الجزء الثاني من سلسلة الوعي “الوعي والفلاسفة”
الوعي والفلاسفة
في بداية هذا المقال أحب أن أنوه أن أغلب ما فيه مجرد عرض للآراء لكن لقلة المحتوى العربي على الإنترنت في هذه القضية فضلت أن أنشر عدة مقالات بهذا الشأن لأهميته، وهنا سنستعرض أهم الآراء في قضية الوعي كذلك سنشرح بعض المصطلحات الرائجة في هذا السياق.
رابط الجزء الأول من سلسلة الوعـي
1. ديفيد شالمرز والزومبي الفلسفي:
ولد ديفيد شالمرز في أسترليا سنة 1966 وكان يعد نفسه للتخصص في الرياضيات ثم صار مهتمًا بالوعي. نال تعليمه الجامعي في أكسفورد ثم عمل ابتداءً من عام 1983 مع مجموعة دوجلاس هافستادتر ودوجلاس هو أستاذ العلوم المعرفية الأمريكي وتدور أبحاثه حول الشعور بالذات والوعي وصياغة التشبيهات والإبداع الفني والترجمة الأدبية والاكتشاف في مجال الرياضيات والفيزياء.
نال شالمرز شهرةً واسعةً بسبب اهتمامه بالوعي وصكّه لمصطلح “المشكلة الصعبة” مقارنةً بالمشكلات السهلة للوعي وقد عمل عدة سنوات مديرًا لمركز دراسات الوعي بجامعة أريزونا ونظم خلالها سلسلة من مؤتمرات “نحو عالم الوعي” ثم عاد إلى أستراليا ليعمل أستاذًا ومديرًا لمركز دراسات الوعي في جامعة أستراليا الوطنية بكامبيرا.
ونلخص أفكاره في التالي:
1.يمثل ديفيد شالمرز الرأي المتوازن بين الماديين وبين اللاماديين في النظر إلى الوعي ويعتبر موضوعيًا إلى حد كبير في الخروج باستنتاجه.
2. يرى أن خبرتنا الذاتية هي السمة المميزة للإنسان ومعظم الكائنات الحية، وقد تجاهلها العلم واكتفى بدراسة خصائصنا الموضوعية ويرى أنه ينبغي أن يعاود العلم الاهتمام بها.
3. يرى أن مهما توصل العلم من تفسيرات للمشكلات السهلة المتعلقة بالوعي مثل معرفة كيف تؤدي العمليات المخية الفيزيوكميائية المادية فهو يعجز عن حل المشكلة الصعبة للوعي، والمقصود به: صعوبة تفسير كيف تنتج العمليات الفيزيائية في المخ الخبرات الذاتية، أي كيف تنتج طوال موجات اللون الأحمر مثلًا خبرتنا بحمرة هذا اللون، ويقارن شالمرز بين المشكلة الصعبة والمشكلات السهلة مثل فهم آليات عمليات السمع والإبصار والإدراك والذاكرة والتعلم والانفعال، وتتعلق المشكلة الصعبة بمشكلة العقل/الجسم والفجوة التفسيرية.
ارتباط الفجوة التفسيرية بالوعي
والمقصود بالفجوة التفسيرية أنها الفجوة بين العقل والمخ، بين الداخلي والخارجي، بين الذاتي والموضوعي أو بين الوعي والعالم الفيزيائي، وهي تعني ببساطة أن الحقائق عن العالم الفيزيائي تعجز عن تفسير الحقائق عن الوعي.
وهذه الفجوة مرتبطة بالمشكلة الصعبة بالوعي، وهي ما يسميها وليم جيمس “الصدع الكبير” أو “الهاوية السحيقة” ويعتقد الغيبيون أمثال كولن ماك جن أن هذه الفجوة لن يمكن عبورها، بينما يتبنى الزوجان تشيرشلاند ودينيت وكريك الرأي المخالف ويعتبرون أن الفجوة ستختفي مع تقدم العلوم العصبية.
ويتبنى شالمرز أننا لو نجحنا في حل كل المشكلات السهلة فستبقى المشكلة الصعبة والتي هي الوعي والخبرة الذاتية مستعصية الفهم.
