شعبيتها مع الجمهور المصريّ، الذيّ طالما رأى فيها نبتةَ أرضهِ. وقد اختارها المخرج يوسف شاهين بطلةً لفيلمه “اليوم السّادس“، الفائز بعدة جوائز دوليّة. وقد حازت داليدا خلال مشوارها الفنيّ بقائمة طويلة من الجوائز من عدّة دول أوروبيّة مختلفة.
فبالإضافة إلى الجوائز التّي حازت عليها في فرنسا، فقد كرّمتها كل من أسبانيا وألمانيا، كما أصدرت فرنسا عملة نقديّة وطابع بريد باسمها، كما أُقيم لها تمثالٌ في ميدان مونمارتر الذّي غير من اسمه ليصبح ميدان داليدا. وفي عام 2017م، تمّ إنتاج فيلم بعنوان داليدا من بطولة الممثّلة الايطاليّة سفيفا الفيتي، الذّي تمّ عرضه لأوّل مرّة بدار الأوليمبيا التّي طالما شهدت حفلات للمطربة على مر السّنين.
ومن الأقوال المأثورة أنّ الفن العظيم يرتبط بالألم والمعاناة، وينطبق هذا القول على فنان عظيم مثل فان جوخ، وعلى العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، وتنطبق المقولة أيضاً على رحلة داليدا المليئة بالآلام والآحزان.
عاود مرضُ العيون الذّي ابتُلِيت به في صغرها الفنانة، والذّي استلزم عدّة عمليّات جراحيّة، أمّا حياتُها العاطفيّة التّي تُقارب في شقائها حدّة المآسي اليونانيّة الكلاسيكيّة، فقد صاحبتها طوال العمر. فأقدم لوسيان موريس الذّي تزوّجت منه بين عامي 1956م و1961م، على الانتحار عام 1970م.
أمّا حبّها الأعظم للمطرب الإيطاليّ لويجي تنكو، فقد انتهى نهايًة مأساويًة عندما أنهى حياته عام 1967م بعد أن فشل في الحصول على جائزة مهرجان سان ريمو، وكان من سوء حظّ داليدا أنْ اكتشفت جثّة حبيبها مدرّجة في دمائه، وأدّى هذا الاكتشاف إلى اصابة الفنانة العاشقة بانهيار عصبيّ، أدّى إلى محاولتها الأولى للانتحار.
وفي عام 1975م ألقى مايك برانت بنفسه من شاهق، مُنتحراً ولم يتجاوز عمره الثّامنة والعشرين، وكان مطربًا ناشئًا، تبنّته الفنانة الكبيرة. ولعلّ آخر من انتحر من عشّاق داليدا كان ريتشارد شانفري الذّي أحبّته بشغف، وارتبطت به بين عامي 1972م و1981م، والذّي انتحر باستنشاق الغاز من عربته في يوليو عام 1983م.
ولعلّ تلك السّيرة المضطربة، المفعمة بالألم والموهبة، قد تجلّت في أدائها لأغنيةٍ من تأليف سيرجي لاما، حين تغنّت بفقدان الحب، فمزجت دموعها الحقيقيّة بلحن شجيّ في أغنية Je Suis Malade، مثبتة قدرة الفن على تجاوز الألم الشّخصي والوصول إلى الملايين من عشّاق فنِّها الجميل. قليلٌ من البشر هم القادرون على مواجهة هذا الكمّ من المآسي، أمّا أن تقدم داليدا صوتها الملائكي وموهبتها الفذّة لإسعاد الملايين، فقد كان ذلك دون شك انتصارها العظيم.