جدليَّة حركتيْ التَّنوير والرُّومانتيكيّة الأوروبيَّة (الثورة والثورة المضادة)
أوروبا صورةٌ أصبحَت في مُخيَّلةِ العامَّةِ تَعنِي معاني كثيرة، خاصةً لمن وُلِدُوا خارجَها، وعندما تُترجمُ إلى أسماءَ ملموسةٍ فإننا نقصدُ بها في تاريخِنا المُعاصِرِ، ثلاثةَ بلادٍ مِحوريَّةٍ ساهمَت في تشكيلِ الصُّورةِ العامَّةِ التَّي ستصبحُ عليها الحضارةُ الأوروبيَّةُ بشكلٍ عامّ.
لكنَّ هذه الصُّورةَ العامَّةَ وُلِدَت منْ داخلِ رَحمٍِ كانَت ولادَتُهُ شديدةَ النَّزفِ والهدمِ والبناءِ! وعندما نرى أوروبا مُنعكسةً على صفحةِ مرآةِ التَّاريخِ، تظهرُ لنا صورتان متعارضتان تعكسان وجَهيّ أوروبا من خلالِ تلكَ الدُّولِ المِحوريَّةِ لأوروبا الغربيَّة (فرنسا، إنجلترا، ألمانيا) قد نسمِّيهما الثورة والثَّورةَ المُضادَّةَ (الثورة المُحايثة immanence، الثورة المُتعالِية transcendence).
“أرضُ الإنسانِ في مقابلِ أرضِ الإلهِ”؛ سؤالٌ يَعكِسُ الخطَّينِ الرَّئيسيينِ في الفكرِ الأوروبي، الإلهُ أم الإنسانُ، أيّ سيادةٍ تسودُ على الأرضِ؟ مفهومُ السِّيادةِ إشكاليَّةٌ مركزيَّةٌ في تَشكُّلِ أوروبا الغربيَّة الحديثةِ، فهي وُلِدَت من رحمِ التَّنازعِ بينَ أوجهِ هذهِ الإشكاليَّة جدلًا، بين سيادةٍ مُتعاليةٍ باسمِ الإلهِ وسيادةٍ مُحايثَةٍ باسمِ بني الإنسان.
ولكنْ عندما نتأمَّلُ تاريخَ إرهاصاتِ هذين الحدثينِ، نجدُ تاريخًا من الصِّراعاتٍ بين القوى الاجتماعيَّةِ القديمةِ والحديثةِ التَّي تُريدُ فرضَ قوَّتِها على البنيةِ المُجتمعيَّةِ كَكلٍّ، ممَّا يُنتِجُ صراعاتٍ ليست فقط ماديَّةً مُباشرةً وإنَّما تنطوي على صراعٍ فكريِّ يُشكِّلُ الإطارَ الَّذي يُعطِي الشَّرعيَّةَ للغطاءِ الأيديولوجيِّ لها. ولا بدَّ أنْ نُوضِحَ أنَّ الإنسانَ كائِنٌ ديناميكيٌّ لا يستطيعُ التَّعايشَ دونَ التَّفاعلِ مع بيئتِهِ المُحيطَةِ، ومنها أيضًا تَفاعُلُه الفكريُّ الذَّي يشكِّلُ جانبًا من جوانبِ تَفاعلِهِ الأُخرى؛ ومن ثمَّ، لا نرى مجتمعًا يتعايشُ أفرادُهُ بلا نسقٍ أيديولوجيٍّ يُعطِي معنًى للتَّفاعلاتِ بينَ أفرادِهِ. لكنَّ الحياةَ المُجتمعيَّةَ ليست قوالبَ جامدةً كما تريدُ لها بعضُ المنظوراتِ الفكريَّة، لأنَّ الإنسانَ بطبعِهِ في حالةِ تفاعلٍ مُستَمرٍ معَ الأشياءِ المُحيطةِ المُتغيّرةِ بطبعِها.
عندما نستعرضُ جدلَ صراعاتِ الأفكارِ، نجدُ أنَّ هذهِ الصَّراعاتِ ليستَ مُحلِّقةً في السَّماءِ أو نابعةً منَ اللَّاشيءِ، وإنَّما هي لسانُ حالِ واقعِ الصِّراعاتِ الاجتماعيَّةِ ومصالحِ القوى المُهيمنةِ التَّي تَضمنُ من خلالِها شرعيَّةَ مصالِحِها، وليستِ الفلسفةُ بمنأىً عن هذهِ الصِّراعاتِ.
في هذا المقالِ، أريدُ إلقاءَ نظرةٍ عامَّةٍ على التَّحولاتِ الفكريَّةِ التَّي تشكُّلها كلٌّ من ثورةِ حركةِ التَّنويرِ وثورةِ حركةِ الرُّومانتيكيَّةِ المُضادَّةِ؛ لكنْ بشكلٍ أساسيٍّ، لا بدَّ أنْ نُعرِّجَ على الشَّكلِ الأيديولوجيِّ السَّابقِ للبِنيةِ الإقطاعيَّةِ، ونستعرضَ رؤيتها للإنسانِ ومفهومَ السَّيادةِ لديها وأرضيَّةَ بنائِها المُجتَمعيِّ السّياسيِّ والاقتصاديِّ.