4. يرى أن الوعي مكون أساس ابتدائي للوجود كالزمان والمكان والشحنة والكتلة ولا يمكن اختزاله إلى منظومات أبسط، وينبغي أن يبحث العلم عن القوانين التي تحكمه وعن العلاقات بينه وبين العالم الفيزيائي.
5. صك مصطلح الزومبي الفلسفي ويرى أنه غير ممكن واقعيًا وجوده لكن محتمل نظريًا، والزومبي الفلسفي هو تجربة عقلية طرحها شالمرز ويتشابه الزومبي تمامًا مع الإنسان الطبيعي في مظهره الخارجي وسلوكه ولكن ليس لديه الخبرات الذاتية الواعية التي يسمونها الكواليا -سنقف على تعريف الكواليا في السطور القادمة- فمثلًا إذا وخزت الزومبي بآلة حادة، فهو لن يشعر بأي ألم لكنه سيتصرف كأنه شعر بالألم، كأن يقول آه ويبتعد عن الآلة الحادة ويقول أنه يشعر بالألم.
آراء الفلاسفة حول الزومبي الفلسفي
ويختلف الفلاسفة المهتمون بالوعي حول إمكانية وجود الزومبي الفلسفي ما بين مؤيد ومعارض، إذ يتبنى المعارضون أن كيانًا هذه صفاته لا بد أن يكون واعيًا، ويستخدم مفهوم الزومبي الفلسفي ليدعم الأدلة ضد المذاهب الفيزيائية كالمادية والسلوكية والوظائفية.
والمقصود بالسلوكية: هو مذهب يسعى لفهم سلوك الإنسان والحيوان ويعتبر أن التصرفات السلوكية كلها إمّا ردود أفعال انعكاسية لمثيرات بيئية، أو توابع لتنشئة الإنسان بأسلوب الثواب والعقاب، ذلك بالإضافة إلى المثيرات التحفيزية، وفي نفس الوقت لا ينكر السلوكيون دور الوراثة في السلوك لكنهم يركزون بشكل أكبر على العوامل البيئية، تبعًا لذلك يعتبر السلوكيون أن المطلوب لدراسة الإنسان هو دراسة سلوكه فقط، لذلك كله ينكر السلوكيون الإرادة الحرة والخبرة الذاتية بل والذات الإنسانية.
وفي هذا السياق هناك قصة رائعة حدثت بين عالم النفس السلوكي سنكر وبين الفيلسوف البارز الفرد نورث وايتهيد، ففي إحدى المناسبات عام 1934 وجد سنكر نفسه يجلس في عشاء إلى جانب وايتهيد، وشرع يشرح له المنهج السلوكي في علم النفس، فلم يلبث وايتهيد أنْ نطق بهذه العبارة: “لا عقرب أسود يسقط على هذه المائدة”، ثم طلب من سنكر أن يفسر له لماذا قال ذلك، وقد مر أكثر من عشرين سنة قبل أن يحاول سنكر الإجابة ففي ملحق لكتابه السلوك اللفظي الصادر في عام 1957 اقترح سنكر أن وايتهيد كان يعبر بطريقة لا واعية عن خوف من السلوكية، مشبهًا إياها بعقرب أسود لن يسمح له بأن يقتحم فلسفته والقارئ المتشكك معذور إذ استخلص أن هذه الإجابة تنتمي إلى مدرسة التحليل النفسي أكثر مما تنتمي إلى المدرسة السلوكية، وليكن الأمر ما يكون فإن وايتهد أظهر ببراعة ضعف السلوكية بعبارة واحدة.
أمّا الوظائفية فيتبنى هذا المذهب أن صفات النشاطات العقلية تحددها علاقاتها الوظيفية من العلاقة بين المدخلات الحسية والسلوك، ويعتبر هذا المذهب أحد الحلول التي قدمت لمشكلة العقل والجسم كالثنائية ونظرية الهوية والفيزيائية. ويتبنى الوظائفيون أنك لو استنسخت بدقة كل وظائف المخ البشري الواعي في آلة فإنها ستكون واعيةً حتى وإن كانت بنيتها مختلفةً تمامًا عن عصبوناتنا البيولوجية. وقد سادت الوظائفية العلوم المعرفية لفترة قبل أن يرفضها بعض كبار الفلاسفة مثل ند بلوك وسيرل.
