ترددات قتالية

نستعرض بعين الواقع أهمّ نموذج يشغل حيّزًا مؤثّرًا للغاية في فضاء الإعلام العالميّ بكافّة أنواعه: الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

عنكبوت الإعلام يحتوى كلّ شيء، بحيث لم تعد هناك حاجة للمعارك المباشرة على أرض الواقع إلا للطرف الأضعف تمامًا. فالنّظريّة تطوّرت مِن بدء المعركة على الشّاشة الافتراضيّة ثمّ حسْمها على أرض الواقع إلى بدء المعركة وحسمها ككلّ على الشّاشات، وذلك لتقليل الخسائر الاقتصاديّة وتحقيق مكاسب معنويّة أكبر. كما أنّها استُخدِمت كأداة للتغطية على أحداث أخرى. قِسْ على ذلك أغلب أزمات الدّول والسّاسة الآن، كلّها تبدأ في الإعلام وتنتهي فيه. ونحن في مقاعد المتفرّجين تتجاذبنا التردّدات القتاليّة. ولنا أنْ نستعرض بعين الواقع أهمّ نموذج يشغل حيّزًا مؤثّرًا للغاية في فضاء الإعلام العالميّ بكافّة أنواعه: الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

فى العشرين من يناير 2017، تمّ تنصيب الرّجل البرتقالي دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتّحدة الأمريكيّة، رقم 45، بعد خوضه معارك إعلاميّة طاحنة نقلته خلال ربع قرن من خانة رجال الأعمال إلى خانة نجوم الفضائيّات التي أوصلته بدورها لإى البيت الأبيض. وبمراجعة تاريخ الرّجل، نجد أنّه صناعة إعلاميّة خالصة وانعكاس حقيقيّ لتطوّر وسائل التواصل مع العالم، فمنذ الثمانينات وترامب يقدّم نفسه لمجتمعه الأمريكيّ كرجل أعمال شابّ يدير إرث والدة الملياردير العقاريّ، بل ويُدلي بوجهات نظرٍ صريحة عن مكامن الثروات فى الشرق الأوسط الذي يراه محفظةً ماليّة كبرى يجب أن تحلبها الولايات المتحدة لصالحها.

ولمواجهة حالات الإفلاس التي تعرّضت لها إمبراطوريّته العقاريّة اتّجه دونالد ترامب لتغيير جلده مع الوقت، فهو مُشاركٌ بالظّهور في الأفلام الأمريكيّة ونجمٌ لتيلفزيون الواقع ومنظرٌ لآراء شخصيّة حادّة وبطلٌ لعلاقات ملتهبة. وكلّها مشاهد تروّج بالأساس لبقاء الرّجل تحت الضّوء دائمًا ليجد العون الاقتصاديّ من كلّ معجب ومستفيد من كونه متعدّد الظّهور والأدوار والمواهب.

حافظ دونالد ترامب على تواجده الإعلاميّ بشقّيه الاجتماعيّ والاقتصاديّ حتى جاء عام 2013 ليعلن الرجل عن دور بطولة جديد وكبير عبر إظهار نواياه للترشّح للرئاسة الأمريكيّة 2016، وإعداده كتاب أمريكا العرجاء فى 2015 موضّحًا توجّهاته السياسيّة لاستعادة مجد أمريكا من جديد على حدّ زعمه.

نجح الرّجل فى تفعيل نظريّة “الديموقراطيّة الماليّة” التي تمزج بين الأسحلة الثلاثة “المال – الإعلام – والدّعم الخارجيّ” حتى استطاع تغيير مسار التوقّعات العالميّة وقلب الطّاولة على منافسته هيلارى كلينتون فى معركة انتخابات 2016، ليبدأ بعدها مباشرةً في تصنيف الإعلام المرئيّ تحديدًا إلى أصدقاء وأعداء.

إعلان

فالأصدقاء لا مشكلة معهم طالما يدعمون رؤيته ويصفّقون لكلّ خطواته، أمّا الأعداء فقد هاجمهم واستبدلهم بمنصّته الهامّة على موقع “تويتر” التي غرّد من خلالها نحو 36300 تغريدة خلال عامه الرئاسيّ الأوّل، كان أبرزها التالي:

أوّلًا: دونالد ترامب وعلاقته بالصّين 

منذ اللحظة الأولى لظهوره مرشَّحًا للرئاسة الأمريكيّة، عمد دونالد ترامب إلى مهاجمة الصّين اقتصاديًّا من خلال إلقاء اللوم عليها فى تقويض قوّة الاقتصاد الأمريكيّ وضياع ملايين فرص العمل على الأمريكيّين مستشهدًا بالعجز الضّخم في الميزان التجاريّ بين بلاده والصّين والذي يبلغ نحو 276 مليار دولار، بل وراح يتّهمها صراحة بالتلاعب بعملتها الوطنيّة بتخفيض قيمة اليوان أمام الدولار للاستحواذ على نصيب أكبر من كعكة الصادرات العالميّة، حتى وصفته الصحافة الصينيّة بأنّه أكثر المرشّحين الرئاسيين الأمريكيين هجومًا على الصّين في التاريخ الحديث.

ترجم دونالد ترامب المرشّح تغريداته وتصريحاته العدائيّة تجاه الصين إلى أفعال مقلقة حين صار رئيسًا، فقد بدأ ولايته بتعيين بيتر نافارو صاحب كتاب “الموت للصين” مستشارًا تجاريًّا له بالبيت الأبيض، وزاد على ذلك قيامه بتلقّي اتصال من رئيسة تايوان التي تعتبرها الصين جزءًا منها حتى الآن، وهو الأمر الذي يهدّد اعتراف أمريكا بمبدأ وحدة الصين السياسيّة. كما تعهّد ترامب تعزيز العلاقات العسكريّة مع تايوان وإثارة نزاعات بحر الصّين الجنوبيّ مجدّدًا، حتى جاء اللقاء الأوّل بينه وبين الرئيس الصيني فى واشنطن -ابريل 2017، لقاء الأسماك الكبيرة الذى وصفه ترامب باللقاء الصّعب قبل أن يبدأ.

ورغم كلّ ما سبق لم يخرج هذا اللقاء عن الإطار البروتوكوليّ المعتاد بسبب صبر وحكمة التنّين الصينيّ الدائمة التي امتصّت الكثير من الهياج السياسيّ المفتعَل من قِبل ترامب.

بعد كل تلك المعطيات المتتالية والسريعة التي ألقتها الإدارة الأمريكيّة الجديدة دفعة واحدة، لم يجد ترامب الصّدى المطلوب لهزّ الأرض تحت أقدام الصين، فسارع بإثارة الملفّ النوويّ لكوريا الشماليّة المدعومة كليًّا من الصين وروسيا، وأصرّ على توجيه صواريخه الإعلاميّة لتلك المنطقة الغامضة من العالم ليتبادل كيم كونج اون زعيم كوريا الشماليّة وترامب التردّدات القتاليّة الإعلاميّة التي بشّرت بالحرب العالميّة الثالثة. وحتى اللحظة، تُدار الحرب النوويّة المفترضة بين الطّرفين إعلاميًّا فقط ويبدو أنّها ستنتهي على الشّاشات أيضًا؛ لأنّ ليس هناك طرف ضعيف تتسلّمه أرض الواقع، فكوريا الشماليّة، ومن ورائها الصين وروسيا، طرف بالغ القوّة والخطورة وكذلك الولايات المتّحدة، ومن ورائها حلفاؤها الأوروبيّون، طرف عظيم القَدْر والقوّة عالميًّا.

ثانيًّا: دونالد ترامب وعلاقته بروسيا

فى مايو 2017، وأثناء عقد الانتخابات الرئاسيّة الفرنسيّة سَخِرتْ قناة روسيا اليوم من قضيّة التدخُّل الروسيّ في الانتخابات الأمريكيّة على طريقتها حين أوردت فى مقدّمة نشراتها الإخباريّة الجملة التاليّة: “بعد تدخُّلنا في أمريكا 2016 انتظرونا في فرنسا 2017″، في إشارة للمعنويّات الروسيّة المرتفعة جرّاء مزاعم اختراق الحملات الانتخابيّة الأمريكيّة، وهي تلك القضيّة التي تؤرّق منصِب ترامب حتى اليوم، وأُقيل على إثرها أربعة مسئولين أمريكيين كبار، أهمّهم جيمس كومي، مدير مكتب التحقيقات الفيدراليّة، الذي أقاله ترامب خوفًا من إعادة ملفّ التدخّل الرّوسيّ في الانتخابات الأمريكيّة، إلا أنّ ذلك لم يفلح في طيّ الملفّ تمامًا وبقي الأمر رهن التحقيق ولكن ليس بنفس القوّة التي بدأ بها، ومازال الأمر كلّه يُدار إعلاميًّا بين إدارة ترامب وخصومه الداخليين ولم ينتهي بعد، في انتظار ضعف أحد الطّرفين.

