تحدّيات الأمن النووي في ظلِّ واقع روسيّ جديد

منذ بداية الحرب العسكريّة الروسيّة في أوكرنيا في العشرين من فبراير 2022 بدأت خارطة العالم السياسيّة والاقتصاديّة في التغيّر. فهل أصبح الأمن النووي العالمي بعد التطورات الأخيرة هو الآخر في مهب الريح؟

بعد بداية الحرب الروسية بأربعة أيام فقط أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن المحطة النووية تشيرنوبل أصبحت بالكامل تحت السيطرة الروسية. وكان هذا أول جرس إنذار تعلنه الحرب على الأمن النووي العالمي. علمًا بأن أوكرنيا قبل الحرب كانت تملك 15 مفاعلًا نوويًا قيد العمل موزعين على أربع محطات. أول تلك المحطات وأكبرها (وربما تكون هي أكبر محطّة نووية فى العالم) هي محطة زاباروجيا (Zaporizhzhia) والتي تحتوي على ستة مفاعلات من نوع VVER. وهناك أيضًا محطة خميلنيتسكي (Khmelnytskyi) التى تحتوي على مفاعلين قيد التشغيل ومفاعلين آخرين قيد الإنشاء. وكذلك محطة ريفنى (Rivne) ومحطة جنوب أوكرانيا (South Ukraine). وأخيرًا محطة تشيرنوبل (Chernobyl) المعروفة والمتوقّفة عن العمل، والتي تم السيطرة عليها من الجانب الروسي مع بداية الحرب كما قلنا.

ومواقع تلك المحطات موضّحة فى الخارطة الأوكرانية المرفقة أسفل الفقرة من الرابطة النووية العالمية (World Nuclear Association). فمن الطبيعي إذن أن تشكّل الطاقة الكهربائية المنتَجَة من المفاعلات النووية فى أوكرانيا تقريبًا نصف إجمالي التوليد الكهربائي فى البلاد. وذلك ما يجعل من تلك المفاعلات أيضًا أمنًا قوميًا لأوكرانيا.

خارطة أوكرنيا وموضح عليها مواقع المحطات والمفاعلات النووية
Credit: World Nuclear Association

وبحديثنا عن دولة بحجم أوكرانيا وبكمية المفاعلات النووية التى تحويها، فلا بد أن تشكل أيّ عمليات عسكرية فيها خطرًا نوويًا كبيرًا. وبالفعل فى الرابع من مارس 2022، وقع أول هجوم عسكري مسلّح على محطة نووية مدنية على الإطلاق. وكانت تلك المحطة هى محطة زاباروجيا (Zaporizhzhia) ذات الستة مفاعلات نووية. وتلك السابقة التاريخية التى قامت بها روسيا بدبابات عسكريّة مسلّحة على أكبر محطّة نوويّة في العالم ليس لعبًا بالنار وحدها؛ بل بمصير الكوكب بأكمله.

إعلان

فإن تلك المفاعلات بُنيت لتتحمّل الزلازل والظواهر الطبيعية والحوادث النووية الناتجة عن أخطاء التشغيل، ولكنها لم تُبنى أبدًا لتتحمّل الهجمات العكسرية المسلّحة. ورغم أن تلك الدبابات العسكرية أصابت مبنى تدريب داخل المحطة النووية بالفعل على بعد 300 متر فقط من المفاعل الأول بها، لكنها لم تصب أيًّا من المفاعلات الستة أو أيًّا من المكنونات الأساسية حسب تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وبالتالي لم يتم الإبلاغ عن أيّ زيادة فى معدلات الإشعاع عن المعدلات الطبيعية أو الإبلاغ أن أيّ تسريب.

وعلى الرغم من ذلك، أفادت شركة الطاقة النووية الأوكرانية إنيرجوأتم (Energoatom) فى التاسع من مارس 2020 أن المفاعل السادس بالمحطة تم وضعه تحت الإصلاح الإضطراري. وكان ذلك نتيجة الأضرار التى لحقت بالمحوّل الكهربائي جرّاء الهجوم المسلّح. وبغض النظر عن الأضرار الحقيقية التي أدّى لها هذا الهجوم الأول من نوعه، فإن وجود محطة نووية ضمن نطاق العمليات العسكرية هو أمر لم يتم الالتفات له بشكل كافٍ من قبل. فماذا عن العمال والمهندسين المطالبون بمتابعة تشغيل تلك المفاعلات عالية الحساسية والخطورة بكفاءة فى ظل شعورهم بالحرب والخطر على بعد أمتارٍ قليلةٍ منهم؟ وكيف كانت بيئة العمل تدور فى ظل هذا الارتباك الذى فرضته الحرب؟

وما مضت بضعة أشهرٍ حتى أتى يوم 22 من يوليو 2022 ونشرت المخابرات العسكرية الأوكرانية لقطات لضربة بطائرة بدون طيار على القوات الروسية في محطة زاباروجيا (Zaporizhzhia). وتم التبليغ بعد ذلك أن القصف ألحق أضرارًا بأحد خطوط إمداد الطاقة الخارجية بالمحطة. ولحسن الحظ مجددًّا أنه لم تحدث أضرارٌ للمفاعلات نفسها، ولم يتم التبليغ عن تسريب إشعاعي. ولكن تم بعد ذلك فى السادس من أغسطس بالإبلاغ أن قصفًا أدى إلى تدمير الجدران والسقف والنوافذ في منطقة منشأة تخزين الوقود النووي المستهلك بالمحطة فيما أصيب أحد حرّاس الأمن.