6. يرى شالمرز أن الخبرة الذاتية أو الكواليا ليست ضرورية للوظائف المخية، لذلك فدور التطور البيولوجي في نشأتها محدود وينبغي البحث عن تفسير آخر.
7. يرى أن الإرادة الحرة مفهوم مُحير فبالرغم من استشعارنا بممارستها فإن اختياراتنا تكون موجهةً بمقدمات مسبقة.
8. الأرجح أن الوعي سيتلاشى بالموت ولغموض الوعي قد يكون هذا الترجيح خطأ تمامًا، وكم سيكون ذلك رائعًا.
9. يرى أن معارفنا عن التعالقات العصبية للوعي ما زالت في إطار العلاقات المصوالكواليا هي الكيية “الذاتية” لأية خبرة حسية، مثل رائحة القهوة أو حمرة الوردة وتنظر الفلسفة إلى الكواليا باعتبارها خاصية داخلية للخبرة، إنها شيء خصوصي للشخص ولا يمكن وصفة للآخرين، ويعتبر بعض الفلاسفة أن خبرتك بالكواليا هي كل ما يمكن أن تعرفه هذه الخبرة الذاتية والذي لا يستطيع آخر أن يعرفه منك على الإطلاق.
احبة وعلينا أن نوليها المزيد من الاهتمام البحثي حتى نتوصل إلى ما فيها من علاقات سبيية.
و يبحث الكثير من العلماء عن مراكز أو أنماط النشاطات العصبية التي تصاحب الخبرات الواعية المختلفة وهذا يعني التعالقات العصبية للوعي neural correlates of consciousness. فمثلًا يستخدم العلماء تقنيات مسح المخ أو تسجيل نشاط العصبون الواحد ليحددوا أي العصبونات أو المراكز المخية يكون نشيطًا عندما يشعر الشخص بمثير معين أو يخبر إحساسًا ما، ويعتبر المتخصصون أن هذا التناول قد يمكّننا في المستقبل من تحديد أسباب أو موضع الوعي في المخ بينما يعتبر آخرون أن تحديد هذه العلاقات السببية غير ممكن، كما يُقصد بالتعالقات العصبية للوعي مقارنة النشاطات العصبية أثناء حالات الوعي وعدم الوعي وهو ما يصفه سيرل بقوله: “إن تفسير الوعي يتم من خلال إدراك الفرق بين المخ الواعي والمخ غير الواعي.”
10. تكمن وظيفة الوعي في أنه مكوِّن أساس في حياتنا فهو الذي يعطي لها معنى، إنه يجعل حياتنا مفهومة معقولة ذات قيمة.
2. دانيال دينيت والتخلي عن البديهيات.
ولد في بوسطن عام 1942 ودرس في هارفارد، حصل على الدكتوراه من أكسفورد عام 1965 ومنذ عام 1971 أصبح يعمل في جامعة تافت في ولاية ماساشوستس كمدير لمركز الدراسات المعرفية.
من أهم كتبه:
The Intentional Stance
Consciousness Explained
Darwin Dangerous Idea
Freedom Evolves
Intuition Pumps and Other Tools of Thinking
From Bacteria to Bach and Back
هنا سنلخص أغلب آرائه حول قضية الوعي في عدة نقاط مع الشرح لبعض المصطلحات المُستخدمة:
1. يمثل دانيال دينيت أقصى درجات المذهب المادي في النظر إلى الوعي والمذهب المادي هو مذهب يتبنى أن الكون فقط من المادة وأنه يمكن تفسير كل الظواهر العقلية في ضوء مصطلحات مادية.
2. إن الخبرة الذاتية “الوعي” هي أن تكون لنا وجهات نظر بالمعنى الواسع، أي قدرة حقيقية على تمييز الواقع.
3. الوعي حقيقة لكنه ليس كما نظن، ذلك أننا ننسب لأنفسنا وعيًا أكثر من الحقيقة.
4. ينبغي دراسة الخبرات الذاتية دراسةً موضوعية.
5. يمكن عبور الهوة بين وعينا ووعي الكائنات الأدنى “حتى الأشجار” على خطوات ويتطلب ذلك التخلي عن بعض ما يعتبره الكثيرون من بديهيات الوعي.
6. فكرة الزومبي الفلسفي غير مقبولة لا واقعيًا ولا نظريًا، ذلك أن كائنًا يسلك مثلنا تمامًا لا بد أن يكون واعيًا.
7. يتمسك المتدينون بفكرة الزومبي الفلسفي لأنها تثبت ثنائية الإنسان التي تعشمهم بالخلود الذي يحققه الإيمان بإله خالد قادر، هنا ينتهي كلام دينيت، ولكن يجب أن نقف هنا وننظر إلى هذا الأمر في الثنائية حيث يشير دينيت هنا إلى مصطلح مسرح ديكارت وهذا المصطلح صكّه دينيت ليصف الفكرة الشائعة بأن هناك موضوعًا ما في المخ أو العقل تتجمع فيه الأشياء ثم يرصدها كيانٌ “قزم” في أمخاخنا فيحدث الوعي، ويعتبر دينيت أن معظم المتخصصين الذين يرفضون ثنائية ديكارت ما زالوا ينظرون إلى الوعي باعتباره يحدث في مكان أو في وعاء في المخ، لذلك أطلق دينيت اصطلاح المادية الديكارتية على هؤلاء الذين يدعون المادية ومع ذلك ما زالوا يؤمنون بالمسرح الديكارتي أي أن المادية الديكارتية تتبنى نوعًا من الثنائية.
نبدأ الحكاية من القرن السابع عشر عندما وضع الفيلسوف الفرنسي الأشهر رينيه ديكارت أشهر نظريات الثنائية التي صارت تعرف بثنائية ديكارت وتقوم هذه الثنائية على أن العقل والمخ كيانان مستقلان ومختلفان في الطبيعة، فالعقل “غير مادي” وغير متموضع، أي لا يشغل فراغًا وليس له مكان، بينما المخ وباقي الجسم كيان مادي، له امتداد مكاني، وإذا كان المشهور عن ديكارت أنه قد جعل عنصري الثنائية العقل – الجسد منفصلين تمامًا فإننا نجد في كتابات ديكارت ما يشير إلى تحكم العقل في الجسد. المشكلة التي تواجه هذا الطرح واضحة وهي كيف يتواصل هذان الكيانان؟ ويجيب ديكارت عن هذا السؤال بأن “الجسم الصنوبري” (الذي يشبه الترمسة ويقع في مركز قاع المخ) هو محطة هذا التلاقي.
ولكن ينبغي ألّا يغيب عنا أن الجسم الصنوبري هو جسم مادي، مما يعني أن المشكلة تظل قائمةً!
إذ كيف يتواصل هذا الجسم المادي مع الكيان غير المادي في الثنائية وهو العقل؟
والمتأمل للمشكلة التي تواجه ثنائية ديكارت يجدها معاكسة لمشكلة الوعي الصعبة التي تواجه الواحدية المادية، فإذا كانت المشكلة الصعبة هي كيف تؤدي العمليات المخية المادية إلى الخبرة الذاتية اللامادية، فإن مشكلة ثنائية ديكارت فهي كيف يتحكم العقل اللامادي في الجسم المادي.
وهنا نصل الى الثنائية ونظريات تفسير الوعي حيث إنه انطلاقًا من ثنائية ديكارت قام الفلاسفة في العصر الحديث بطرح نموذج تشبيهي للوعي، وهو “المسرح الديكارتي” الذي يصور الخبرات الذاتية كأحداث تُعرض في مركز ما في المخ المادي، ومع وجود ذات إنسانية غير مادية ترصد هذه الأحداث، ويرفض الأحاديون الماديون وعلى رأسهم دينيت نموذج مسرح ديكارت جملةً وتفصيلًا، باعتباره مفهوم ثنائي يتطلب وجود ذات إنسانية غيبية، كما يعترضون على فكرة وجود محطة نهائية في المخ تتجمع عندها المدركات لتدخل إلى دائرة الوعي.
وفي الحقيقة، فإنه في إطار ثورة علوم المخ والأعصاب لا نجد شخصًا ذا اعتبار يقول بوجود مركز في المخ يقابل المسرح الديكارتي ولا بوجود كيان حقيقي يرصد ما يقع في هذا المركز من أحداث، وبالرغم من ذلك ما زال ثالوث المادية “دينيت وبول والزوجان تشيرشلاند” يهاجمون المسرح الديكارتي بشدة، وكأنهم يتعمدون الوقوع في مغالطة مهاجمة رجل القش، ويبدو أن هذا الهجوم يحتفظ لهم بمكانة مرموقة بين معارضي ثنائية ديكارت من الماديين.
ويتبني الثنائية الحقيقية الكثيرون من الفلاسفة والعلماء المعاصرين ولعل أبرزهم فيلسوف العلوم الأشهر كارل بوبر وعالم الأعصاب الحائز على جائزة نوبل في الطب جون اكلز، حيث طرحا فكرتهما في كتابهما المشترك “النفس ودماغها” الذي تبنيا فيه وجود عقل مادي واعٍ بنفسه منفصل عن المخ المادي، وهذا العقل قادرٌ على التأثير على المخ من خلال بلايين من الوصلات العصبية synapses.
وإذا كان طرح الثنائية “عقل وجسم” سهلًا وبسيطًا ومقبولًا من وجهة نظر الدين والكثير من الفلسفات ويتماشى تمامًا مع خبراتنا الذاتية فإنه من وجهة نظر العلم طرح لا يزال قاصر باعتباره لا يدلنا على طبيعة مصدر هذا الكيان غير المادي وكيف يكتشف الخبرات الذاتية وكيف يتفاعل مع المخ المادي، ويرى الماديون أن ذلك لا يتم إلا من خلال قوة سحرية ونحن نرجعها إلى علة أولى ونحن لا نمانع بل نرى أنه قد يكون حل الوعي ماديًا ولكن في النهاية فهو يحتاج إلى علة أولى ويعتبرها المتدينين إلهًا.
وهنا نصل أنه أصبح الماديون في مواجهة موقف لا يحسدون عليه فوادية المذهب المادي عاجزة عن تفسير الوعي وهم في نفس الوقت يرفضون قبول الثنائية إذ تسلمهم غالبًا لأطروحات ميتافيزيقية وكبديل مغاير تمامًا لهذين الموقفين يلجأ بعض الماديون إلى الهروب بشكل كامل من المشكلة وذلك بادّعائهم أنها وهم وهذا الطرح غير منطقي ولكنه لمحاولة الهروب من المشكلة بادّعاء أنها غير موجودة أساسًا، وهنا قد يكون الحل في شكل جديد للثنائية حيث يتضح أن الواحدية المادية تعجز ربما بشكل مطلق عن تفسير الوعي، ودليلنا على ذلك تهرب الماديين أمثال دينيت ورفاقه الماديين من القضية برمتها كما يتضح أيضًا أن طرح الثنائية هو الأكثر قبولًا لتفسير الوعي وذلك لسهولته وبساطته وتماشيه مع خبراتنا الذاتية ولكن ماذا لو استطاع العلم في المستقبل تفسير الوعي من خلال عمليات المخ الكهروكميائية؟
حينئذٍ سيشبه موقف سبق أن مرّت به الثنائية وهو التوصل إلى آلية ظاهرة الحياة من خلال منظومة “الدنا- البروتين” بعد أن كانت قناعة العلم هي وجود “قوة حيوية خفية” مسؤولة عن الحياة وقناعة د.عمرو شريف في هذا السياق أن انهيار مفهوم “القوة الحيوية” لم يