ثورة الإسلام على الاستبداد السياسي

لم يَرْسِم الإسلام ويفصِّل طريقة محدَّدة للحُكْم والإدارة، وذلك معلوم بالضرورة، إذ تغيُّر الواقع يستلزم تغيُّر الأحكام لتحقيق المصلحة، لكن لم يغب على الإسلام أن يضع حدودًا عامة، وقِيَمًا مطلقة، وأُطُرًا أخلاقية، للحُكْم والسُّلْطة، لا يحيد عنها كل حَاكِمٍ عادلٍ رشيد.
أولًا: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾([1])
نزلت هذه الآية في مكة، ولم يكن عندئذ للمسلمين سُلْطة ولا حكومة ولا سياسة، وبالتالي فليس المقصود هنا: وأمرهم شُورَى بينهم في السِّياسة، بل المعنى أعم من ذلك وأعمق، إذ نزلت هذه الآية في مجتمعٍ لم يكتمل بعد، لتُرَبِّي النُفُوس، وتؤهلها وتمهدها إلى أن يكون أمر المسلمين كله قائم على الشُورَى، أمرهم في الأسرة والزواج والتجارة والعبادة والعلم، حتى تصبح الشُورَى صفة ذاتيَّة للمجتمع المسلم، وبالفعل قد تشبَّع المسلمون بهذه الصفة، حتى باتت الشُورَى هي أسلوب حياة وطريقة إدارة ومنهج معيشة.

1. الشُورَى في العبادة:

رغم أن العبادات هي أكثر مجالات الحياة دِقَة وحسمًا، ولا يدخلها اختلاف الآراء والأهواء، فهي توقيفية من عند الله، إلا أن الشُورَى تتدخل فيها، لا من حيث إنشاء العبادات، لكن من حيث التطبيق.

فنجد أهم عبادة في الإسلام وهي الصلاة، قد سمح النبي بدخول الشُورَى فيها، فلم يُشرِّع الله كيف يجتمع الناس للصلاة، وتركها للناس يحددون هيئتها، فكان الناس يجتمعون في المسجد حتى يحين وقت الصلاة فيصلوا، فاقترح بعضهم أن يميزوا وقت الصلاة بناقوس مثل النصارى، واقترح غيرهم نوقًا مثل اليهود، واقترح غيرهم أن يُنادي مؤذِّن بصيغة الأذان، واتفقوا على ذلك، وأقرهم النبي.

عن ابن عمر قال: “كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس يُنَادَى لها، فتكلموا يومًا في ذلك، فقال بعضهم: اتخِذوا ناقوسًا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقًا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أولا تبعثون رجلًا ينادي بالصلاة، فقال رسول الله: “يا بلال قم فنادِ بالصلاة”([2]).

كما أن الصلاة الجماعيَّة هي عملية مُصغَّرة للتعاون بين المسلمين، إذ يختار المصلون إمامًا يتراضون عليه، ومن مكرهات الصلاة أن يؤم القوم رجل وهم له كارهون.

إعلان

وعلى الإمام أن يراعي حالة المصلين، فلا يحق له أن يطيل وقت الصلاة، رحمة بالضعفاء.

وإن أخطأ الإمام، يجب على المُصلين أن يردوه، ويصححون خطأه. ولا يصح للإمام أن يصلي جالسًا والمُصلون قائمون، بل يجلسوا جميعًا أو يقفوا جميعًا. 

وهي عملية مُصغَّرة للعَلاقة بين المسلمين القائمة على التعاون، والشُورَى، والاختيار الحُرّ، والمساواة، والتراحُم.

2. الشورى في الأسرة:

قال تعالى: ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾([3]).

تناقش الآية مسألة فطام الطفل قبل عامين، وترسم لنا كيف يدير الأزواج حياتهما المشتركة، فكان من الممكن أن تدَّعي المرأة انفرادها بالقرار، بحجة أن مسألة الرضاعة تخص المرأة وحدها، وكان من الممكن أن يدَّعي الرجل انفراده بالقرار، بحجة أن بيده القوامة، لكن الآية ترد كلتا الطريقتين، ولا ترى طريقًا غير طريق التحاور، والتشاور، والتراضي، والاتفاق معًا.

وإن كانت الآية تتحدث عن فطام الطفل، فلا يقتصر دورها في هذه المسألة، بل ترسم منهجية عامة عبر مثال الفطام، وعلى الزوجين أن يسيرا بهذه المنهجية في كل ما هو مشترك ويهم الطفل، فالقرارات المتعلقة بتعليمه، وصحته، وتربيته، وسكنه، لا تتم إلا بالتشاور معًا، حتى يصبح الطفل قادرًا على التمييز، ويدخل هو الآخر في منظومة التشاور والمشاركة في القرار.

حتى قرار الطلاق، يقترح القرآن أن يسبقه مشورة وتناصح عائلي أولًا، فقال تعالى: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ﴾([4]).

3. الشورى في العلم:

استنادًا إلى مبدأ المساواة الذي رسخه الإسلام، فعند أي نقاش فكري تصبح العقول كلها سواسية، ولا حجة لأحد على غيره إلا بالدليل، لذلك يحق لأقل طالب مخالفة أكبر عالم إن وجد دليلًا يرجح رأيه.

وقد تشرب المجتمع المسلم من مهده مبدأ الشورى في العلم، فكان العالِم لا يعتكف في مكتبته ثم يخرج إلينا بفتواه! بل يجمع تلاميذه، ويراسل أصحابه، ويسأل أساتذته، وتدور جدالات وحوارات ومناظرات حتى يستقروا على رأي في النهاية، أو أكثر من رأي.

فكان أبو بكر إن أعياه أمر خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء؟ فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع رأيهم على شيء قضى به.

وعن الشعبي قال: “كانت القضية تُرفع إلى عمر فربما تأمل في ذلك شهرًا ويستشير أصحابه”.

ورُوي عن سعيد بن المسيب عن علي قال: “قلت: يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه القرآن ولم تمض فيه منك سنة، قال: اجمعوا له العالِمين فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد”([5]).

يقول حسن الترابي: “إن الفقه ذاته عندما نشأ لم يكن مثل فقهنا الفردي الحاضر، بل كان فقهًا جماعيًا. فمالك بن أنس مثلًا لم يكن يعبِّر عن رأيه، بل عن إجماع الحركة الفقهية في المدينة وتقاليدها، ففقهه كان فقهًا شوريًا. وأبو حنيفة النعامان كذلك لم يكن يفتي من ذات رأسه، وإنما كان يجلس ومعه أركان من مدرسته، منهم أبو يوسف وزفر ومحمد، وكان يجري بينهم الحوار ويبرز الرأي من خلاله. فما كان فقيه يعتزل بتفكيره ورأيه بل يجمعه إلى آراء الناس، وما كان الإمام الفقهي يستبد بالفتوى ويحتكرها، وما ينبغي أن يكون الرأي السياسي ولا الإمامة السياسية إلا كذلك”([6]).