الإقطاعُ والسِّيادةُ المُتعاليةُ:
كما ذكرنا مُسبقًا، ليسَ هناكَ بناءٌ مجتمعيٌّ من دونِ إطارٍ أيديولوجيٍّ يمنحُ المعنى لمختلفِ التَّعامُلاتِ بينَ أفرادِهِ، ويُضفِي الشَّرعيَّةَ على الإطارِ المُجتَمعيِّ الَّذي يعيشونَ داخلَهُ؛ بحيثُ تُعبِّرُ الأيديولوجيَّةُ السَّائدةُ عن القوى الأكثر هيمنةً في تشكيلِ الإطارِ المُجتَمعيِّ. وحتَّى نفهمَ مدى ثوريَّة أفكارِ حركةِ التَّنويرِ، لا بدَّ أنْ نلقي نظرةً على السِّماتِ الكُبرى للأيديولوجيَّةِ الإقطاعيَّةِ، وهذه هي أبرزُ سماتِ أيديولوجيَّةِ النِّظامِ الإقطاعيِّ:
1- مركزيَّةُ الدِّين: فهو يلعبُ دورَ السِّلاحِ الأيديولوجيِّ في هذا النّظامِ. ومن أهمِّ سماتِ البنيةِ الفكريَّةِ للدِّينِ، وخاصةً الأديان الإبراهيميَّة، تعالِيها بحُكمِ طبيعةِ الإلهِ ذاتِهِ المُفارقِ عن الأرضِ، فهو الَّذي خلقَ وتَعالى في السَّماءِ. ومن ثمَّ، فأيُ تفسيرٍ يقدِّمُه الدِّينُ للإنسانِ والمُجتَمعِ والطَّبيعةِ هو تفسيرٌ مُنزَّلٌ بالوحي من الإلهِ. والمصدرُ الإلهيُّ السَّماويُّ هو مصدرُ شرعيَّةِ القوانينِ، والحقائقِ الَّتي يعبِّرُ عنها الدِّينُ من الإلهِ الكُلِّيّ العِلمِ هي حقائقُ خالدةٌ وأبديَّةٌ ولا جِدالَ فيها. إذن، فمنهجُ الوصولِ للحقيقةِ هو دراسةُ النُّصوصِ الدِّينيَّةِ وليسَ دراسةُ الواقعِ.
2- تراتبيَّةُ البناءِ المُجتَمعيِّ: الَّذي يُقسَمُ إلى ثلاثِ طبقاتٍ هي الأرستقراطيَّةُ والإكليروس في قمَّةِ الهرمِ، والطَّبقةُ الثَّالثةُ تشملُ عامَّةَ الشَّعبِ بمختلفِ أطيافهِ في الأريافِ والمدنِ.
3- امتلاكُ الأرضِ هو المصدرُ الوحيدُ للثَّروةِ: فكانَ من يملكُونَها همُ الأسيادُ، ومن يعملونَ فيها همُ الأقنانُ.
4- التَّراتبيَّةُ داخلَ الكنيسةِ: حيثُ نُظِمَت أيضًا طبقًا للنَّموذجِ الإقطاعيِّ، وكانت تتمتَّعُ بامتيازاتٍ مُهمَّةٍ، سياسيَّةٍ وقضائيَّةٍ وضريبيَّةٍ، وتعتمدُ قوَّتُها الاقتصاديَّةُ على جبايةِ العُشرِ والملكيَّةِ العقاريَّةِ. وكانتِ الكنيسةُ مُنظَّمةً إداريًا، وكانت هي المسؤولة عن تنظيمِ الأحوالِ المدنيَّةِ للنِّظامِ الإقطاعيَّ (من سجلات تعميدٍ وزواجٍ ووفاةٍ وما إلى ذلك)، وكانت وظائفُها مَحصورةً داخلَ طبقتِها التَّي أُبعِدَ عنها عامَّةُ الشَّعبِ؛ ومن ثمَّ، ارتبطَ مصيرُها بمصيرِ الطَّبقةِ الأرستقراطيَّةِ الإقطاعيَّةِ.
ومن ثمَّ، شكَّلَ الدِّينُ، والذَّي تمثِّلُه الكنيسةُ، الإطارَ الأيديولوجيَّ الذَّي يمنحُ النِّظامَ الإقطاعيَّ شرعيَّةَ الوجودِ. ونتلمَّسُ هذا التَّداخلَ بشكلِهِ المباشرِ من خلالِ مفهومِ الحقِّ الإلهيِّ، حيثُ الملكُ هو صورةُ الإلهِ، وهو الَّذي تتجسَّدُ فيهِ وحدَه شرعيَّةُ هذا الحقِ الإلهيِّ، وبما أنَّ الإلهَ واحدٌ فالمُمثِّلُ له واحدٌ، وهكذا يكون الملكُ هو لسانُ الإلهِ بما يسنُّهُ من تشريعاتٍ وقوانينَ لتأطيرِ وتنظيمِ عملِ المُجتَمعِ الدَّاخليِ.
شهدَت تلكَ الأنظمةُ الإقطاعيَّةُ الاستبداديَّةُ، بمنظومتِها الأيديولوجيَّةِ المُتعاليةِ، تطوّراتٍ ثوريَّةً في بنيتِها المُجتمعيَّةِ الاقتصاديَّةِ والسِّياسيَّةِ، مما أدَّى إلى حدوثِ تَحوُّلٍ في المنظورِ الأيديولوجيِّ شكَّل انعكاسًا لهذهِ التَّطوُّراتِ، وقد تجسَّدَ ذلكَ التَّحوُّلُ في حركةِ التَّنويِر.
فرنسا وثورةُ التَّنويرِ:
كانَت حركةُ التَّنويرِ هي الحاملُ الأيديولوجيّ لتحوُّلاتِ البنيةِ الاجتماعيَّةِ الأوروبيَّةِ، خاصةً في إنجلترا وفرنسا، وسَعَت للتَّحرُّرِ من البنيةِ الإقطاعيَّةِ القديمةِ. لكنْ للأسفِ، عندما تتناولُ أغلبُ كتبِ التَّاريخِ العرييَّةِ هذه الحقبةَ تقدِّمُها على أنَّها مُجرَّدُ صراعِ أفكارٍ بدون إطارِها الماديِّ الاقتصاديِّ والسِّياسيِّ، ولا تتناولُ جدليَّةَ هذه التَّطوُّراتِ بين القُوى المُجتَمعيَّةِ المختلفةِ داخلَ دولةٍ واحدةٍ وبينَ حدودِ الدُّولِ المجاورةِ الأُخرى.
