باب الحديد .. لماذا حطم الجمهور السينما يوم عرضه؟
في عام 1939 قدم كمال سليم للسينما فيلمه الخالد “العزيمة”، الفيلم الذي استقبل استقبالًا نقديًا هائلًا حينها، وعده النقاد الأجانب واحدًا من أهم أفلام العام عالميًا، ثم وضعته رابطة النقاد المصريين عام 1996 على رأس قائمة تضم أفضل مئة فيلم مصري.
خالف سليم في العزيمة الأنماط التقليدية للفيلم المصري حينها، وصور الحارة المصرية، وانتهج نهجًا واقعيًا، كان غريبًا للغاية في ذلك الوقت، في ظل سينما محلية وعالمية تميل في الأكثر إلى الأفلام الترفيهية، وإلى الاستعراضات الغنائية الراقصة داخل الأفلام، ورغم السبق المصري في تقديم هذا النوع الواقعي من السينما، ورغم الأهمية النقدية الكبيرة لفيلم كمال سليم، إلا أن الفيلم لم يستطع أن يحول مسارات الحركة السينمائية المصرية، واستمر صناع السينما في مصر يقدمون الأفلام الغنائية بشكل أكبر، ويعتمدون في بناء أفلامهم على تيمة المغني والتياترو، والقصص الرومانسية حيث البطل ينتصر في النهاية.
وفي عام 1958 وبعد ما يقارب 20 عامًا، حاول يوسف شاهين تكرار التجربة في باب الحديد ، كان شاهين حينها في بداياته الفنية، عمره الفني 8 سنوات، وعمره الفعلي لم يجاوز الثانية والثلاثين، وكان قد قدم بعض الأفلام الأكثر انتماءً للمدرسة الواقعية منها إلى القوالب المعتادة للفيلم المصري، فقدم من إنتاج جبرائيل تلحمي “صراع في الوادي”، و”صراع في المينا” وحقق كلا الفيلمين وقتها نجاحًا جماهيريًا معقولًا، وكتب محمد حسنين هيكل، الصحفي المقرب من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عن الفيلم فقال “خرجت معجباً بكل هؤلاء، بفاتن حمامة التي أدت دورها ممثلة رائعة، وبعمر الشريف برغم شوشته المنكوشة علي رأسه، وبكاتب القصة وواضع السيناريو، وقبل هؤلاء جميعًا، بمخرج الفيلم.
لم يكن فيلم باب الحديد كما تعودنا أن نري دائماً قصة بنت الباشا الهاربة مع سائق سيارته، ولم يكن في الفيلم رقص بطن، ولم تكن فيه أغان تحشر بين المشاهد والسلام، إنما كان الفيلم قطعة من صميم الحياة، قطعة فيها فكرة، ولها روح، ووراءها هدف، ولقد خرجت من الفيلم وأنا مؤمن أن الدولة يجب أن تغير سياستها تجاه السينما المصرية، ما دامت السينما المصرية قد بدأت تغير اتجاهها أيضًا”
كان الاستقبال الجماهيري المعقول، والاستقبال النقدي المميز بما في ذلك الإشارة التي بعثها “الأستاذ” إلى صناع الفيلم في مقاله، دافعًا إلى مزيد من التجريب والخروج على الأشكال النمطية، فتعاون يوسف شاهين مع عبد الحي أديب ومحمد أبوسيف في صناعة باب الحديد بعد صراع في المينا بعامين، وبعد عدة أفلام رومانسية وغنائية قدمها شاهين منها، ودعت حبك، وأنت حبيبي.
ورغم المؤشرات الإيجابية التي سبقت عرض الفيلم، إلا أن الواقع جاء مختلفًا كثيرًا، سقط الفيلم سقوطًا مدويًا في السينمات، وكاد جمهور العرض الأول يحطم المقاعد قبل نهاية عرض الفيلم وهو يطالب باسترداد أمواله، وتحدث عبد الحي أديب كاتب القصة قائلًا “أخر ما كنت أتوقع أن يفشل فيلمي تجاريًا هذا الفشل الذريع في ذلك الوقت”.
“أخر ما كنت أتوقع أن يفشل فيلمي تجاريًا هذا الفشل الذريع في ذلك الوقت.”
ورغم المفاجآة الصادمة لشاهين وعبد الحي أديب، وقبلهم بالطبع المنتج جبرائيل تلحمي، إلا أن أسبابًا واضحة يمكن أن تبرر هذا الفشل الكبير للفيلم تجاريًا، والذي أضحى وبعد عرضه التلفيزيوني واحدًا من أنجح أفلام شاهين وأكثرها مشاهدة.
فعلى رغم كون أفلام مثل العزيمة، وصراع في الوادي، وصراع في الميناء، خالفوا الشكل السينمائي السائد وقتها في نقاط كثيرة، إلا أن كل هذه الأفلام ارتكزت على فكرة البطل الواحد، والخير الذي ينتصر في النهاية، في حين كسر باب الحديد هذه القواعد بشكل كلي، لم يكن لفريد شوقي دور كبير على مستوى الأحداث، إذا ما قورن بدور يوسف شاهين حين أدى شخصية قناوي، ورغم ظهور إسم شاهين الممثل ثالثًا بعد شوقي، وهند رستم، إلا أنه استطاع أن يحقق أداءً استثنائيًا يخطف فيه الأنظار كليًا، ولم يكن مشاهدو السينما في ذلك الوقت على استعداد لمشاهدة فيلم من بطولة المخرج الذي يظهر للمرة الأولى على الشاشة.
كان باب الحديد محاولة يوسف شاهين لكسر صورة البطل النمطي، حاول شاهين في البداية إقناع محمود مرسي -الذي لم يظهر على الشاشة من قبل- بأداء دور أبو سريع ليكون الدور هو ظهوره الأول على شاشة السينما، إلا أن مرسي اعتذر لضآلة المبلغ المالي المعروض عليه نظير بطولة الفيلم، خاصة إذا ما قورن بأجر هند رستم البطلة.
رفض محمود مرسي دفع يوسف شاهين للاستعانة بفريد شوقي، والذي أدى وجوده إلى تعقيد أمور الفيلم بشكل أكبر، إذ توقع الجمهور أن تذهب الأحداث في اتجاه نجم الشباك الذي قطعت التذاكر لأجله، وتوقع البعض فيلمًا من أفلام الحركة، مليء بالمعارك والمطاردات، غير أن كل التوقعات لم تكن صحيحة فكان الأمر مخيبًا لآمال الجمهور، ذلك أن الفيلم كان جديدًا كليًا.
لم يكن فريد شوقي هنا هو البطل الرئيسي لأحداث فيلم باب الحديد كما توقعوا، ولم يكن يؤدي دورًا تقليديًا، كان دوره مساندًا للخط الرئيسي، إضافة إلى مشاركته في بناء خط درامي ثاني يعطي عمقًا أكبر للفيلم، هو خط النقابة، وصراع العمال والمهمشين في محطة مصر، وهو الخط الذي لولاه لأضحى دور أبو سريع فرعيًا للغاية.
إلى جانب الصدمة التي تلاقاها الجمهور -حينها- فيما يخص مسألة البطل، تلقى الجمهور أيضًا صدمة كبيرة في توقعاته بشأن مسألة الخير والشر، لم يكن الفيلم – على عكس السائد- يصور صراعًا تقليديًا بين خير وشر، ولم تكن النهاية انتصار للخير على الشر، كانت الشخصيات مرسومة بحرفية بالغة بحيث تحمل كل شخصية، ملامح من خير إضافة إلى ملامح شريرة، بشكل أربك الجمهور حينها إذ لم يكن معتادًا على توزيع تعاطفه بين الشخصيات، في حين كان بناء الفيلم قائم على جعل الجمهور يتعاطف في النهاية مع قناوي، الذي قتله المجتمع الذي رفضه، قبل أن يحاول هو قتل هنومة.
لم يكن “قناوي” شريرًا في نظر جمهور الفيلم، كان مريضًا، محرومًا، مثيرًا للتعاطف، ولم تكن “هنومة” طيبة تمامًا، كانت تتلاعب به كالآخرين، وتشاكس هذا وذاك، وفي الوسط كان “أبو سريع” يفتقد لملامح البطل الرومانسي التقليدي، لصالح شخصية الشيال الحاد مع حبيبته إذا أخطأت، تركيبة كانت عجيبة للغاية وغير مستساغة في حينها إلا أنها سرعان ما أثبتت أن إيرادات الفيلم لا تعني النجاح أو الفشل على المستوى الفني.