الأمن النووي
جانب من زيارة المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية لموقع المحطة ومطالعته الأضرار بها. ويظهر بوضوح فى الخلفية المفاعل الثالث على مقربة من الأضرار العسكرية.

كل هذه الأحداث يشهدها العالم للمرة الأولى. والواقع بأن يتم القصف والتعدّي على محطة نووية ومنشآتها عسكريًا أصبح خبرًا معتادًا في القنوات والصحف. ففي 23 أغسطس أيضًا، أبلغت أوكرانيا الوكالة الدولية للطاقة الذريّة أن المزيد من القصف قد ألحق أضرارًا بالمختبرات والمنشآت الكيميائية في محيط المحطة النووية، مما أدى للتعجيل بوفد من الوكاله الدولية للطاقة الذرية لزيارة المحطة ومعاينة الأضرار الناجمة من القصف المتتابع فى الأول من سبتمبر 2022. وعقب تلك الزيادة دعت الوكالة للإنشاء الفوري لمنطقة حماية وأمن النووي حول المحطة.

وقال المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي:

“من الواضح أن المحطة النووية والسلامة المادية لها قد انتهكت عدة مرات”

وفى الأول من أكتوبر 2022، اعتقلت القوات الروسية المدير العام للمحطة وأعلنت الوكالة الدولية بعد ذلك أنه لن يعود إلى دوره فى إدارة المحطة النووية مرة أخرى. حتى نُفاجأ في 5 أكتوبر 2022، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أصدر قرارًا بنقل محطة زاباروجيا (Zaporizhzhia) النووية إلى السيطرة والإشراف الروسي الكامل. حيث ينص القرار على إنشاء شركة جديدة لتكون مسؤولة عن المحطة، وهي منظمة تشغيل المحطة النووية زاباروجيا (the Operating Organisation of Zaporizhzhia NPP).

ووصفت وزارة الخارجية الأوكرانية القرار بأنه

“محاولة غير مشروعة فى سلسلة طويلة من الجرائم وانتهاكات القانون الدولي التي ترتكبها روسيا”

ورغم أن الشركة النووية الروسية المعروفة روس آتم (Rosatom) نشرت عبر موقعها أن تلك الشركة الجديدة التي دشّنها الرئيس الروسي بوتين ستضمن التشغيل الآمن لمحطة الطاقة النووية المعتدى عليها وأنها تملك الخبرة الكافية لذلك؛ إلا أن هذا تحدٍ لم يسبق أن حدث من قبل. ولا بد على المجتمع الدولي والوكالة الدولية للطاقة الذرية أن تدرك أن الواقع الجديد لا بد أن يفرض اتجاهات تمنع مثل هذا المساس بالمنشآت النووية فى المستقبل. وربما يكون الحل من خلال إبرام اتفاقيات تنصّ على تنحية المحطات النووية ومنشآتها خارج نطاق الحروب والنزاعات، أو بفرض مناطق حماية وأمن نووي حول المحطات كما أعربت عن ذلك الوكالة من قبل.

وإلا فإن انتشار المفاعلات النووية حول العالم والتوسّع بها قد يحمل تهديدات جديدة، خصوصًا مع دخول دول جديدة كل عام فى سباق بناء المفاعلات النووية. وأن محاربة التغيّر المناخي والتقليل من انبعاثات الوقود الطبيعي (الغاز والفحم) لا بد أن يسارع من وتيرة بناء المفاعلات النووية جنبًا إلى جنب مع مصادر الطاقة المتجددة (الشمس والرياح). ولذلك فقد يكون الواقع الروسي الجديد فى أوكرانيا ما هو إلا ناقوسًا يدق بالخطر للعالم حتى يتجهز لمثل هذه المواقف. وأن يحرص على ألا تتكرر في بلادٍ وظروفٍ أخرى قد تكون أسوأ أو أفضل من تلك التى ناقشناها فى المقال.

المصادر

  1. Nuclear Energy Agency
  2. World Nuclear Association
  3. Rosatom Nuclear Power Company
  4. Nuclear Engineering International
  5. International Atomic Energy Agency

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: حمدي عرقوب

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

تحرير/تنسيق: خالد عبود

الصورة: سارة عمرو

اترك تعليقا