وبالتَّالي، يُقدَّمُ العصرُ الوسيطُ على أنَّهُ وحدةُ عقولٍ متساوقةٍ ناشئةٍ عن لسانِ حالٍ واحدٍ. لكنَّهُ في الواقعِ كانَ يشهدُ جذورَ وإرهاصاتِ التَّحوُّلاتِ في بنيةِ النِّظامِ الإقطاعيِّ. وكانَت من أهمِّ تلكَ التَّحوُّلاتِ نهضةُ التِّجارةِ ونموُ الإنتاجِ المهنيِّ الحرفيِّ للمانيفاكتورة (المشاغل) ومنها التَّحولُ إلى الإنتاجِ الرَّأسماليِّ الصِّناعيِّ، خاصةً في إنجلترا. وفي أثناء هذه التَّحوُّلاتِ، لم نشهدْ عمليَّةَ انقطاعٍ راديكاليٍّ مع الشَّكلِ الإقطاعيِّ للدَّولةِ، ونتلمَّسُ ذلك في الصِّراعِ الكاثوليكيِّ -البروتستانتيِّ، وانفصالِ الكنيسةِ الإنجليزيةِ، وثورةِ الفلاحينَ، وحربِ الثلاثينَ عامًا؛ التَّي كانت صراعاتٍ طبقيَّة قدَّمت نفسَها على أنَّها صراعاتٌ دينيَّة. كلُّ هذهِ الصَّراعاتِ كانت نذيرًا للثَّوراتِ المُستقبليَّةِ ومن أهمِّها الثَّورةُ الإنجليزيَّةُ والأمريكيَّةُ والفرنسيَّةُ.
كانت الطَّبقةُ القائدةُ حاملةَ الرَّايةِ الثَّوريَّةِ، بتحالُفِها معَ الفئاتِ الشَّعبيَّةِ العامَّةِ، هيُ الطَّبقةُ البرجوازيَّةُ، التَّي كانت في ظلِّ هذهِ التَّطوُّراتِ السَّابقةِ على الثَّورةِ الفرنسيَّةِ غيرَ واعيةٍ بذاتِها كطبقةٍ اجتماعية مستقلة، وهذا ما نتلمَّسُهُ في محاولاتِها الإصلاحيَّةِ التَّي قامَ بها “تورغو” مع النِّظامِ الملكيِّ للويس السَّادس عشر، والتَّي باءَت بالفشلِ أمامَ المقاومةِ العنيدةِ التَّي أبدتها الأَرستقراطيَةُ. كانت البرجوازيَّةُ في تلكَ الأثناءِ على رأسِ الإنتاجِ وكانت تُقدِّمُ رؤوسَ الأموالِ الضَّروريَّةِ لسيرِ الدَّولةِ، وأدَّت هذهِ التَّحوُّلاتُ في بنيةِ الواقعِ الاجتماعيِّ والاقتصاديِّ إلى ضرورةِ التَّحوُّلِ في البنيةِ القانونيَّةِ وشكلِ الدَّولةِ، وتنعكسُ هذهِ التَّطوراتُ بشكلٍ ملموسٍ في فكرِ فلاسفةِ الأنوارِ الفرنسيَّين.
الموسوعيون/الإنسايكلوبيديا:
جسّد فلاسفةُ الأنوارِ المادّيينَ، وعلى رأسهم ديدرو، الشَّكلَ الأكثرَ راديكاليَّةً في تطُّورِ ونضوجِ الوعي البرجوازيّ في تلكَ الفترة. وقد تشكَّلت فلسفتُهم – الفلاسفة الماديين- من تيَّاريْن رئيسييْن: التيارُ الأوَّل كان مُتأثّرًا بفرانسيس بيكون وتوماس هوبز وجون لوك، والتَّيارُ الثَّاني كان مُتأثرًا بديكارت، هذه الثُّنائيَّةُ هي مصادرُ فلسفةِ القرن الثَّامنَ عشر.
فرانسيس بيكون:
المفكرُ الثَّوريُّ والمحطَّةُ الثَّوريَّةُ في المعرفةِ الإنسانيَّةِ، كانت الفلسفةُ قبله يهيمنُ عليها الدِّينُ، وخاصَّةً بعدَ محاولاتِ توما الإكويني للتَّوفيقِ بين المنهجِ الأرسطي والدِّين المسيحيّ، إذ ظلَّ أرسطو وتصوُّراته بمنأىً عن أيّ نقدٍ منذُ ذلكَ الحين، وصارَ المنهجُ الأساسيّ لمعرفةِ الحقيقةِ هو دراسةُ وتأويلُ النُّصوصِ القديمةِ، وظلَّ العِلمُ مَحصورًا على طبقةِ الإكليروس، وهو ما سُميَّ بمنهجِ الأهليَّةِ، فأصبحَتِ الفلسفةُ في خدمةِ اللَّاهوتِ.
جاءَ “بيكون” ومنهجُهُ الماديّ لينزلَ بالمعرفةِ من مركزيَّةِ السَّماءِ إلى مركزيَّةِ الطَّبيعةِ، فكما قالَ: «يجبُ أن ندرسَ العِلمَ في كتابِ الطَّبيعةِ الكبيرِ». ويتلخَّصُ منهجُ بيكون كما وضَّحَهُ ماركس فيما يلي: «إنَّ كلَّ علمٍ يقومُ على التَّجربةِ، ووظيفتُهُ إخضاعُ المُعطياتِ المقدَّمةِ من الحواسِ لمنهجٍ عقلانيّ في البحثِ ومنها تُعَدُّ أشكالُ الاستقراءِ والتَّحليلِ والملاحظةِ والتَّجريبِ، الأشكالَ الرَّئيسةَ للمنهجِ العقلانيّ». نحنُ هنا أمامَ تحوُّلٍ راديكاليٍّ في شكلِ المنهجِ والطَّريقةِ اللَّازميْن من أجلِ معرفةِ الطَّبيعةِ والإنسانِ والمُجتَمعِ.
جون لوك:
في عملِهِ «مقالة في الإدراك البشريّ»، نجدُ أنَّهُ كانَ يحاولُ البُرهانَ على أنَّ جميعَ الأفكارِ الإنسانيَّةِ تأتي منَ التَّجربةِ أو منَ العالمِ الحسِّيّ عبرَ الحواسِ، وقد مثَّلت هذهِ الفكرةُ قطيعةً مع التّصوّراتِ الدّينيَّةِ الصُّوفيّةِ بصددِ أصلِ المعرفةِ. كانَ هذا التَّصوّرُ الصُّوفيّ للمعرفةِ القائمُ على نظريَّةِ الأفكارِ الفطريَّةِ قد ثبَّتَ دعائِمَ المُؤسّساتِ الإقطاعيَّةِ، ورسَّخَ عدم المساواةِ بينَ الأفرادِ، ونتلمَّسُ آثارَهُ بشكلٍ مُباشرٍ على وضعِ النّساءِ في تلكَ الفترةِ من عدم المساواةِ بذريعةِ هذهِ الأفكارِ. كانت محاولاتُ لوك وهوبز للقولِ بأنَّ أفكارَنا تأتي من عالمِ الحواسِ ضربةً قاصِمةً تُسدَّدُ إلى اللَّاهوتِ والميتافيزيقا.
أما التَّيارُ الثَّاني المُنطَلِقُ من ديكارت، فقد وجدَ في عملِهِ «مقال في المنهج» هدمًا للصَّرحِ النَّظريِّ للعلمِ القروسطي، حيثُ أعلنَ حريَّةَ البحثِ ضدَّ منهجِ الأهليَّةِ وأكدَّ أنَّ الحسَّ السَّليمَ هو خصيصةٌ يتشاطرُها النَّاسُ جميعًا، ومن ثمَّ فليستِ المعرفةُ البشريَّةُ رهنًا بمعونةِ السَّماءِ وإنَّما بمنهجٍ يمكنُ للإنسانِ اكتسابُهُ، وعلى هذا النَّحو، تحرّرَ البحثُ العلميُّ نهائيًا من التَّصوّراتِ اللَّاهوتيَّةِ. وكما قالَ جورج بوليتزر: «نتيجةً لهذين التَّطورين من فيزياء ديكارت ثمَّ نيوتن والماديَّةِ الإنجليزيَّةِ، تهيَّأَت عناصرُ المعركةِ الفاصلةِ والنِّهائيَّةِ التَّي ستشنُّها فلسفةُ الأنوارِ ضدَّ كلّ ما تبقّى من الأيديولوجيا القروسطيَّة للنِّظامِ الإقطاعيّ».
كذلكَ، رفعَ الموسوعيّونَ رايةَ المساواةِ بينَ الأفرادِ والتَّقدُّمِ ومُحاربةِ الجهلِ و البربريَّةِ والتَّعصُّبِ وجعلِ الطَّبيعةِ والإنسانِ نقطةَ الانطلاقِ المُحوريَّة للمعرفةِ الإنسانيَّةِ. وهكذا، أصبحَت أهمّ فكرةٍ مركزيَّةِ لدى فلاسفةِ التَّنويرِ هي أنَّ الإنسانَ جزءٌ من الطَّبيعةِ، وأنَّ القوانينَ البشريَّةَ من أذواقٍ وعاداتٍ وثقافاتٍ قد تختلفُ، لكنْ هناكَ عواطفُ واحدةٌ تحرِّكُ النَّاسَ في كلِّ مكانٍ وزمانٍ وتُسبِّبُ الأنماطَ السُّلوكيَّةَ نفسَها، ومن ثمَّ كلَّما تمَّ تشكيلُ المُجتَمعِ من أجلِ إشباعِ الغرائزِ الإنسانيَّةِ الطَّبيعيَّةِ وإتاحةِ الفُرصةِ لها لتحقيقِ رغباتِها، تحقَّقَت القيمةُ الكُبرى للإنسانِ وهي السَّعادةُ.
وهكذا عارَضَت فلسفةُ الأنوارِ التَّصوّرَ المُتعالِي لللّاهوت بتصوّرٍ ماديّ قائمٍ على العِلمِ، وكان من أهمّ رموزها ديدرو وهولباخ وهلفيتيوس، ومنهم انحدرَتِ الماديَّةُ الفرنسيَّةُ التَّي سيكونُ لها تأثيرٌ كبيرٌ على المنهجِ الماركسيّ، ولا سيما تأثير هولباخ على فكرِ كارل ماركس.
– ألمانيا وثورةُ التَّنويرِ المضادّ:
في محاضراتِ «جذورِ الرُّومانتيكيَّةِ»، يتناولُ إيزايا برلين جذورَ وإرهاصاتِ الحركةِ الرّومانتيكيّةِ وما حملَتهُ من توجّهاتٍ فكريَّةٍ مختلفةٍ لمواجهةِ المنظومَةِ الفكريَّةِ التَّي طرحَتها حركةُ التَّنويرِ والتَّي تُوِّجَت بالثَّورةِ الفرنسيَّةِ.
كانت ألمانيا في القرنين السّابع عشر والثَّامن عشر منطقةً مُتخلِّفةً فكريًا واجتماعيًا وسياسيًا، مقارنةً بفرنسا وإنجلترا وهولندا، فكانت أراضيها مُجزَّأةً إلى مقاطعاتٍ يحكُمها ثلاثمائة أمير وألف ومائتيْ تابع، وهكذا فلمْ تكن بها دولةٌ مركزيَّةٌ ولا مدنٌ كبيرةٌ مثل مدينة باريس، وإنَّما مجرَّدُ أقاليم محليَّة مشتّتة. ساهمَت في ذلكَ التَّردي الشّديد للحالةِ الألمانيّةِ حربُ الثّلاثين عامًا الَّتي أغرقَتها في بحرٍ من الدِّماءِ وكانَ لها الأثرُ الأكبرُ في تحطيمِ الرُّوحِ الألمانيَّةِ من كبرياءَ ونفوذٍ وديناميكيَّةٍ واعتزازٍ بالهويَّةِ الوطنيَّةِ.
ومن ثمّ، كانَ الرَّدُ الفكريُّ الألمانيّ على هذهِ الأوضاعِ هو اللُّجوءُ إلى الحياةِ الباطنيَّةِ للرُّوحِ البشريَّةِ، وكان لللوثريَّةِ أثرٌ كبيرٌ في تحفيزِِ هذا الرَّدِ، ونتلمَّسُ ذلكَ النُّزوعَ إلى الباطنيَّةِ الدينيَّةِ والمحليَّةِ في الموسيقى للعظيمين باخ وتيليمان.
كان لفرنسا بثقافتِها وتفوُّقِها، مقارنةً بتحطُّمِ ألمانيا وركودِها، أثرٌ في تولُّدِ مشاعر كراهيةٍ ضدَّها، و جذورُ ذلك ممتدةٌ من حربِ الثَّلاثين وصدى الثورة الفرنسيَّةِ التَّي أرعبَت القُوى الإقطاعيَّةِ في ألمانيا وأوروبا بشكلٍ عامّ.
كانّ للتَّقوى اللُّوثريَّةِ جذورٌ عظيمةُ الأثرِ في الحركةِ الرّومانتيكيَّةِ في ألمانيا ونلخِّصُ أهمَّ سماتِها فيما يلي:
التَّركيزُ على كمونيَّةِ الذَّاتِ والأبعادِ الباطنيَّةِ للرُّوحِ، وكراهيةِ التَّعلُّمِ، إذ الكشفُ عن الحقيقةِ هو عمليَّةٌ سريَّةٌ تتأتَّى بالإلهامِ والوحي؛ وهذا ما سنجدُ آثارَهُ في رؤيتِهم للفنِّ بهذا التّصوّرِ الدينيِّ وشعارِ «الفنُّ للفنِّ» الذّي حملته الرُّومانتيكيَّةُ الرَّجعيَّةُ في أوائلِ القرن التّاسع عشر.
كراهيةُ الطُّقوسِ والشَّكلياتِ، والتّركيزُ على صراعاتِ الإنسانِ بوصفها وحدة مركزيَّة؛ ويتجلَّى ذلكَ في بروزِ مفهومِ الإرادةِ لدى أهمّ مفكِّريها من فلاسفةِ المِثاليَّةِ الألمانيَّةِ، وعلى رأسهم كانط وفيشته وشوبنهاور، وهذا أيضًا لهُ علاقةٌ خاصَّةٌ بالتَّصوّرِ اللُّوثريّ والكالفينيّ لمفهومِ الإرادةِ لدى الإنسانِ. «فخلاصُكَ بإرادَتِكَ أنتَ أيُّها الإنسانُ. حاولْ تغييرَ ما بداخلِكَ طالما لا تستطيعُ تغييرَ ما بخارجِكَ!» وذلك بمعزلٍ تامٍّ عن الأسبابِ الخارجيَّةِ المُؤثّرةِ، الاجتماعيَّةِ والسِّياسيَّةِ والاقتصاديَّةِ.
لا شكَّ أنَّ مثلَ هذهِ الشِّعاراتِ تَجلُبُ المُواساةَ والعزاءَ والخلاصَ للمسحوقِينَ اجتماعيًا وسياسيًا، مما أدَّى إلى حالةٍ من الهروبٍ بدلًا من مواجهةِ المُشكلاتِ الحقيقيَّةِ للأزمةِ.
وعلى هذا النَّحوِ، شكَّلت هذه الأسبابُ المزاجَ العامَّ الفكريّ لحركةِ الَّتنويرِِ المُضادِّ (الرّومانتيكيَّة)، من كراهيةٍ للعقلِ، والتَّعويلِ على الحدسِ والعاطفةِ بوصفها وسيلةً للمعرفةِ، ومن المثاليَّةِ الذَّاتيَّةِ والإيمانيَّةِ، والرُّؤيةِ الصُّوفيَّةِ للفنِّ، والعداءِ للثَّقافةِ، واللَّا أدريَّة المعرفيَّةِ، وخصوصيَّةِ الهويَّاتِ العرقيَّةِ مقابل النَّزعةِ الكونيَّةِ للمذهبِ الإنسانيِّ.
الجذورُ الدِّينيِّةُ لشبحِ هذهِ السِّماتِ الفكريَّةِ العامَّةِ للرُّومانتيكيَّةِ الألمانيَّةِ سيكونُ لها أثرٌ كبيرٌ في تشكيلِ المزاجِ الفكريِّ العامِّ للرجعيَّةِ البرجوازيَّةِ بعد ثورة 1848م، ولكي نستوعبَ جذورَ هذهِ الحركةِ، لا بدَّ من ذكرِ مثالينِ لشخصين كان لهما الأثرُ الأعظمُ في فكرِ مفكِّريها وهم هردر وكانط.
هردر:
يعتبرُ جوهان جوتفريد هردر أحدَ آباء الرُّومانتيكيَّةِ الَّذي كانَ لنظرتِهِ للمُجتَمعِ والتَّاريخِ آثارُها الكُبرى التَّي لا تزالُ حيَّةً إلى الآنَ لدى أنصارِ خصوصيَّةِ الهويَّاتِ الثَّقافيَّةِ.
فقد كانت أهمُّ أفكارِه ما يسمَّى بالنسبويَّةِ الثَّقافيَّةِ والأخلاقيَّةِ، فالمُجتمعاتُ عبارةٌ عن دوائرَ مغلقةٍ متجاورةٍ؛ وبتناولٍ صوفيٍّ متعالٍ لفكرةِ الانتماءِ إلى الجماعةِ، ومنها المفهومُ المتعالي للأمَّةِ، فالمجتَمعُ هو دائرةٌ مغلقةٌ عصيَّةٌ على الفهمِ لمن هو خارجَها، وأيُّ محاولةٍ لانتزاعِ الفردِ من الجماعةِ ستجعلُهُ يشعرُ بالاغترابِ، فالألمانيُّ سيظلُّ ألمانيًّا إلى الأبد حتَّى وإن تأثَّرَ بأيِّ ثقافةٍ أخرى. وعلى هذا النَّحوِ، أصبحنا أمامَ عالَمٍ من هويَّاتٍ أبديَّةٍ وأمامَ جماعاتٍ مُتجاورةٍ، الفردُ فيها مجرَّدُ تعبيرٍ عن تلك الهويَّةِ الجوهريَّةِ الثَّابتةِ؛ فإذا أرادَ الفردُ أن يعبِّرَ عن ذاتِهِ وتفضيلاتِهِ الشَّخصيَّةِ بثقافةٍ مُغايرةٍ، فلا مجالَ هنا لمفهومِ الحريَّةِ الفرديَّةِ وحريَّةِ الاختيارِ، فأنتَ ألمانيٌّ وستظلُّ ألمانيًّا إلى الأبد؛ وهو ما تطوَّرَ إلى العرقِ الآريّ الأوحدِ وانتهى بالتَّطهيرِ العرقيّ لليهودِ في معسكراتِ النَّازيَّةِ.
كانَ هردر يردُّ بهذهِ الفكرةِ بالأخصِّ على تصوّرِ فلاسفةِ التَّنويرِ الفرنسيينَ وفكرتهم عن إنسانيَّةٍ عالميَّةٍ: فالإنسانُ مهما اختلفَ في لُغاتِهِ وعاداتِهِ وثقافاتِهِ فهو واحدٌ من حيثُ جوانبِه الفيسيولوجيَّةِ، ومن ثمَّ انصبَّ تركيزُهم على مفهومِ السَّعادةِ المؤسَّسةِ على تحقيقِ رغباتِ الإنسانِ الطَّبيعيَّةِ، مما خلقَ نظرةً عالميَّةً للإنسانِ ترتكزُ على المبادئ الَّتي تجمعُ بين الأفرادِ بوصفهم كائناتٍ بشريًَّة وليسَ على المبادئ والاختلافاتِ التَّي تفرِّقُ بينهمُ.
كانط:
كانَ لفلسفةِ كانط العقليَّةِ والأخلاقيَّةِ تأثيرٌ كبيرٌ في الفلسفةِ الأوروبيَّةِ، خاصَّةً الفلسفة المثاليَّة الألمانيَّة، وعندما نلخّصُ الخطوطَ العريضةَ لفكرهِ الفلسفيِّ والأخلاقّي، نجدُ من أهمّ مفاهيمه الفلسفيَّةِ هو مفهومُ «الشَّيء في ذاته»، الذَّي يؤدّي إلى حالةٍ من اللّا أدريَّةِ المعرفيَّةِ. إذ يسلّمُ كانط بأنَّ تصوُّراتِنا يطابقُها شيءٌ ما خارجٌ عنا، شيءٌ ما في ذاتِه، لكنَّ معرفتَنا محصورةٌ في ما يظهرُ لنا من ظاهرِ ذلك الشَّيء، أمَّا جوهرُهُ أو الشَّيءُ في ذاتِه فمستحيلٌ على المعرفةِ. فأصبحنا أمامَ شيءٍ مُتعالٍ غيبيٍّ، لا يستطيعُ الإنسانُ مهما طوَّرَ من أدواتِه وتجاربِهِ أن يعرفَ ما خلفَ ظاهرِ ذلك الشَّيء/الموضوعِ، وهنا ردٌّ واضحٌ على كلِّ فلاسفةِ التَّنويرِ، التَّجريبيين الأنجليز والمادِّيين الفرنسيين، وعلى رأسهم فرانسيس بيكون.
كانت محاولاتُ كانط التَّوفيقيَّةُ بينَ الاتجاهاتِ الفلسفيَّةِ الماديَّةِ والمثاليَّةِ قد ساعدت على تشويشِ من يتناولُها، فهو يؤكِّدُ وجودَ شيءٍ خارجٍ عنَّا بكونِه موضوعًا، وأنَّ الإحساساتِ هي المصدرُ الوحيدُ لمعارفِنا، فنحنُ إذن أمامَ اتِّجاهٍ ماديٍّ، لكنَّهُ من ناحيةٍ أُخرى يُقرُّ بقبليَّةِ السَّببيَّةِ والزَّمانِ والمكانِ، وهنا اتّجاهٌ نحوَ المثاليَّةِ. ومن هنا تأكيدُهُ على ثنائيَّاتِ الرُّوحِ والجسدِ، والذَّاتِ والموضوعِ، والظَّاهريّ والجوهريِّ، وذلك بسببِ مفهومِه عن فكرةِ الخُلودِ والتَّي يعتبرُها مُسلَّمةً أخلاقيَّةً.
وهذا يجعلُنا ننتقلُ إلى فلسفتِهِ الأخلاقيَّةِ، حيثُ إنّ مفهوميّ الإرادة والحريَّة من أكثرِ الإشكالاتِ لدى كانط. كانت فكرةُ التَّعاملِ مع الإنسانِ بطريقةٍ مُحايثةٍ لوجودِهِ، أو التَّعاملِ معهُ ماديًّا من حيثُ هو كتلةٌ من اللَّحمِ والدَّمِ والأعصابِ تتحكَّمُ بها قوى الطَّبيعةِ، ومن ثمّ فليسَ هنا مجالٌ للتَّعالي بالإنسانِ، فهو يتحرَّكُ مثلُه مثلَ الحيواناتِ، وهكذا لا مجالَ لمفهومِ الإرادةِ الحرَّةِ، كانَ هذا التَّناولُ لدى الفلاسِفةِ المادِّيين، مثل هولباخ وديدرو، يُرعِبُ كانط.
وينعكسُ هذا في تصوُّرهِ للطَّبيعةِ وعدائِهِ لها، فهي مُجرَّدُ ساحةٍ سلبيَّةٍ لا بدَّ أن يفرضَ الإنسانُ عليها إرادتَه، وأفضلُ حالاتِ الإنسانِ هي عندما يقومُ بتطويعِها وتحطِيمِها وفرضِ سيطرتِهِ عليها. لكنْ لا يَخفى شبحُ التَّصوّرِ اللَّاهوتيّ المسيحيّ للطبَّيعةِ في نظرةِ كانط التَّى ترى بأنَّها ظرفيَّةٌ محضةٌ واللهُ خلقَها بدافعِ المحبَّةِ وليسَ من بابِ الضَّرورةِ، فتمَّ خلقُها بلا أيّة غايةٍ محددةٍ ولكنْ بدافعٍ من لطفِهِ الذَّاتيّ، فهي إن وُجِدَت فذلك من أجلِ سيادةِ الحكمةِ الإلهيَّةِ على الأرضِ وإخضاعِ ما فيها لإرادتِهِ.
وعندما نتناولُ الاتجاهاتِ العامَّةَ التَّي سادَت في سياقاتٍ تاريخيَّة مُعيَّنة في بلد ما، فلا يعني هذا أنَّهُ لم يكنْ هناكَ ما يشذُّ عن المزاجِ العامِّ للبلدِ، فمثلًا في إنجلترا، التَّي تعتبرُ مهدَ التَّنويرِ والماديَّةِ، كان بها أصواتٌ مغايرةٌ عن أصواتِ هوبز ولوك ونيوتن، مثل بيركلي ووليام بليك.
وكذلك في فرنسا، كانَ هناك الاتّجاهُ المُتمثِّلُ في الأرستقراطيَّةِ الرّجعيَّةِ التَّي تحاولُ تحطيمَ ما أنجزَتهُ الثَّورةُ الفرنسيَّةُ والتَّيارُ الفكريّ لفلاسفةِ التَّنويرِ الفرنسيّ، ومن أمثلتِه شخصيَّةُ جوزيف دي ميستر الذَّي كانَ يتبنَّى تصوُّرًا مُشابهًا لهردر وضدَّ مفهومِ الإنسانيَّةِ العالميَّةِ ويُعتَبرُ من آباءِ اليمينِ الرَّجعيّ.
وكذلك الحالُ في ألمانيا، وعلى الرَّغمِ من هذا الاتِّجاهِ السَّائدِ لمحاولةِ التَّشكيكِ في أيّة محاولةٍ لنزعِ الهيمنةِ من الدِّينِ باسمِ العلمِ، وبحكمِ التَّطوراتِ والتَّغيّراتِ الفعليَّةِ في واقعِ بنيةِ المُجتمعاتِ في تلك الفترةِ، دفعَ كل ذلك أصحابَ النَّزعاتِ المثاليَّةِ الإيمانيَّةِ إلى تقديمِ تنازلاتٍ، فبدلًا من الدِّفاعِ صراحةً عن مفهومِ الإلهِ، أصبَحُوا يدافعونَ عن مفاهيمَ متعاليةٍ موازيةٍ للمفهومِ المُتعالي للإلهِ مثل العقلِ والإرادةِ والأمَّةِ، و كانَ من أهمّ أسلحتهم للدِّفاعِ عن الإيمانيَّةِ هو التَّشكيكُ في مقدرةِ الإنسانِ على معرفةِ حقيقةِ الأشياءِ المُحيطةِ بهِ، ومنها التَّشكيكُ في طبيعةِ المنهجِ العلميِّ؛ لكنْ كانَ هناك بالطَّبعِ أصواتٌ مغايرةٌ لهذهِ الاتِّجاهاتِ في ألمانيا وعلى رأسِهم هيجل وجوته ثمَّ ماركس وإنجلز.
البرجوازيَّة والتَّحوّل من التَّنوير الثَّوريّ إلى التَّنوير المضادّ:
ثورة 1848م الأوروبيَّة: عندما نتأمَّلُ هذا الحدثَ الثَّوريَّ ومدى تأثيرِهِ على الطَّبقاتِ الاجتماعيَّةِ المُختلفَةِ نجدُهُ يشكِّلُ نقطةَ تحوّلٍ عُظمى في التَّحوّلِ الأيديولوجيّ للبرجوازيَّةِ الأوروبيَّةِ، حيثُ شهدت الفتراتُ اللَّاحقَةُ انتصارَهُ المُتنكِّرَ لمبادئِه الثَّوريَّةِ (الحَرِيضَة، المساواة، الإخاء). وعلى صعيدِ الفلسفةِ -الَّتي هي لسانُ حالِ الواقعِ الاجتماعيّ وصراعاتِهِ-: فهي ليست مجرَّدة ومُتعالية وبريئة وإنَّما هي مرآةٌ تعكِسُ حالَ هذهِ الصِّراعاتِ ولكنْ بغطاءِ صراعِ الأفكارِ. رأينا الفلسفةَ الماديَّةَ الثَّوريَّةَ لفلاسفةِ التَّنويرِ الإنجليز والفرنسيين- كما سبقَ وأوضحنا- كسلاحٍ فكريِّ ضدَّ الإطارِ الأيديولوجيّ المُتعالي المُتمثِّلِ في مركزيَّةِ الدِّين في النِّظامِ الإقطاعيِّ.
كانَ من أهمِّ الأسئلةِ المِحوريَّةِ الفارقَةِ بينَ الاتِّجاهاتِ الفلسفيَّةِ الثَّوريَّةِ والرَّجعيَّةِ السُّؤالُ عن طبيعةِ المعرفةِ، وهل هناك إمكانيَّةٌ لاكتسابِ المعرفةِ بوسائلَ نطوّرُها وتساعدُنا على هذا؟ كما أوضحنا، كانَ من أهمِّ الدِّفاعاتِ الثَّوريّةِ الفكريَّةِ لفلاسفةِ التَّنويرِ الإنجليز والفرنسيين هو الدِّفاعُ عن مركزيَّةِ الإنسانِ وفاعليَّةِ وسائلِهِ العقليَّةِ في مساعدتِهِ على معرفةِ ذاتِهِ ومعرفةِ الطَّبيعةِ والأشياءِ المحيطةِ بهِ.
ورأينا أنَّ الاتِّجاهاتِ الرَّجعيَّةَ الفلسفيَّة، التَّي كانت تُمثِّلُ مصالحَ القِوى الأرستقراطيَّةِ والدِّينيّةِ التَّي شهدت تَحطُّمَ هيمنتِها، كانت تُشكِّكُ في ذلك بما سُمّيَ عامَّةً بالتَّنويرِ المُضادِّ، والذَّي تُمثِّلُهُ الرُّومانتيكيَّةُ الرَّجعيَّةُ؛ فكانت محاولاتُ الاتّجاهاتِ المثاليَّةِ الألمانيَّةِ -بشكلٍ أخصّ- وبكلِّ اختلافاتِها، هي لسانُ حالِ الصِّراعاتِ الأيديولوجيَّةِ للتَّحوّلاتِ البُنيويَّةِ من نظامِ المُقاطعاتِ الإقطاعيِّ إلى خلقِ دولةٍ موحّدةٍ قوميَّةٍ ذات سيادةٍ مركزيَّةٍ.