4. الشورى في القضاء

تبارى العلماء في وصف سمات القاضي العادل، وكان من أهمها: الشورى؛ أي يستشير القاضي غيره، ولا يكتفي بحكمه وحده. وفي بعض الأحيان كانت الشورى إلزامية على القاضي. وهو ما تطور وأنشأ نظام القضاء الجماعي، فالآن لا يحكم القاضي وحده إلا بعد استشارة مستشارين([7]).

يقول السرخسي: “القاضي، وإن كان عالمًا، ينبغي له أن لا يدع مشاورة العلماء، وقد كان رسول الله أكثر الناس مشاورة لأصحابه، يستشيرهم حتى في قوت أهله وإدامهم، قال: المشورة تلقح العقول. وقال: “ما هلك قوم عن مشورة قط”، وكان عمر يستشير الصحابة مع فقهه، حتى كان إذا رُفعت إليه حادثة، قال: ادعوا إليَّ عليًا، وادعوا إليَّ زيد بن أبي كعب، فكان يستشيرهم، ثم يفصل بما اتفقوا عليه، فعرفنا أنه لا ينبغي للقاضي أن يدع المشاورة، وإن كان فقيهًا”([8]).

5. الشورى في التجارة

أهم ركن من أركان التجارة المشروعة في الإسلام هو التراضي؛ إذ تسقط كل عملية تجارية قائمة على الغش، أو الجبر، أو الإكراه، أو الاحتكار، أو المصادرة، والتجارة الوحيدة المباحة في الإسلام هي القائمة على الشفافية والمصارحة والصدق والتراضي بين الناس، فيتشاورون ويتصارحون حتى تحل لهم أموال بعضهم.

استكمال كل هذه المجالات الحياتية بهذه المنهجية من التشاور والتحاور والتراضي يُنشيء مجتمعًا الشورى أحد مكوناته الضمنية، وثقافته المغروزة، وحقوقه الأصيلة، مجتمعًا يتشاور في البيت والعمل والمسجد والمدرسة والشارع والنادي والبرلمان، مجتمعًا حين نريد أن نصفهم لغيرهم نقول: أمرهم شورى بينهم.

يقول ابن عطية: “الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام”([9]).

ويقول حسن الترابي: “الشورى في الإسلام ليست ممارسة سياسية معزولة، وإنما هي نظام حياة؛ فهي في الشعائر وفي الأسرة وفي الجوار وفي المجتمع وفي المعاملات الاقتصادية وفي العلم وفي السياسة أيضًا. وهذا يعني شيئًا كثيرًا، إذ أن الديمقراطية إذا جُرِّدت وأصبحت تعبيرًا سياسيًا فحسب كانت عُرضة لأن تغدو ديمقراطية شكلية”([10]).

ويضيف: “لو انطلقنا من معاني العقيدة، أو عن شعيرة الصلاة، أو نظام الأسرة، أو معاملات المال، ولو تأملنا قصص القرآن كقصة فرعون، وقصة ملكة سبأ التي جمعت الملأ واستشارتهم: ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ﴾([11])، إذا تأملنا كل ذلك أو اعتبرنا بسيرة الرسول واليًا وقائدًا أو بتوجيهاته نبيًا هاديًا، لانتهينا إلى أن الشورى من أصول الدين، وأنها لا تحصل عن آيتين أو بعض أحاديث وردت فيها كلمة (الشورى)”([12]).  

ويقول راشد الغنوشي: “إن الشورى في الإسلام ليست حكمًا فرعيًا من أحكام الدين يُستدل عليه بآية أو بآيتين وبعض الأحاديث والوقائع، وإنما هي أصل من أصول الدين ومقتضى من مقتضيات الاستخلاف، أي إحالة السلطة الربانية إلى العباد الذين أُعطوا الميثاق إلى الله أن يعبدوه. ومن ثم كانت الشورى العمود الفقري في سلطان الأمة، ونهوضها بأمانة الحكم على أساس المشاركة والتعاون والمسئولية”([13]).

ثانيًا: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾([14])

إن كانت هذه الآية الكريمة تحمل معانٍ عظيمة وجليلة، لكن توقيت نزولها وسياقها التاريخي يحمل معانٍ أعظم وأجل.

فقد جمع أبو سفيان قريبًا من ثلاثة آلاف من قريش وأحلافهم وخرج بهم في السنة الثالثة للهجرة; وجاءوا معهم بنسائهم ليحاموا عنهن ولا يفروا، ثم أقبل بهم نحو المدينة، فنزل قريبًا من جبل أحد.

واستشار رسول الله أصحابه: أيخرج إليهم، أم يمكث في المدينة ؟

وكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة، وأن يتحصنوا بها; فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت. ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي (رأس المنافقين)، فبادرت جماعة كبيرة من الصحابة – ومعظمهم من الشبان ممن فاتهم يوم بدر – فأشاروا عليه بالخروج، وألحوا عليه في ذلك. حتى بدا أن هذا هو الرأي السائد في الجماعة.

فنهض النبي ودخل بيته ولبس زي الحرب، لكن غيَّر بعض الشباب رأيهم، وقالوا: أكرهنا رسول الله على الخروج. فقالوا: يا رسول الله، إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل. فقال رسول الله ما ينبغي لنبي إذا لبس لَأْمَتَه أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه.

والنبي بذلك يلقى عليهم درسا نبويا عاليًا; فليست الشورى مجالًا للتردد، والدوران في دائرة الرأي والرأي الآخر دون منتهى ودون إنجاز، بل للشورى وقتها، حتى إذا انتهت، جاء وقت العزم والمضي والتوكل على الله. فالنبي هنا يفرق بين مرحلة اتخاذ القرار، وعنوانها: الشورى، ومرحلة التنفيذ، وعنوانها: العزم.

وخرج رسول الله في ألف من أصحابه، فلما صار بين المدينة وأحد، انعزل رأس النفاق: عبد الله بن أبي بنحو ثلث العسكر، وقال: يخالفني ويسمع للفتية! وشق ذلك صفوف الجيش، وأفسد خطتهم، وأثبت عزيمتهم، وأنقص عددهم القليل أصلًا!

وانهزم المسلمون يومئذ، واستشهد من المسلمين عدد كبير، أبرزهم حمزة، وجُرِح وجه النبي، وكُسرت سنه الرباعية، ورماه المشركون بالحجارة حتى سقط في حفرة!

بعد كل هذه التخبطات، والخيانات، والهزيمة، والقتلى، والجروح، كان هو الوقت المثالي لأقوال: “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، “ليس هذا هو وقت الشورى”، “رأيتم ماذا حصدت الشورى؟!”، “هذا جزاء من يستشر الفتية”، ونحو ذلك من الشماتة في فشل الشورى ونتائجها المخزية، لكن نزل قوله تعالى: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾([15]).

بهذا النص الجازم يقرر الإسلام أن الشورى مبدأ أساسي لا يجوز التخلي عنه، حتى لو كان القائد هو النبي، وحتى لو خالفت رأي النبي نفسه، وحتى لو سببت شقاق، وحتى لو نتج عنها هزيمة، فيظل المبدأ ثابت ومقدس، ويظل هو أصح الوسائل.

صحيح نتعلم الدروس، وندرس القرارات، ونفتش عن أسباب الفشل، ونسد ثغرات الخيانة والشقاق بين الصفوف، لكن كل هذه المراجعات تتم تحت غطاء الشورى دون أن يُمس أو يُخرق.

يقول سيد قطب: “لقد كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة، أمام ما أحدثته من انقسام في الصفوف في أحرج الظروف; وأمام النتائج المريرة التي انتهت إليها المعركة، ولكن الإسلام كان ينشئ أمة، ويربيها، ويعدها لقيادة البشرية. وكان الله يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمم وإعدادها للقيادة الرشيدة، أن تُربى بالشورى; وأن تُدرَّب على حمل التبعة، وأن تخطئ لتعرف كيف تصحح خطأها، وكيف تحتمل تبعات رأيها وتصرفها.

واختصار الأخطاء والخسائر في حياة الأمة ليس فيها شيء من الكسب لها، إذا كانت نتيجته أن تظل هذه الأمة قاصرة كالطفل تحت الوصاية. إنها في هذه الحالة تتقي خسائر مادية وتحقق مكاسب مادية. ولكنها تخسر نفسها، وتخسر وجودها، وتخسر تربيتها، وتخسر تدريبها على الحياة الواقعية. كالطفل الذي يُمنع من مزاولة المشي – مثلا – لتوفير العثرات والخبطات، أو توفير الحذاء!

لو كان وجود القيادة الراشدة في الأمة يكفي ويسد مسد مزاولة الشورى في أخطر الشؤون، لكان وجود محمد ومعه الوحي من الله كافيًا لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى، ولكن وجود محمد رسول الله، ومعه الوحي الإلهي، ووقوع تلك الأحداث، لم يلغ هذا الحق”([16]).

ورغم هذا الوضوح الصريح للنص وتطبيقاته، لكن ثار سؤالان يحاولان الالتفاف حوله وتفريغه من محتواه، وهما:  

  1. هل واجب على الحاكم استشارة الأمة؟
  2. وبعد المشورة، هل واجب على الحاكم الالتزام برأي الأغلبية؟

١. الشورى واجبة:

يعتقد البعض أن الأمر بالشورى في الآية لا يفيد الوجوب، بل الإرشاد؛ أي متى أحب ورضي الحاكم أن يستشير فليستشر، ومتى أعجبه رأيه واستغنى، فلتسقط الشورى!

لكن رجَّح كثير من الفقهاء أن الشورى واجبة على الحاكم، وأدلة ذلك:

– الأصل في الأمر أنه يفيد الوجوب، ما لم يوجد دليل يصرفه عن ظاهره.

– مقصد الشورى هو تحجيم الحاكم وإلجامه عن الاستبداد برأيه واتباع هواه ومخالفة الشرع. ولن يتحقق هذا المقصد ما لم تكن الشورى واجبة على الحاكم.

– رسول الله، وهو خير البشر، المصطفى، استشار أصحابه في كل حادثة ألمَّت بالدولة – ما لم يُوحى إليه – فغيره أولى بوجوب الشورى عليه.  

يقول الرازي: “ظاهر الأمر للوجوب، فقوله: (وشاورهم) يقتضي الوجوب”([17]).

ويقول ابن عطية: “من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. هذا ما لا خلاف فيه”([18]).

ويقول القرضاوي: “الأصل في الشورى الوجوب؛ لأن الله أمر بها رسوله حين قال: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾([19])، والأمر – ولا سيما في القرآن – يفيد الوجوب، وإذا كان الرسول المؤيد بالوحي مأمورًا بالمشاورة فغيره أولى بلا ريب”([20]).

ويقول أحمد الريسوني: “لا شك أن حكم الشورى هو الوجوب؛ لأن الوجوب إذا كان قد قيل في حق رسول الله، بكل خصائصه ومزاياه، فهو في غيره أوضح وآكد”([21]).

2. الالتزام بالشورى واجب:

قد يتفق البعض أن الشورى واجبة، لكن بعد أن يستشير الحاكم، لا يلزمه تطبيق رأي الأغلبية!

وأول انتقاد لهذا الرأي: وما قيمة الشورى إن كانت غير ملزمة؟! هل كل ما تستهدفه الشورى أن تعلن عن رأي، ثم يضرب به الحاكم عرض الحائط؟!

يقول محمد الغزالي: “أخطأ من المفسرين من وَهِم أن الشورى غير ملزمة، فما جدواها إذن؟ وما غناؤها في تقويم عوج الفرد إذا كان من حقه ألا يتقيد بها؟ وأين في حياة الرسول وسيرة خلفائه ما يدل على أن الحاكم خرج على رأي مستشاريه ومضى في طريقه وحده؟”([22]).

ويقول القرضاوي: “الذي نراه ونلتزم به شرعًا: أن رأي أهل الحل والعقد ملزِم للإمام، فإذا شاورهم فاختلفوا، فالعبرة برأي الأكثرية.

ومن الأدلة المرجِّحة للالتزام برأي أكثر أهل الشورى:

– النبي لم يَرَ الخروج من المدينة في غزوة أُحُد، وإنما كان رأيه ورأي كبار الصحابة: القتال داخل المدينة، ولكنه رأى الأكثرية تميل إلى الخروج، فنزل على رأيهم.

ـ النبي أمر باتباع السواد الأعظم.

ـ النبي قال لأبي بكر وعمر: “لو اتفقتما على رأي ما خالفتكما”.  

ومعناه: أنه يرجِّح رأي الاثنين على رأي الواحد، ولو كان الواحد هو رسول الله.

ـ عن علي أن النبي سُئِل عن العزم في قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾([23])، فقال: “مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم”.

ـ أن عمر جعل الشورى في ستة من كبار الصحابة، واعتبرهم (أهل الحل والعقد) في الأمة، وجعل القرار النهائي كما تراه أغلبيتهم.

ـ أن القرآن الكريم شَنَّ حمْلة هائلة على الطُّغَاة المستَكْبرين في الأرض بغير الحق، أمثال فرعون وهامان، وكل جَبَّار عنيد، كما قال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾([24])، ﴿ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾([25]).

ـ كذلك شَنَّعَ القرآن أبلغ التشنيع على الشعوب الخانعة، التي تُسَلِّم زِمَامها إلى هؤلاء وتسير في رِكَابهم، ولا تقاومهم ولا تُنْكِر عليهم، كما قال عن قوم نوح: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ﴾([26])، وعن قوم هود: ﴿ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾([27])، وعن قوم فرعون: ﴿ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ﴾([28]).

8 ـ أن أهل الشورى في التراث الإسلامي يسَمَّوْن (أهل الحل والعقد)، فإن كان رأيهم غير مُلْزِم، فماذا يَحُلُّون؟! وماذا يَعْقِدُون إذن؟!

9 ـ التاريخ عَلَّمَنَا كما علَّمَنَا الواقع أن رأي الجماعة أقرب إلى السداد من رأي الفرد، وإن رأي الاثنين أقرب من رأي الواحد، وأن شر ما أصاب أمتنا كان من جَرَّاءِ الاستبداد والطغيان، وتسلط أمراء السوء على شعوب الأمة وأحرار أبنائها”([29]).

ويقول أحمد الريسوني: “الرأي الذي أقول به ولا أتردد فيه، هو لزوم الأخذ برأي الأغلية في المجالس والهيئات الشورية”([30]).

ثالثًا: الإجماع مصدر للتشريع

مفهوم الإجماع من أكثر المفاهيم العادلة العزيزة التي حُرِّف معناها وفُقد مغزاها! لذلك سنضطر للحديث عن المفهوم الشائع الخاطيء عن الإجماع، ثم المفهوم الصحيح للإجماع.

الإجماع عند الأصوليين: اتفاق مجتهدي أمة محمد بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي.

وبذلك أصبح اتفاق علماء الفقه على مسألة دينية يعني عصمة رأيهم، وأن رأيهم هذا هو حكم الله الثابت، الذي لا يجوز معارضته أو تغييره!

وننكر هذا المعنى للإجماع؛ لأنه لا دليل على حجيته، ولا يمكن العلم بوقوعه، ولو أجمع الفقهاء على حكم فقهي، فلا يعني أنه حكم الله، ولا مانع أن يخالفهم عالم آخر.

أما الإجماع الصحيح فهو ما ورد في قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾([31]).

﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾([32])

فقد أمرت الآية الأولى صراحةً ونصًا بطاعة أولي الأمر، والآية الثانية تقر برد الأمر العام إلى أولي الأمر.

وأولوا الأمر هم كل من يتولى الأمر العام للأمة، مثل الحكام، والعلماء، والعسكريين، والمتخصصين، والسياسيين، والمفكرين، والأدباء. وطاعة هؤلاء غير ناتجة عن عصمتهم، ولا اعتبار رأيهم هو حكم الله المقدس، بل اتباعهم بهدف تحقيق المصلحة؛ إذ يجب أن تجتمع الأمة على قانون ينظم حياتها، هذا القانون يضعه نواب الأمة وأولي الأمر، وبهذا المنطلق يجب طاعة هذا القانون لتحقيق المصلحة. 

ومن هنا تتضح سمات الإجماع:

– فهو إجماع المتخصصين (العلماء والفقهاء والحكام والعسكريين والسياسيين والاقتصاديين والأدباء)، وليس الفقهاء فقط أو الحاكم فقط.

– اتباعه بدافع تحقيق المصلحة لا العصمة.

– يجوز تغييره إذا تغير الواقع، فهو اتباع للمصلحة أينما وُجدت.

– مجال عمل الإجماع هو المعاملات الدنيوية وليس الأحكام الشرعية الدينية التعبدية.

ويرسم محمد رشيد رضا ملامح الإجماع فيقول:

“من خصائص القرآن أنه كتاب هداية روحية، ليست لأحكام المعاملات الدنيوية منه إلا الحظ القليل، إذ وَكَّل أكثرها إلى أولي الأمر من المؤمنين، وبيَّن – بإيجازه المعجز – الضروري منها بعبارة يُؤخذ من كل آية منها ما يملأ عدة صحف، كآيات المواريت. والقاعدة في الإسلام أن ما لا نص فيه بخصوصه، يستنبط (أولي الأمر) حكمه من النصوص والقواعد العامة في دفع المفاسد وحفظ المصالح”([33]).

“إن أولي الأمر في زماننا هم كبار العلماء ورؤساء الجند، والقضاة، وكبار التجار والزرَّاع وأصحاب المصالح العامة ومديرو الجمعيات والشركات، وزعماء الأحزاب، ونابغو الكُتَّاب والأطباء والمحامين الذين تثق بهم الأمة في مصالحها، وترجع إليهم في مشكلاتها”([34]).

“الأصل في الإجماع أن يكون إجماع الأمة، ولا سبيل إلى اجتماع أفراد الأمة، فيحصل المراد بمن يمثلها، وهم أولو الأمر، وللمتأخرين منهم أن ينقضوا ما أجمع عليه من قبلهم، بل وما أجمعوا هم عليه إذا رأوا المصلحة في غيره، فإن وجوب طاعتهم لأجل المصلحة، لا لأجل العصمة”([35]).

“إذا علمت أن اجتهاد أولي الأمر هو الأصل الثالث من أصول الشريعة الإسلامية، وأنهم إذا أجمعوا رأيهم وجب على أفراد الأمة وعلى حكامها العمل به، فاعلم أن اجتهادهم خاص في المختار عندنا بالمعاملات القضائية والسياسية والمدنية دون العبادات والأحكام الشخصية إذا لم ترفع إلى القضاء، وأنه ينبغي أن يُبنى على قاعدة جلب المصالح وحفظها ودرء المفاسد وإزالتها”([36]).

ويقول ابن عاشور: “إذا تفقدنا إجماع سلف الأمة من عصر الصحابة فمن تبعهم نجدهم ما اعتمدوا في أكثر إجماعهم – فيما عدا المعلوم من الدين بالضرورة – إلا الاستناد إلى المصالح المرسلة العامة أو الغالبة بحسب اجتهادهم الذي صيَّر تواطؤهم عليه أدلة للظنية أقرب من القطع، وإنهم قلما كان مستندهم في إجماعهم دليلًا من كتاب أو سنة”([37]).

ويقول محمود شلتوت: “وإن كان من أسس الإجماع اتفاق النظر في تقدير المصلحة – وهي ما يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال – فإنه يجوز للمجتهدين أنفسهم أو لمن يأتي بعدهم إذا تغيرت ظروف الإجماع الأول، أن يعيدوا النظر في المسألة في ضوء الظروف الجديدة، ويكون الاتفاق الثاني مُنهيًا لأثر الإجماع الأول، ويصير هو الحجة التي يجب اتباعها”([38]).

حكمة الإجماع:

من هنا تتجلى الحكمة الإلهية في اقتصاد القرآن عن ذكر تفاصيل دنيوية وأحكام حياتية، إذ وكَّل التشريع فيها لأولي الأمر في كل أمة، يجتهدون ويخططون ويبحثون بعقولهم عن الخبرات الإنسانية عبر العصور، ويفتشون عن الحكمة أيًا كان مصدرها ليصيغوا قانونًا يحقق المصلحة العامة، وفي ذلك إعمال للعقل، وتراكم للمعرفة، وتعاون إنساني.

يقول السنهوري باشا: “إن اعتبار إجماع الأمة مصدرًا للتشريع الإسلامي هو نواة المبدأ الحديث الذي يجعل إرادة الأمة مصدر السلطات”([39]).

ونلاحظ أن الآية وكَّلت الحكم إلى (أولي الأمر) بهذه الصيغة العامة الشاملة لكل من يتولى أمر الأمة، فتشمل نوابها وعلمائها وكل من له رأي ومشاركة سياسية، ولم تحصر الأمر والحكم في يد الحاكم ليستبد برأيه ويكتفي بفكره.

كما نلاحظ ختام الآية: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾([40])، فهذا التنازع دال دلالة واضحة على وجود شد وجذب، وحوار مجتمعي، ونقاش بين أفراد الأمة، وشورى منفتحة قبل الحسم، واتفاق واختلاف حر، وحرية رأي وتعبير مكفولة.

كما نلاحظ أن هذا الاختلاف والتشاور محدود بسقف أعلى هو رد الخلاف إلى الله ورسوله؛ أي أن الأمر في يد أولي الأمر، وعليهم أن يتشاوروا فيما بينهم، لكن إن اختلفوا خلافًا أخلاقيًا، ردوا الأمر إلى الله ورسوله، فإن ظهر ضلال رأي منهم وانحرافه عن القيم الأخلاقية التي وضعها الله ورسوله، فيجب أن يُستبعد هذا الرأي. وفي ذلك مراعاة لحقوق الأقليات، والقيم المطلقة التي لا يجوز خرقها مهما كان اتفاق أولي الأمر، فلا يجوز مثلًا أن يتفق أولوا الأمر على ظلم أقلية، أو الاعتداء على أبرياء، أو مخالفة عهد مع أعداء.

رابعًا: البَيْعَة شرط الإمامة

جاء دور الجانب العملي من الدين، وهو سلوك النبي، كيف تولى النبي الحكم؟ وكيف مارس السياسة؟

بيعة العقبة الأولى

التقى النبي بستة من يثرب (المدينة)، وعرض عليهم رسالته، فاقتنعوا وآمنوا، وحين عادوا إلى يثرب نشروا الدين، وتلوا القرآن، وأقنعوا قومهم، فآمن عدد كبير، ثم أرسلوا إلى النبي أن ارسل إلينا من يُفقِّهنا في الدين، فأرسل النبي إليهم مصعب بن عمير، وانتشرت تعاليم الإسلام في يثرب، ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر برسول الله، حتى جاء موسم الحج، فحضر من يثرب اثنى عشر رجلًا، وبايعوا النبي على “أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف”([41]).

كانت هذه هي بيعة العقبة الأولى، وهي كما ترى، بيعة دينية على الدخول في الإسلام، والالتزام بتعاليمه، وهي كما ترى قائمة على الاقتناع والاختيار الحر، بلاغٌ من الرسول قابله قبول واقتناع وإيمان.

بيعة العقبة الثانية

انتشر الإسلام في يثرب، وظل عدد المسلمين يزداد يومًا بعد يوم حتى بات المسلمون هم القوة الغالبة، ورسول الله ما زال في مكة يدعو الناس، وقريش لا تتوقف عن إيذاءه ومنعه من التبليغ.

وعندئذ يروي جابر نقاش أهل يثرب، فيقول: “لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعًا، فقلنا: حتى متى نترك رسول الله يُطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلًا حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عندها، فقلنا: يا رسول الله، علام نبايعك؟ قال: “تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم”. فبايعوا على ذلك.  

ثم في اليوم التالي حضر من أهل يثرب ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان، وحضر العباس، عم النبي، وكان يومئذ على الكفر، وقال: “يا معشر الخزرج، إن كنتم ترون أنكم وافون لمحمد بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده”.

وقالوا: تكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.

فقال النبي: “أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم”. فبايعوا على ذلك([42]).

هذه البيعة تختلف تمامًا عن البيعة الأولى، ولها سمات جوهرية:

  • هذه البيعة ليست بيعة دينية غرضها الدخول في الإسلام، بل هي بيعة سياسية، غرضها استدعاء النبي من مكة إلى المدينة ليصبح حاكمًا لها وموحِّدًا لقومها، ولحماية النبي من قريش ونصرته.
  • هذه البيعة ليست شرطًا من الدين، فلم يشترط النبي عليهم البيعة ليصح إسلامهم، وكان من الممكن أن يكتفوا بإيمانهم، وما ينتقص ذلك من دينهم شيئًا.
  • هذه البيعة منشؤها وفكرتها ودافعها ومحركها هم أهل يثرب أنفسهم، لذلك سمَّاهم النبي الأنصار؛ لأنهم ناصروا رسول الله، وبالتالي فهي بيعة حرة تمام الحرية.
  • حضر البيعة رجال ونساء من يثرب، كما حضرها ابن عباس، ولم يكن مؤمنًا حينئذ.
  • بومجب هذه البيعة أصبح النبي حاكمًا للمدينة.

وهذه الملاحظة الأخيرة تستوجب وقفة هامة؛ فالنبي بلا أدنى شك هو المستحق والأجدر للحكم؛ فهو المصطفى، الموحى إليه، المؤيَّد من السماء، إلا أن هذا الاستحقاق لم يكفِ ليصبح حاكمًا!

بل صار النبي حاكمًا بعد البيعة الحرة الاختيارية، ولم يتولَ السلطة، ولم يُصدِر أمرًا سياسيًا واحدًا إلا بعد أن اختاره أهل المدينة ليكون رئيسًا عليهم!

إذن فالسلطة التي يقرها الإسلام ليست حقًا للحاكم، يأخذها بالاستحقاق، ويورِّثها لغيره، بل السلطة والسيادة في يد الشعب يعطيها من يشاء وينزعها ممن يشاء، ولا سلطة إلا ببيعة، والبيعة هي عقد بين الشعب والحاكم، وكالة يوكِّل الشعب إمامًا نيابةً عنهم ليدير أرضهم.

لذلك يقول الماوردي: “ذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أن الإمامة لا تنعقد إلا بالرضا والاختيار، لكن يلزم أهل الاختيار عقد الإمامة له، فإن اتفقوا أتموا؛ لأن الإمامة عقد لا يتم إلا بعاقد، كالقضاء إذا لم يكن من يصلح له إلا واحد، لم يصر قاضيًا حتى يُوَلَاه”([43]).

ويقول راشد الغنوشي: “الرسول له صفته الدينية مبلِّغًا عن الله، وهي صفة لا مجال فيها للشورى؛ لأنه لا مجال فيها للخطأ، إلا أن صفته السياسية بوصفه حاكمًا قد اكتسبها بالبيعة، وبالخصوص بيعة العقبة الثانية، التي مثلت الأساس القانوني لقيام دولة المدينة”([44]).

ويقول العقاد: “اتفق فقهاء السنة جميعًا على أن الحكم نيابة أو وكالة عن الأمة، تارة يسمون الإمام بالنائب، وتارة يسمونه بالوكيل”([45]).

ويقول الشيخ بخيت: “إن كتب علم الكلام كلها مطبقة متفقة على أن منصب الخليفة والإمام إنما يكون بمبايعة أهل الحل والعقد، وأن الإمام إنما هو وكيل الأمة، وأنهم هم الذين يولونه ملك السلطة، وأنهم يملكون خلعه وعزله .. فإن مصدر قوة الخليفة هو الأمة، وأنه إنما يستمد سلطانه منها، وإن المسلمين هم أول أمة قالت بأن الأمة هي مصدر السلطات كلها”([46])

ويقول أحمد شوقي:

الدينُ يسرٌ والخلافةُ بيعةٌ       والأمرُ شورى والحقوقُ قضاءُ

النبي والشورى

لما كانت أفعال النبي الدينية وحي من الله، لم يستشر أحدًا في أمر ديني قط، أما الأفعال السياسية الدنيوية، لما كانت متروكة للاجتهادات البشرية، فكان النبي دائم الاستشارة لأصحابه.

