حياة فرويد الأدبيّة والفنيّة
في مقالنا الأول تحت عنوان (فرويد، حاخام التحليل النفسيّ) ذكرنا البدايات الأولى لتأسيس مدرسة التحليل النفسي وعلاقة فرويد بتلاميذه ورفاقه وهو مشوارٌ علميُّ وفلسفيُّ عملاق أصبح معروفًا ومتاح للجميع من قرن ونيّف من الزمن، إلى أن أصبح فرويد والتحليل النفسيّ متلازمتين موجودتين في الذاكرة المتخصصة وغير المتخصصة. لكن في هذا الجزء ارتقيت أن أسلّطَ الضوء على جزء آخر من حياة فرويد الأدبية والفنية التي لربما لم تلقَ بال الجميع اللهم إلا من أراد البحث والتعمّق في هذه الجوانب من شخصيته والخروج بعلاقة ثلاثية بين فرويد كشخصية والتحليل النفسي كمدرسة وممارسة والأعمال الفنيّة كتعبير عن كوامن النفس البشريّة وتسامياتها.
بناءً على تصريحات فرويد في مراسلاته الخاصة ومؤلفاته حول الفنّ، ومذكراته بقلم أرنست جونز تلميذه وعشيق ابنته -آنا فرويد- الذي كتب حياة فرويد في ثلاثة مجلدات. بالإضافة لسلسلة محاضرات ألقاها المحلل النفساني ألكسندر ديميتريجيفيتش في جامعة برلين حول التحليل النفسي والفرويديّة.
علاقة فرويد بالأدب
تذكر كتب السيرة المتعلّقة بحياة فرويد أنّه كان ابن ثماني سنوات عندما بدأ بقراءة أعمال شكسبير من السيرة الشيكسبيرية حتى مسرحياته وقصصه. وكان فرويد من المولعين بشكسبير حتى أنّه يخال لكل من يعرفه من أنّه سيكون كاتب مسرحيّ مستقبليًا وهناك صورة يظهر فيها حاملًا لكتاب يقال أنّه مسرحية لشكسبير. وما يثبت هذا الادعاء أنّ مكتبته التي تحولت لمتحف اليوم في لندن تحوي عددًا كبيرًا جدًا من مؤلفات شكسبير بعدة لغات وكتب شروحات ورسائل شكسبيرية وكتب نقديًة عن شكسبير. حتى أنّه قال لصديقه فليس: إنّه متخصص بشكسبير. و هذا ما دفعه إلى التصريح في أحد الرسائل بأنّ عقدة أوديب عليها بالأساس أن تكون عقدة هاملت لكن أوديب فعل ما عجز هاملت عن فعله.
حصل فرويد على جائزة غوتا عام 1930م للأدب. وبعد ترشحه لنوبل للأدب أيضًا عن كتاباته الفلسفيّة وسيّر الحالات المشوّقة المكتوبة. لكنّه رفض ترشيحه معتبرًا أنّ ما يكتبه ليس أدب بل طب لا يهدف إلى التسلية. ففاز بها أينشتاين عن كتاباته الفلسفيّة.
يتحدث فرويد سبع لغات ( اللاتينية، الفرنسية، الإنكليزية، اليونانية، الإيطالية، الألمانية، والإسبانية) وقد تعلّم الإسبانية في عدة أشهر في آخر حياته ليستطيع قراءة كتب سيرفانتس بلغته الإسبانية.
فرويد ومجموعة التحف
إذا تمكّنت يومًا من زيارة منزل فرويد في لندن والذي أصبح متحفًا فحتمًا ستلتقي بمجموعة التحف المرصوصة على المكتب وفي الخزائن وعلى الجدران. وقد تمّ إحصاء القطع الأثريّة التي يملكها فتوصلوا أنّه يملك تقريبا 2000 قطعة أثريّة أصليّة، وأن البعض منها -بحسب باحثي الآثار تعود إلى 4000 سنة-.
بعضها يوناني ومصري وروماني ويهودي. فكانت الحيرة هنا أنّ جميعها قطع نادرة جدًا بل إنّه الوحيد الذي يملكها فتم طرح فرضيتين الأولى -وهي التي ظهرت في بعض الرسائل- بأنّ القطع قد أرسِلت له كهدايا من رؤساء وملوك تلك الدول كعربون امتنان وصداقة. الفرضيّة الثانيّة أنّه تم تهريبها بشكلٍ ما وشراؤها. لكن تم استبعاد الفرضية الثانية لأنّ ثمن القطع مرتفع جدًا جدًا لدرجة أنّهم جزموا أنّ فرويد حتمًا لا يملك ثمنها.