هذه الاتِّجاهات المثاليَّة ستأخذُ أبعادًا تتجاوزُ خصوصيَّةَ ألمانيا، وذلك في تأثيرِها مثلًا على الاتِّجاهاتِ الفلسفيَّةِ في أوائلِ القرن العشرين وبعد ذلك في الاتِّجاهاتِ الفكريَّةِ لما بعد الحداثةِ، والتَّي تكشفُ عن المزاجِ العامِّ للاتِّجاهاتِ الفلسفيَّةِ البرجوازيَّةِ الرَّجعيَّةِ خاصةً الأكاديميةَ منها. ومن السِّماتِ العامَّةِ التَّي يتّسمُ بها التَّنويرُ المضادُّ، الذَّي مثَّلَ في سياقٍ تاريخيّ معيَّنٍ مصالحَ القوى التَّي كانت تُحاربُها البرجوازيَّةُ، ولكن بعد أن شكَّلت ثورة 48 وكومونة باريس تهديدًا لمصالِحِها من قبلِ الطَّبقةِ العاملةِ حدثت نقطةُ تحوُّلٍ في صراعِها الأيديولوجيِّ وأصبحت مدافعةً عمَّا كانت تحاربُه، ما يمكنُ أن نتلمَّسَه في التَّشكيكِ في المبادئ الَّتي حملت شعارَها قبل ذلك ومنها:
التَّشكيكُ في فكرةِ التَّقدّمِ المُرتكِزِ على صيرورةِ التَّطوّرِ التَّاريخيّ الماديّ لعلاقاتِ وقوى الإنتاجِ للمجتمعاتِ مقابل الرُّؤيةِ السُّكونيَّةِ لتاريخِ المُجتمعاتِ، وحصر إدراكِ المعرفةِ في حدودِ مثاليَّةٍ ذاتيَّةٍ تُنكِرُ وجودَ موضوعاتٍ خارجيَّةٍ ماديَّةٍ، وحصرها شرطيًا على المُدركاتِ الحسيَّةِ للفردِ، والتَّي كانَ يُعلنُها “بيركلي” في حربِهِ ضدَّ اتّجاهاتِ الفلسفةِ الماديَّةِ في القرن السَّابع عشر لصالحِ الإيمانيَّةِ، وهو ما ظهرَ في الاتِّجاهاتِ الفلسفيَّةِ البرجوازيَّةِ الحديثةِ برداءٍ جديدٍ مثل الوضعيَّةِ.
من هذا المُنطَلقِ المثاليّ الذَّاتيّ وقعَت البرجوازيَّةُ في السِّماتِ التَّي تُشكِّلُ بصفةٍ عامَّةٍ اللَّا أدريَّةِ والنّسبويَّةِ الإبستمولوجيَّةِ، ومنها الوقوعُ في الإيمانيَّةِ والدِّفاع عن حصرِ المعرفةِ في ظواهرِ الأشياءِ والتّأكيدِ على حصريَّةِ المعرفةِ على المدركاتِ الحسَّيَّةِ بمعزلٍ عن ماديَّةِ الموضوعاتِ الخارجيَّةِ (الفلسفة الظَّاهراتيَّة)، ومحاولة التَّشكيكِ في طبيعةِ المنهجِ العلميِّ وتقديمِهِ على أنَّهُ مجرَّد نوعٍ من اللُّغةِ الصُّوريَّةِ لا أكثر من حيثُ بنيته وعلاقات أجزائِه ببعضِها، وخواء محتواه ومن ذلك إقصاءُ أولويَّةِ الواقعِ لصالحِ أولويَّةِ الاتّفاقِ، فأصبحت النَّظرياتُ العلميَّةُ ذات منشأ اعتباطيّ ومآلٍ وظيفيّ وأداتيِّ. ونجدُ هذا الميلَ العامَّ للاتِّجاهاتِ الفلسفيَّةِ مثل الظَّاهراتيَّة والوضعيَّة المنطقيَّة والبراجماتيَّة يفتحُ المجالَ للعودةِ إلى الميتافيزيقا والإيمانيَّة، وهي اللَّاعقلانيَّة التي اتَّسمَت بها اتّجاهاتٌ فلسفيَّةٌ عدةٌ في أوائل القرن العشرين، مثل الفلسفة الحيويَّة والداروينيَّة الاجتماعيَّةِ التَّي كانت تشكِّلُ جوهرَ الأيديولوجيَّة الفاشيَّةِ.
وكما ذكرَ المُفكِّرُ “صادق جلال العظم”، فالبورجوازيَّة الأوروبيَّة التَّي انطلقت من ثقافةِ كبرياء العقلِ والعلمِ والطَّبيعةِ والتَّقدُّمِ والإنسان وصلت الآنَ إلى ثقافةِ تتفيهِ العقلِ وإحلالِ إرادةِ القُّوّةِ محلَّه، وإلى إنكارِ العلمِ بإحلالِ إبداع الرُّوحِ محلَّه وإلى نفي الطَّبيعةِ بإحلالِ العَوْدِ الأبديِّ البنيويّ محلَّها.
هذه التَّحوّلاتُ التَّي طرأت على الأيديولوجيا البرجوازيَّةِ فلسفيًا نقلتها من موقعِها الثَّوريّ إلى موقعِ الرَّجعيَّة والتَّنكُّرِ لمبادئها الثَّوريَّةِ حين جابَهت بالعلمانيةِ الثيوقراطيَّةَ الإقطاعيَّةَ، وبالمساواةِ الحقوقيَّةِ بين البشرِالتَّراتبيَّةَ الإقطاعيَّةَ، وجابهت بالحريَّةِ العبوديَّةَ، وبالعلمِ والاستقراءِ البيكونيّ جابَهت اللَّاهوتَ والقياسَ الأرسطيّ-التُّومائيّ، والآخرةَ بالدُّنيا والطَّبيعةِ، وجابهت الحقَّ الإلهيّ وصكوكَ الغفرانِ بالعقدِ الاجتماعيّ وما يتضمّنُه من حقوقٍ للأفرادِ، وجابهت بمركزيَّةِ الإنسانِ مركزيَّةَ السَّماءِ .