وقد فهم الصحابة هذا التفريق بين الأمر الديني والدنيوي جيدًا، لذلك كلما أمر النبي بأمر، سأله الصحابة أولًا: “أهو وحي من الله أم الرأي والمشورة؟”، وحين يتبينوا أن الوحي لم يقطع في المسألة، تشاوروا، وأخذوا برأي الأغلبية، مثل:

  • استشار النبي الصحابة قبل غزوة بدر؛ هل نخرج من المدينة ونقاتلهم؟ فقال: “أشيروا عليَّ أيها المسلمين”، ولم يخرج للقتال إلا بعد تأييد الأنصار.
  • واستشارهم في مصير أسرى بدر، وأخذ برأي أبي بكر.
  • واستشارهم في غزوة أحد؛ هل نلقى العدو خارج المدينة أم نتحصن في المدينة؟ وكان رأي الشيوخ، والنبي معهم، أن يتحصنوا في المدينة، ورأي الشباب الخروج من المدينة، فأخذ النبي برأي الغالبية وخرج من المدينة.
  • واستشارهم قبل حصار الأحزاب للمدينة، وأخذ باقتراح سلمان الفارسي، وحفروا خندقًا حول المدينة.
  • واستشارهم عند حصار الأحزاب للمدينة؛ فاقترح النبي أن يعطيهم نصف حصاد المدينة، لكن رفض الصحابة، فامتنع النبي.
  • واستشارهم في رد أموال هوازن؛ إذ بعد انتصار المسلمين على هوازن في حنين، غَنِم المسلمون أموالهم ونساءهم، وقسَّم النبي الغنائم بين المسلمين، ثم جاء أهل هوازن، وطلبوا من النبي أن يردَّ عليهم أموالهم ونساءهم، فلم يتخذ النبي قرارًا وحده، بل ردَّ ما كان له ولبني المُطَّلب، وقام إلى أصحابه وقال: “إنَّ هؤلاء القوم جاؤوا مسلمين، وقد رأيتُ رد سبيهم، فمَن كان عنده منهنَّ شيء، فطابَتْ نفسه أن يَردَّه، فسبيل ذلك، ومَن أبى، فليرد عليهم، وليكنْ ذلك فرضًا علينا ست فرائض مِن أول ما يفيء الله علينا”، حتى قالوا: رضينا وسلَّمْنا، فرَدُّوا عليهم نساءهم وأبناءهم([47]).
  • واستشارهم في غزوة تبوك؛ فعندما وصل النبي إلى تبوك وأقام بها عشرين ليلة ولم يلق جيش الروم، استشار من معه في التقدم، فكان رأي عمر عدم التقدم، وأخذ النبي برأي عمر.
  • ولم يستخلف النبي حاكمًا بعده، ولم يرشح اسمًا يخلفه، وإنما ترك الأمر شورى بين المسلمين يختارون من يريدون من بعده.

لذلك قال أبو هريرة: “ما رأيت أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله “([48.

اعتراض: رفض كثير من الصحابة صلح الحديبية، لكن أصرَّ النبي على عقد الصلح، وهو بذلك لم يستشر صحابته، ولم يلتزم بالشورى!

لم يكن صلح الحديبية نتاج اجتهاد النبي الشخصي، بل كان وحي من الله، ومما يدل على ذلك: روى عمر أنه قال للنبي: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال النبي: “بلى”، قلت: فلِمَ نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال : “إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري”([49]).

فقول النبي: “لست أعصيه”، دالٌ على أنه حين عقد الصلح كان يطيع أمرًا إلهيًا، ومخالفته عصيان لله.

رابعًا: جهنم تنتظر الظالمين

بعد أن ربى الإسلام المسلمين على الشورى في حياتهم العامة كلها، وبعد أن أسس للشورى السياسية، وبعد أن أسند سلطة التشريع لإجماع المسلمين، وعلَّق منصب الإمامة على البيعة الحرة، وبعد أن مارس النبي الشورى بنفسه وعلَّمها لقومه، يبقى السؤال: ماذا لو لم يلتزم الحاكم بمقومات الحكم الرشيد، وانقلب على الحكم بدون بيعة حرة، وتمادى في الظلم، وألغى الشورى، وعذَّب الأبرياء، وسجن أولي الأمر، وسرق الأموال؟

هل يعتبر الإسلام أن الظالمين المستبدين في الجنة رغم كبائرهم؟ هل يتجاوز عن هذه الكبائر ويعتبرها مسألة جانبية غير مؤثرة؟

قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾([50]).

﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾([51]).

ولم يتوعَّد القرآن الظالمين فقط، بل توعَّد أنصارهم، فقال: ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾([52]).

ويقول النبي: “ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاشٍ لرعيته، إلا حرَّم الله عليه الجنة”([53]).

ويقول: “يؤتى يوم القيامة بالامام الجائر، وليس معه نصير ولا عاذر، فيُلقى في نار جهنم، فيدور فيها كما تدور الرحى، ثم يرتبط في قعرها”([54]).

ويقول: “ما من أحد يكون على شيء من أمور هذه الأمة – قَلَّت أم كثرت – فلا يعدل فيهم إلا كبَّه الله في النار”([55]).

ويقول: “إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها”([56]).

ويقول: “إن أخوف ما أخاف عليكم الأئمة المضلون”([57]).

ويقول: “إن الله سائل كل راعٍ عما استرعاه: أحفظ أم ضيع؟”([58]).

بهذه الآيات الحاسمات والأحاديث القاطعات يعرِّي الإسلام الحاكم من كل لقب وسلطة وحاشية، ليقف وحده أمام ربه، ملك السماء والأرض الحقيقي. عبدٌ ذليل أمام إلهٍ قهار وجبار، بالأمس كان يظن ألا يقدر عليه أحد، واليوم يقول: يا ليتني كنت ترابًا. ويحاسب الله عبده عن دمعة فقير في ليلة باردة من وجع الجوع، ويحاسبه على صرخة مظلوم في سجن تحت التعذيب، ويسأله عن درهم استخدمه بغير وجه حق. وما كان ربك نسيًّا، وما يظلم ربك أحدًا.

فيكفي الحاكم أن يستشعر هذه المسئولية الجسيمة، والحساب العسير، والوقفة الحتمية، ليذوب جلده، وينفطر قلبه، فإما أن يعدل أو يعتزل.

وقد استشعر أبو بكر هذه المسئولية فقال لأبيه: “طُوِّقتُ عظيمًا من الأمر، ولا قوة لي به”([59]).

وقال عمر بن الخطاب: “لو ماتت شاة بالفرات لظننت أن الله سائلى عنها يوم القيامة”، وقال: “وددت لو أني خرجت منها كفافًا؛ لا عليَّ ولا ليَّ”([60]).

وتروي زوجة عمر بن عبد العزيز أنه كان ينتفض فزعًا على فراشه ليلًا حتى تقول: “سيصبح الناس دون أميرهم”!

خامسًا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

لم يكتفِ الإسلام بالمصير الأخروي للمستبدين الظالمين، بل جعل لهم مصيرًا دنيويًا يلقوه على يد المسلمين.