فرويد والموسيقى
كل من هو متمكن ومتبحّر في فرويد وحياته فهو حتمًا يعلم أنّه عدو الموسيقى حتى النخاع. إنسان ناصب العداء للموسيقى منذ طفولته المبكّرة. فتتردّد قصته مع أخته حيث كانت عائلته ككل العائلات في العهد الفيكتوري يعلمن بناتهن عزف البيانو كعادة من عادات ذلك العصر الكلاسيكيّ. إلا أنّ فرويد ما إن سمع أخته تعزف حتى ثار عليها وصرخ على أمه بأنّه لا يمكن عزف الموسيقى في المنزل وطلب تجنّب والدته النقاش بل تنفيذ الأمر فقط، ومن هنا حرّمت أخته تعلّم العزف وكان حينها بعمر الخمس سنوات تقريبًا. وتوالت الأيام وتبيّن أنّه لا يحب الموسيقى بالمطلق ويقول إنّه لا يستطيع فهم الموسيقى أبدًا ولا تفسيرها، ولا يمكنه الاستمتاع بشيء لا يفهمه ولا يخضع لسلطة العقل والتفسير العلميّ وكل ما لا يفسَّر علميًا لا قيمة له بحسب فرويد.
يذكر لنا كارل غوستاف يونغ حادثة جرت مع فرويد، فبينما كانا يتجهان لدخول مطعم كانت تعزف فيه الموسيقى وضع فرويد فورًا يديه على أذنيه وخرج مسرعًا وغاضبًا وقد أصابه العياء. فلم يحضر يومًا حفلًا موسيقيّ ودخل الأوبرا خمس مرات في حياته ليشاهد عروض تراجيديا ل سوفكليس وغيره لكن دون موسيقى حتمًا.
والفضول لدى البعض من المهتمين بسيرة فرويد والكتاب البحث عن السبب وراء هذا العداء للموسيقى، فطرِحت أسباب هي عبارة عن فرضيات أكثر منها أسباب واضحة. أولها أنّه قد أمضى طفولته منذ الرضاعة مع مربيته الكاثوليكية بالرغم من وجود والدته، فكانت المربية تصطحبه الصغير معها إلى الكنيسة وحيث الكورس والموسيقى العاليّة فهذا يمكن أن يكون سبب صدمة لفرويد اليهودي الصغير وبهذا فقد نفر من صوت الموسيقى وبقيت هذه الخبرة الصادمة محفورة في لا وعيه. أما السبب الثاني فهو الابتعاد عن هذه المربية عند انتقال الأسرة من مكان إقامتهم فربط بينها وبين الموسيقى ورفض كل ما يذكِّرُه بها. وعن الفرضية الثالثة وهي مستبعدة نوعا ما وهي أنّه قد يكون ذا أذن حساسة للأصوات العالية، لكن للأسف لا تقارير طبيّة تثبت أو تنفي هذا.
حتى أنّ فرويد كان معاصرًا نوعًا ما للمؤلف الموسيقي العظيم في زمانه موهلر الذي كان خليفة لموزارت و بيتهوفن و فاغنر.. وعندما ذكر اسمه أمام فرويد قال مستهزءًا: لا أعرفه من هذا؟
ولم يعطي الموضوع أهمية.. ولكن لاحقًا التقيا وكان بينهما قضية معيّنة لا يسعنا ذكرها هنا.
فرويد و مايكل أنجلو
تمثال موسى هو العمل الذي نحته مايكل أنجلو و رأى فرويد نفسه فيه.. لأنّه كان أساسًا يرى بشخصية موسى النبي شخصيته فكلاهما لديه جماعة وعقيدة ( مراجعة فرويد حاخام التحليل النفسي) وكان من المغرمين بروما ويعتبرها مدينته الأم لما فيها من متاحف وأعمال فنيّة. وقد زار كاتدرائية القديس بطرس كل يوم حيث تمثال موسى لمدة ثلاثة أسابيع، فأمضى خلالهم الوقت من الصباح إلى المساء وهو يكتب ويحلل ويرسم التمثال ويمايزه جيوميتريا ليخرج من خلاله بتحليل حول ما قصده مايكل انجلو بنحت هذا التمثال -يرجى مراجعة تحليل فرويد لتمثال موسى لمزيد من المعلومات حول الموضوع-.
بعدها عكف على منحوتة تمثال بيتتا أيضًا الموجودة في كاتدرائية القديس بطرس في روما. و قد أمضى وقتًا طويلًا مقابلَ هذه المنحوتة ويسجل الملاحظات وقد لاحظ أنّ العذراء مريم تبدو شابة جدًا مقابل المسيح الذي يبدوا أكبر منها وقد يعود السبب إلى أنّ مايكل أنجلو عندما فارقته والدته كانت ما تزال شابة وبقيت في مخيلته ذات الوجه الشاب وهو المظلوم الذي قتل بفراقها وابتعادها عنه وعاش المعاناة.
يوجد الكثير حول علاقة فرويد بالفن والأدب و نظرته التحليليّة للأعمال الفنيّة وما تخفيه القطع الفنيّة أو الأدبيّة أو التصويريّة من آليات دفاعيّة تخفي وراءها معاناة وربما أمراض نفسيّة وعُصابيّة. إنها عمليات تسامٍ يقوم بها الفنان ليعبر عن الصراع الداخلي والغضب فتتحول القطعة إلى قناة تفريغيّة مقبولة اجتماعيًا وإخراج لما ينهش الداخل على المستوى الواعي أو اللا وعي.
نرشح لك: نظرة شاملة على سيجموند فرويد
المصادر Stillpoint spaces barlin psychoanalysis school Sigmund freud and art- Peter gay writing on art and literature - Sigmund freud