تشيرنوبل.. هل مازالَ يقتلُنا؟!
في الحلقة الثانية من المسلسل التليفزيوني الذي أنتجته مؤخرًا محطة “HBO” الأميركية ويحمل اسم “Chernobyl” والذي يستعرض المحطات المأسوية لكارثة نووية تُصنَّف كأسوأ كارثة تسرُّب إشعاعي وتلوُّث بيئي شهدتها البشرية على الإطلاق. هذه الكارثة التي بدأت أحداثُها بعد منتصف ليلة السادس والعشرين من شهر أبريل لعام 1986 في القسم الرابع من مُفاعِل تشيرنوبل النووي بالقرب من مدينة بريبيات الأوكرانية التي كانت حينذاك واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وذلك عندما حاول خبراء المُفاعِل إجراءَ تجربةٍ للتحقُّق من سلامته فأدى خطأٌ في التشغيل بعد غلق وسائل الأمان إلى انفجار نواة المُفاعِل مُطلِقًا كمًا هائلًا من الإشعاعات تُعادِلُ الإشعاعات التي أطلقتها قنبلة هيروشيما أربعمائة مرة، هذه الإشعاعات التي استمر جزءٌ منها في الانتشار في سماء أوروبا لعدة أيام.
نرشح لك:الاقتصاد الياباني كيف نهضت اليابان بعد الحرب العالمية الثانية
أقول أنَّه في الحلقة الثانية من مسلسل تشيرنوبل بينما يشرح رئيسُ لجنة الخبراء التي شكَّلها رئيسُ الاتحاد السوفيتي آنذاك “ميخائيل غورباتشوف” للوقوف على أبعاد الكارثة واحتوائها، ذكر بروفسير ويدعى “ليغاسوف” في معرض حديثه عن أبعاد الكارثة إنَّ كلَ ذرة من اليورانيوم عند انشطارها تطلق إشعاعًا يكون بمثابة طلقةٍ تستطيعُ أن تخترق كل شيء في طريقها بما في ذلك أكثر المعادن كثافة وأجسامنا بطبيعة الحال، كل جرام من اليورانيوم يحتوي على مليار تريليون من هذه الطلقات، والمُفاعِل يحتوي على ثلاثة ملايين جرام من اليورانيوم.
ظل يحترق وتتسرب الإشعاعات منه على مدار 48 ساعة هذا يعني أنّ ما يقارب من 3 مليون مليار تريليون طلقة في صورة جزيئات كانت مكشوفة وجزء غير ضئيل منها تصاعد من قلب المُفاعِل وحملها الهواء لتنتشر في كافة أرجاء المعمورة، ليختلط بالهواء الذي نستنشقه وبالمياه التي نشربها والطعام الذي نتناوله هذه الجزيئات التي ستظل نشِطة لمئات الأعوام وبعضها يستمر في النشاط لعشرة آلاف عام. حدث ذلك قبل أن تتدارك الحكومة السوفيتية الأمر وتبدأ في تدشين أحد أكبر المشروعات الهندسية في التاريخ لدفن المُفاعِل عن طريق إحاطته بحصن خرساني شديد السُمك لغلق قُبَّةِ المُفاعِل ثم تغليفه لاحقًا ببناية أضخم منه للحد أكثر وأكثر من خطورة الإشعاع.
مدى خطورة هذه الكارثة:
تفكرت لوهلةٍ وأنا أستمع لهذا السرد بذهول وتسألت: هل من الجائز أن يكون تشيرنوبل مستمر في قتلنا إلى الآن؟! رغم مرور ثلاثة وثلاثون عامًا على الكارثة هل تكون إشعاعات اليورانيوم سببٌ رئيسي في تفشي مرض السرطان في العالم اليوم؟! وبدون عناء وجدت بالفعل بحثًا لمؤرخة مرموقة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا تدعى كيت براون، تشير في كتاب لها باسم “دليل البقاء على قيد الحياة: دليل تشيرنوبيل للمستقبل” إلى أن العلماء وقت الكارثة، قالوا إن الانفجار سوف يؤدي إلى مقتل الملايين من البشر على مدى 80 عامًا قادمة نتيجة للتأثير المباشر والغير المباشر لتدعيات هذا الحادث، وهو الأمر الذي يلقي بظلاله الآن على ارتفاع نسبة الوفيات جراء مرض السرطان. وأكدت على أنَّ العلماء الدوليين قاموا بقمع الأدلة حينها على انتشار مرض السرطان بين الأطفال والكبار أيضًا، كما تعتقد أن الزيادة في نسبة انتشار السرطان قد تكون مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتشيرنوبل، بينما تتهرب الحكومات ورؤساء الصناعة النووية من المسؤولية.[1]
اقرأ أيضًا: رعب تشيرنوبل الذي فاق خيال البشر