الإسلام يعتبر الإنسان خليفة في الأرض، خليفة يستعمر الأرض ويستصلحها، خليفة تقوم به القيم والأخلاق، فيقيم العدل ويرفع الظلم بيديه، هذه هي الأمانة العظمى التي أبت السماء والأرض والجبال أن يحملنها، وحملها الإنسان.

قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾([61]).

وبناءً على ذلك لا يكتمل إيمان المرء إن أراد أن ينعزل عن الواقع ويكتفي بالعبادة والذكر، بل أحد واجباته وفروضه هي عمارة الأرض، بما يتضمنه من الانغماس في الواقع، والاهتمام بمشكلاته، ومتابعة أحداثه، ومقاومة الظلم.

ولن يكتمل عمران ولا معنى للخلافة إلا بشرط ودعامة هي لب العمران: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذلك هو شرط صلاح الأمم ورهن خيريتها، ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾([62])، أي أنتم خير أمة، ما دمتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وإن زال الشرط زالت الخيرية.

لذلك قد أوجب الله على كل مسلم فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يفوته معروف إلا وقد أمر به، ولا يمر أمامه منكر إلا ويحاول منعه.

﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾([63]).

﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ﴾([64]).

يقول ابن حزم: “اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منهم”([65]).

وقد اعتبر المعتزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلًا من الأصول الخمسة للدين.

وعلي عزت بيجوفيتش يعتبر أن هذا المبدأ كافٍ لتعريف الإسلام، فيقول: “إن الإسلام هو دعوة إلى أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أي تؤدي رسالة أخلاقية”([66]).

ولا معروف أعظم من إقامة العدل والحرية والمساواة، ولا منكر أغلظ من الظلم والاستبداد، وتحريف الدين، وهدم الأخلاق، وسجن العلماء، وتعذيب الأبرياء، وسرقة المال العام، واغتصاب الحكم، لذلك فأولى غايات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو إقامة الحكم الرشيد العادل وإزالة الاستبداد الظالم.

لذلك نصَّ النبي تحديدًا على أمر الحكام بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وقول الحق في وجوههم دون خوف أو جبن، فقال:

“سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله”([67]).

“إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر”([68]).  

“ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل”([69]).

“سيليكم أمراء بعدي يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فمن أدرك ذلك منكم فلا طاعة لمن عصى الله”([70]).

وعن عبادة بن الصامت: “بايعنا رسول الله على السمع والطاعة .. وأن نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم”([71]).

وقد كان المسلمون في الصدر الأول لا تنقطع رقابتهم على حكامهم، ولا يتوقف نصحهم ونقدهم، ولا ترتخي شجاعتهم وصلابتهم في قول الحق وإنكار المنكر.

فهذا أبو بكر يقول في خطبة البيعة: “أيها الناس فإني قد وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم”([72]).

وقال عمر بن الخطاب: “أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمر، ما كنتم فاعلين؟ فقال بشير بن سعد: لو فعلت قومناك تقويم القدح! قال عمر: أنتم إذن أنتم”([73]).

وقال محمد بن مسلمة لعمر: “لو مِلتَ عدلناك، كما يُعدَّل السهم في الثقاف”، فقال عمر: “الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا ملت عدلوني”([74]).

وقال رجل لعمر: اتق الله يا أمير المؤمنين، فوالله ما الأمر كما قلت. فقال عمر: “دعوهم، فلا خير فيهم إذا لم يقولوها لنا، ولا خير فينا إذا لم نسمعها”([75]).

يقول علي شريعتي: “كان أقل انحراف من الحكومة باعثًا كافيًا لتقاطر الناس على المسجد، وإثارة (صداع) عند الهيئة الحاكمة”([76])

يقول راشد الغنوشي: “واجب الأمة رقابة الحكام، وأدلة هذا الوجوب من الكتاب والسنة والإجماع وسير الخلفاء كثيرة، وتدور كلها حول المبدأ الإسلامي العظيم: مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يمثل بحق السلطة الرابعة في الدولة، السلطة القوَّامة على بقية السلطات، سلطة الأمة المباشرة، أي سلطة الرأي العام عبر جهود الأفراد ومؤسسات المجتمع، من صحف ومساجد وجامعات ومراكز، الخ”([77]).

ولكي يحيى هذا المبدأ في عصرنا الحالي يجب أن يتحول إلى مؤسسات رادعة للمنكر ومُشجِّعة للمعروف، وهو ما يتمثل في عصرنا في صورة مؤسسات العمل الأهلي، سواء أحزاب سياسية، أو جمعيات خيرية، أو أكاديميات علمية، أو أُسَر طلابية، أو نقابات عمالية، فالمسلم الذي يستحق لقب (خليفة) هو المسلم العالم بالحق، الهادي للخير، الثائر على الظلم.

سادسًا: الأنبياء ثوار

سير الأنبياء في القرآن يظهر أنهم لم يكتفوا بإبلاغ الوحي وتعليم الناس العقائد، ولم ينعزلوا عما يدور حولهم من قضايا سياسية واجتماعية، لكن يظهر القرآن أنهم كانوا في البداية ثوار، اقتحموا السياسة، وحاربوا الظالمين، وجاهدوا لإنكار المنكر، وغرسوا لواء العدل.

النبي الثائر/ موسى

أطول القصص القرآنية هي قصة موسى وفرعون، والجانب السياسي من القصة أكثر حضورًا من الجانب العقدي، بل الأهم أن مقاومة موسى لاستبداد فرعون كان هو الأولى والأسبق من الهداية الدينية لقومه.

فحين ابتعث الله موسى نبيًا ورسولًا ليواجه شعبًا قلوبهم ﴿ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾([78])، و﴿ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾([79])، و﴿ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴾([80])، ويواجه حاكمًا يعلن بوقاحة: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾([81])، بمن يبدأ موسى؟

كانت وجهة الرسالة: ﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴾([82]). ومضمونها: ﴿ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾([83])، وبعد أن أخرج موسى بني إسرائيل من قبضة الاستبداد، وجَّه الرسالة كلها لإصلاحهم، وعندئذ نزلت التوراة وبدأ التشريع.

والدرس هنا واضح وجلي: الحرية قبل الشريعة، والتحرر من الاستبداد قبل الإيمان. ولا يعني ذلك تراجع أهمية الإيمان، بل يجب أن يُعرض الإيمان على نفوس حرة، تحيا في عدالة، تملك قرارها في يدها، أما الأمة المقهورة المسجونة المسلوبة الاختيار، فلن تنظر في إيمان أو كفر، ولن تستطيع أن تتخذ لنفسها دينًا ترضاه.

يقول القرضاوي: “الحرية قبل تطبيق الشريعة”([84]).

ويقول فهمي هويدي: “الحرية قبل الشريعة، والاستقلال قبل الإثنين”([85]).

ويقول حسن الترابي: “لعبرة بالغة كان أهم قصص القرآن هي قصة الاستبداد الفرعوني، التي ضربها الله مثلًا للباطل الذي يقابل حق حرية الناس من الاستعباد في الأرض واجتماعهم بالحرية والشورى لا بالقهر والمصادرة”([86]).

النبي الثائر/ شعيب

لم يكتفِ نبي الله شعيب بالدعوة إلى الله وعبادته، بل قاوم وحارب استقواء الأغنياء على الفقراء غير مرة، فقال لقومه: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ﴾([87]).

 حتى قال قومه: ﴿ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ﴾([88]).

النبي الثائر/ صالح

حرَّض نبي الله صالح قومه ثمود على التمرد على سادتهم الظالمين والمستبدين، فقال: ﴿ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ﴾([89]).

النبي الثائر/ هود

لم يصمت نبي الله هود أمام بطش وجبروة كبراء قومه عاد، بل عارض السلطة الغاشمة الباطشة وفضح احتكارهم وسرقتهم للمال العام، فقال: ﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾([90]).

يقول خالد محمد خالد: “إن تاريخ الأنبياء في القرآن هو تاريخ لثوار، ابتعثهم الله ليواجهوا الظلم والقهر والاستبداد”([91]).

ويقول محمد الغزالي: “استقراء أحوال الأنبياء مع أقوامهم يؤكد حقيقة واحدة، لم تزدها الأيام إلا صدقًا، وهي: أن الاستبداد الأعمى عدو الله، وعدو رسله، وعدو الشعوب، وأنه لا قيام لحق في هذه الحياة إلا إذا طُمست صور هذا الاستبداد، وسُويت به الأرض، ومشت عليه الأقدام”([92]).

ويقول راشد الغنوشي: “أعظم حملات الكتاب الخالد انصبت بعد الشرك على الفراعين وحلفائهم من القوارين”. ويضيف: “الرسل إنما بُعثوا لإقامة العدل وكسر الأغلال وتحرير البشرية”([93]).

***

إنَّ رفض المستبد ذِكرٌ؛ يُقِر أن: (لا إله) قبل (إلا الله) .. وعزله عبادةٌ؛ تكفر بكل سلطان قبل أن تسجد للرحمن .. وفضحه أذانٌ؛ كاشفٌ عن الشر ليتبين الحق .. والخروج عليه فريضةٌ؛ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.

يقول محمد الغزالي: “إني لا أعرف دينًا صبَّ على المستبدين سوط عذاب، وأسقط اعتبارهم، وأغرى الجماهير بمناوأتهم، والانتفاض عليهم، كالإسلام”([96]).

ويقول خالد محمد خالد: “إن طريقة الدين في تحريض الناس على حقوقهم كبشر لم تدع للدكتاتورية الحق في أن تولد، فضلًا عن أن تعيش وتحكم”([97]).


[1]. الشورى: 38

[2]. (صحيح البخاري) ج1 ص124 رقم (604)

[3]. البقرة: 232-233

[4]. النساء: 35

[5]. (فجر الإسلام) ص313

[6]. (الشورى والديمقراطية) ص23

[7]. (الأمة هي الأصل) ص34

[8]. (المبسوط) ج16 ص71

[9]. (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) ج1 ص534

[10]. (الشورى والديمقراطية) ص28

[11]. النمل: 32

[12]. (الشورى والديمقراطية) ص26

[13]. (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) ج1 ص166

[14]. آل عمران: 159

[15]. آل عمران: 159

[16]. (في ظلال القرآن) ج4 ص501

[17]. (التفسير الكبير) ج9 ص410

[18]. (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) ج1 ص534

[19]. آل عمران: 159

[20]. (السياسة الشرعية) ص121

[21]. (الشورى في معركة البناء) ص22

[22]. (الإسلام والاستبداد السياسي) ص76

[23]. آل عمران: 159

[24]. غافر: 35

[25]. إبراهيم: 15

[26]. نوح: 21

[27]. هود: 59

[28]. هود: 97

[29]. (السياسة الشرعية) ص125

[30]. (الشورى في معركة البناء) ص85

[31]. النساء: 59

[32]. النساء: 83

[33]. (تفسير المنــار) ج6 ص314

[34]. (تفسير المنـــار) ج5 ص161

[35]. (تفسير المنـــار) ج5 ص169

[36]. (تفسير المنــار) ج5 ص172

[37]. (مقاصد الشريعة الإسلامية) ص95

[38]. (الإسلام عقيدة وشريعة) ص546

[39]. (فقه الخلافة) ص66

[40]. النساء: 59

[41]. (البداية والنهاية) ج4 ص371-393

[42]. (البداية والنهاية) ج4 ص394-412

[43]. (الأحكام السلطانية) ص28

[44]. (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) ج1 ص255

[45]. (الديمقراطية في الإسلام) ص106

[46]. (الديمقراطية في الإسلام) ص44

[47]. (مسند أحمد) ج6 ص465

[48]. (سنن الترمذي) ج4 ص213

[49]. (صحيح البخاري) ج3 ص193

[50]. الشورى: 42

[51]. البقرة: 205-206

[52]. هود: 113

[53]. (صحيح مسلم) ج3 ص1460

[54]. (شرح نهج البلاغة) ج9 ص261

[55]. (المستدرك على الصحيحين) ج4 ص102 رقم (7014)

[56]. (صحيح مسلم) ج3 ص1457 رقم (1825)

[57]. (مسند أبي داوود) ج2 ص321

[58]. (صحيح ابن حبان) ج10 ص344 رقم (4492)

[59]. (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم) ج4 ص111

[60]. (حلية الأولياء) رقم (137)

[61]. البقرة: 30

[62]. آل عمران: 110

[63]. آل عمران: 104

[64]. التوبة: 71

[65]. (الفصل في الملل والأهواء والنحل) ج4 ص132

[66]. (الإسلام بين الشرق والغرب) ص57

[67]. (المستدرك على الصحيحين) ج3 ص215 رقم (4884)

[68]. (المستدرك على الصحيحين) ج5 ص708 رقم (8590)

[69]. (صحيح مسلم) ج1 ص69 رقم (50)

[70]. (المستدرك على الصحيحين) ج1 ص401 رقم (5582)

[71]. (صحيح البخاري) ج9 ص77 رقم (7199)

[72]. (البداية والنهاية) ج8 ص89

[73]. (التاريخ الكبير) ج2ص98

[74]. (الزهد والرقائق) لابن المبارك ج1 ص179

[75]. (تاريخ المدينة) ج2 ص773

[76]. (بناء الذات الثورية) ص76

[77]. (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) ج1 ص270

[78]. البقرة: 74

[79]. البقرة: 246

[80]. المائدة: 32

[81]. النازعات: 24

[82]. طه: 24

[83]. الأنعام: 105

[84]. https://goo.gl/5KuKaP 

https://goo.gl/vMNeuu

[85]. https://goo.gl/S4KaCv

[86]. (الشورى والديمقراطية) ص24

[87]. هود: 84

[88]. هود: 87

[89]. الشعراء :151-152

[90]. الشعراء :128-130

[91]. (الدين للشعب) ص54

[92]. (الإسلام والاستبداد السياسي) ص94

[93]. (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) ج2 ص162

[94]. الناس: 1-3

[95]. الإسراء: 23

[96]. (الإسلام والاستبداد السياسي) ص88

[97]. (الديمقراطية أبدًا) ص101

إعلان

اترك تعليقا