ثالثًا: علاقته بإيران والشّرق الأوسط

في نهاية مايو 2017، انعقدت القمّة الإسلاميّة الأمريكيّة في الرياض بالمملكة العربيّة السّعوديّة، وذلك في أوّل زيارة خارجيّة للرئيس ترامب بعد تولّيه منصبه. هذه القمّة “الإسلاميّة” لم تشمل إيران لتبدو كتكتّل دوليّ واسعٍ داعمٍ للسّعوديّة ضدّ إيران التى توسّعت سياسيًّا وعسكريًّا في قضايا الشّرق الأوسط؛ من سوريا والعراق ولبنان شمالًا إلى اليمن جنوبًا.

افتتح ترامب أعمال القمّة بالدّعوة لمواجهة الإرهاب الإيرانيّ وإعادة النّظر في الاتّفاق النّوويّ الذي رفع العقوبات عن طهران فى بدايه 2016، وبعد أسبوع تقريبًا من انتهاء القمّة اشتعلت إعلاميًّا الأزمة الخليجيّة مع قطر كترجمةٍ أوّليّة لفعّاليّات زيارة ترامب للشرق الأوسط، ليتبادل جيران إيران الخليجيين الاتّهامات القائمة من زمن ولكن هذه المرّة بشكل واضح ومُعلَن بعد دبّوس ترامب.

هنا، تتكشّف الفوضى الإعلاميّة في إدارة تلك الأزمة بعد أن سارع ترامب بتأكيد الاتّهامات الخليجيّة لقطر. وعلى جانب آخر، وبنفس الوقت، وبمنظور المصلحة الأمريكيّة الخالصة اتّخذت كلٌّ من وزارتيّ الدّفاع والخارجيّة الأمريكيّة موقفًا معاكسًا تمامًا لتصريحات ترامب بدعم قطر. وبين قوسي هذين المشهدين المتناقضين عادت الأمور إلى الطُّرُق الدّبلوماسيّة الطّويلة فى سبيل إيجاد حلّ يحفظ وجوه الجميع الذين بدا لهم أنّ تلك الأزمة الخليجيّة الوظيفيّة لم تَنَلْ من إيران كما ينبغي، بضرب المثل لها بالسّعي لإسقاط النظام القطريّ صاحب العلاقات الجيّدة مع طهران.

حتّى لاحت فى الأفق بوادرُ تحرّكات شعبيّة إيرانيّة ضدّ الفشل الاقتصاديّ في البلاد، حينها عزف ترامب على الوتر المشدود بتأييدٍ ودعمٍ اليكترونيٍّ سريع للمحتجّين على الأرض دون دراسة متأنّية للتركبية المعقّده للنّظام الإيراني الذي يسيطر حرسُه الثوريّ على أكثر من ثلث مقدَّرات الاقتصاد فى البلاد، بالإضافه لثلثٍ آخرٍ تابع من المنتفعين والمؤيّدين لبقاء نظام المرشد الممتدّ لما يقرب من أربعين عامًا.

هدأت الاضطّرابات الداخليّة الإيرانيّة وهدأت معها وتيرة إدارة ترامب الإعلاميّة، فالمعركة مازالت بين طرفين قويّين تطفو وتنتهي على الشّاشات لِحين إشعار آخر، ودون مواجهة مباشرة على الأرض لأنّ الطّرف الأضعف لم يظهر بعد.

وأخيرًا، تستمرّ التردّدات القتاليّة التي يتزعّمها ترامب وإدارته في ضرب نموذج عصريّ مهمّ وكاشف لتأثير دور الإعلام متعدّد الأسلحة والجبهات، دون الحاجة لنقل أيّ منها من مشاهد الفضائيّات اللحظيّة إلى اشتباكات الواقع المؤجَّلة.

قد يعجبك أيضًا للكاتب

إعلان

اترك تعليقا