الفيلم الذي سقط جماهيريًا، رشحته مصر وقتها ليكون ممثلها في مسابقة الأوسكار للأفلام غير الناطقة بالإنجليزية كأول فيلم مصري ترشحه لنيل هذه الجائزة، كما حاز نجاحًا نقديًا باهرًا حين عرض في برلين، ورشح لجائزة الدب الذهبي في نفس العام.
العجيب أن أسباب نجاح الفيلم الباهر على المستوى النقدي هي نفسها أسباب فشله جماهيريًا، فالفيلم صنع أشخاصًا حقيقيين ولم يصنع أبطالًا خارقين، وهاجم المجتمع الذي يعاير العاجز ويهينه بشكل غير مباشر، وأشار إلى رغبات وأحلام قناوي في بيت هادئ بعيد عن الناس، وفي زوجة يعود بها فقط إلى بلدته التي قست عليه.
إلى جانب البناء المميز لشخصيات الفيلم، كان التجسيد قويًا للغاية، أدى يوسف شاهين بشكل استثنائي، يجعلنا نتسائل عن الأسباب التي دعت شاهين لقمع الممثل بداخله لسنوات طويلة قبل أن يعود إلى التمثيل في بعض أفلامه بعد سنوات طويلة.
هند رستم أيضًا أدت دورًا مهمًا للغاية في الفيلم، ومثلت عنصر الإغراء بحرفية بالغة، وهو إغراء فني غير مبتذل، استخدم بشكل منضبط جدًا ليساهم في بناء القصة، ويعزز فكرة الحرمان لدى الشخصية الرئيسية “قناوي”.
على الجانب الأخر أدى فريد شوقي المطلوب منه تمامًا، غير أن دوره لم يكن قويًا بحجم أدوار شاهين، أو هند، أو حتى حسن البارودي، والسبب هنا ليس لنقص في موهبة أو قدرة فريد شوقي الضخمة، ولكن لأن دوره على الورق لم يكن بحجم تعقيد بقية شخصيات الفيلم، الذي اعتمد على الإثارة النفسية، وكان أحد رواد هذا النوع من الأفلام في مصر.
وإذا كان بناء الشخصيات والتجسيد جاءا على مستوى عال جدًا، فالقصة والإخراج مع الموسيقى التصويرية الممتازة أديا في الفيلم دور البطولة، إذ تنشئ القصة خط أحداث رئيسي مع قناوي، وخطين فرعيين الأول مع فريد شوقي وأزمة النقابة والعمال، والثاني مع فتاة محطة القطار، التي تلتقي حبيبها سرًا قبل رحيله لأربع سنوات، وإذا كان المجتمع قد أوصل قناوي إلى الهوس الجنسي، فإنه قمع أيضًا الحب في صورته العذرية على الخط الروائي الثالث، وإذا كان أبو سريع قد حصل مع مشهد النهاية على هنومة، فإن الفتاة في ذات المشهد تابعت القطار وهو يبتعد بحبيبها، في إبراز للتضاد باستخدام الكادر السينمائي، الكادر الذي طوعه يوسف شاهين ببراعة طوال أحداث الفيلم، ما مكنه من صناعة مشاهد ممتازة، بفلسفة إخراجية رائعة.
باب الحديد، هو أحد أهم أفلامنا العربية على الإطلاق وهو بكل تفاصيله يعطي دروسًا في وجوب تغليب الرؤية الفنية للعمل، وأهمية التجريب والإبداع، وهو وإن كان قد فشل جماهيريًا قبل 60 عامًا، فإنه بقي بعدها وأثبت نجاحًا على المستويين الجماهيري والنقدي، وأثبت أن الذين لم يقبلوا به كانوا مخطئين، ذلك أن الفن الحقيقي يبقى، ويعرض حتى بعد 60 عامًا، في حين تندثر أعمال أخرى، وإن حققت الملايين.