كذلك تم تسجيل نحو 20 ألف حالة من حالات سرطان الغدة الدرقية في الفترة بين عامي 1991-2015 بين السكان الذين كانوا دون سن 18 عامًا في عام 1986 وقت وقوع الحادث في كل من بيلاروسيا وأوكرانيا ومناطق في الاتحاد الروسي، وذلك حسبما جاء في ورقة بيضاء أصدرتها حديثًا لجنةٌ علمية تابعة للأمم المتحدة والمعنية بآثار الإشعاع الذري للحادث، قُدِّمت فيها نتائجُ جديدة حول الآثار المترتبة على حادث تشيرنوبل على حالات سرطان الغدة الدرقية.[2]
بينما أكدت إحصائيات أوكرانية رسمية أن 2.3 مليون نسمة من سكان البلاد لا يزالون إلى اليوم يعانون بأشكال متفاوتة من إشعاعات الحادث.[3] هذا ما يدفع منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسف” إلى الآن على حث حكومة أوكرانيا وحكومات البلدان التي لا تزال تتأثر بالغبار المشع الذي سقط بعد الانفجار على إضافة مادة اليود في غذاء الأطفال الذين يعيشون في المنطقة الملوثة فهم أكثر عرضة لتأثير الإشعاعات، ويمكن تقليل الضرر على هؤلاء الأطفال بواسطة تعميم إضافة مادة اليود إلى الملح.[4]
لكن بعيدًا عن تلك النتائج الكارثية، ألا يستحق هذا الدرس القاسي التأمُّل والتعلُّم منه؟
لنستعرض الأسباب التقنية والسياسية لوقوع هذه الكارثة.
أولًا، الأسباب التقنية:
من المعلوم أنَّ المفاعلات النووية تعتمد ببساطة على استغلال الحرارة المنبعثة من انشطار ذرات اليورانيوم في إنتاج البخار وبالتالي توليد الكهرباء، لكن حرارة هذا التفاعل يجب أن تتوازن حتى يتم السيطرة عليها، فذرات اليورانيوم إذا أطلقنا لها العنان تستطيع أن تنشطر إلي لا نهاية لأنه طبقًا لقوانين الفيزياء النووية أي انشطار نووي يؤدي إلى آخر وبدوره يؤدي إلى آخر جديد، وهكذا في سلسلة لا تنتهي من التفاعلات. لذلك كان الاتحاد السيوفيتي آنذاك يعتمد في تبريد المفاعل على الماء ويعتمد في كبح جماح الانشطار النووي في قلب المُفاعِل على أقطاب مصنوعة من عنصر البورون التي تعمل كمكابح للسيارة للتحكم في سير التفاعل.
ولمزيد من الأمان فكل مفاعل مُصمَّم به زر عند الضغط عليه يتوقف المفاعل تمامًا. والمفاعلات السوفيتية كانت مصمَّمة بحيث تدخل أقطاب البورون إلى النواة لإيقاف التفاعل بمجرد الضغط علي هذا الزر الذي يدعونه AZ5.
في تلك الليلة كان من المفترض أنْ يتم اختبار سلامة المفاعل وكان المخطَّط له هو غلق توربينات التبريد وتقليل التيار الكهربي لكن من الواضح أنَّ تقليل وسائل الأمان تجاوز الحد اللازم وأدي خطأ في التشغيل إلي فشل التجربة وخروج المفاعل عن السيطرة، في النهاية أراد الطاقم المناوب أن يوقف المفاعل فضغط على الزرAZ5 ، ودخلت بالفعل أقطاب البورون لنواة المفاعل لإيقافه لكنه لم يتوقف وازداد التفاعل ومعه ازدادت الحرارة إلي درجة الأنفجار.
السبب الذي كان يَخفَى على الطاقم حينها هو أنَّ أقطابَ البورون تلك كانت أطرافها مصنوعة من عنصر الجرافيت وهو عنصر في العادة لا خطر منه، لكن لأن المُفاعِل حينها كان قد فاق الظروف الطبيعية، فالجرافيت تفاعل مع اليورانيوم بل وكان عاملًا مساعدًا على الانشطار خاصةً وأن قلب المُفاعِل قد تسمّم بعنصر الزينون وهو عنصر كيميائي ينتج مع انشطار اليورانيوم ويحترق في الظروف الطبيعية بلا خطر لكن مع تقليل جهد المفاعل أثناء التجربة لعدة ساعات لم يحترق الزينون وظل يتراكم في نواة المفاعل مما ساعد على وقوع الكارثة مع الجرافيت، وكان الاتحاد السوفيتي من الدول القليلة التي تستخدم الجرافيت في أقطاب مفاعلاتها لرخص ثمنه رغم أنَّه غير آمن تمامًا.[5]
وبعيدًا عن الأسباب التقنية لهذه الكارثة، من المؤكَّد أنَّ هناك أسبابًا أخرى سياسية واجتماعية تراكمت حتى يصل الأمر لهذه النهاية المأسوية التي غيرت مصير الاتحاد السوفيتي ودفعت ميخائيل غورباتشوف للاعتراف فيما بعد بأن تشيرنوبل هو بداية الانهيار الحقيقي للاتحاد السوفيتي الذي أعلن تفككه بعد سنوات قليلة من الحادث.
نرشح لك: تـشيرنوبل: تأثير ما بعد التجسيد الدرامي للكارثة النووية الأعظم
ثانيًا: الأسبابُ السياسيةُ:
يُلقِي المسلسلُ الضوءَ على العديد من تلك الأسباب والتي سنستعرض أهمها هنا وهو ما نستطيع أن نطلق عليه “الثمار الخبيثة للدولة الشمولية” والاتحاد السوفيتي آنذاك كان نموذجًا مثاليًّا للدولة الشمولية، فلا صوت يعلو على صوت الدولة متمثلًا في الحزب الشيوعي الحاكم والمحتكر لكل أشكال السلطة، فجميعُ المسؤولين والقادة وصناع القرار أعضاءٌ في الحزب وجزءٌ منه يستقوون أيدولجيته ولا يخرجون قيد أنملة عن تعاليمه التي أًضحت شبه مقدسة، فما كان من هذا الترسيخ للطيف الواحد والرأي الواحد والقرار الواحد، إلَّا أنَّ تعاظُّم الغرور وتفشي إنكار الواقع وتم محو مصطلح الفشل من قاموس الأمة السوفيتية فاستوطنت البيروقراطية وأصبحت سرطنًا ينهش في جسد الدولة الاتحادية وطفحت على أوصلها قيحًا من الروتين والمركزية وهرمية السلطة، فأُسنِدت المناصب لغير أهلها وأصبحت الغاية هو الحفاظ على شكل الدولة حتى لو كان الثمن هو أرواح مواطنيها.
يذكرنا ذلك بمقولة المفكرة الألمانية حنة آرنت:
من يحاول إرضاء الأنظمة التوتاليتارية (الشمولية) كمن يطعم تمساحًا جائعًا آملًا في أن يكون هو نفسه آخر من يفترسه هذا التمساح.
هذا ما تعلَّمه رئيس المناوبة في مُفاعِل تشيرنوبل وهذا ما طبقه بحذافيره في تلك الليلة المشئومة، فرفض الانصياع لكافة التحذيرات وأصرّ على إتمام التجربة في ظروف غير سانحة على الإطلاق حتى ينال تقدير رؤسائي، وسار على دربه الساسةُ وصُنَّاعُ القرار، فالغرورُ وإنكارُ الحقيقة ورفضُ الاعتراف بالخطأ كل ذلك ساهم في تأخير احتواء الكارثة لعدة أيام قبل تدارُّك الموقف على يد بعض العمال الذين ضحوا بأرواحهم لإنقاذ العالم وبعضُ العلماءِ الشجعان كذلك والذين دفع بعضُهم ثمنَ الخروج عن النص والاعتراف بالفشل وافتقار المفاعلات السوفيتية لوسائل الأمان المكلِّفة والمتبعة في باقي دول الغرب مثل “ليغاسوف” الذي انتحر أو قُتِل “لا أحد يعلم” بعد تسجيل كافة ملابسات الحادث على أشرطة صوتية تم تداولها على نطاق واسع.
إذا صحت رواية انتحاره فقد فعل ذلك على الأرجح هربًا من بطش الأجهزة الأمنية لكنّه مع ذلك ترك صرخة دوى صداها الأوساط العلمية وأجبر الضغط الحكومة السوفيتية على مراجعة نظم الأمان في كافة المحطات النووية. دفع الروس “تكلفة الكذب” ثمنًا باهظًا كما ندفع نحن اليوم تداعيات هذا الحادث، ونأمل ألَّا يدفعَ أحفادُنا ثمن نفس الممارسات في المستقبل، فالاحتباس الحراري الذي يترصدنا شبحُه الآن على سبيل المثال يُواجَه بنفس الرعونة والاستخفاف ولا حياة لمن بأيديهم مصائرنا.[6]
المراجع والمصادر:- 1- تقرير بعنوان " باحثة تكشف استمرار "تشيرنوبل" في قتلنا. موقع RT وهذا رابط الكتاب على موقع أمازون. 2- تقرير بعنوان " بعد عشرين عاماً، لا تزال كارثة تشيرنوبيل تؤثر في صحة الأطفال " على موقع اليونيسيف عربي. 3- تقرير بعنوان " إحياء الذكرى 33 لكارثة تشيرنوبل النووي " موقع أخبار الآن. 4- ورقة من جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة عن الدورة الثامنة والستون والخاصة بمناقشة جهود مكافحة آثار كارثة تشيرنوبل. 5- مقال كارثة تشيرنوبل على الويكيبيديا. 6- مسلسل تشيرنوبل.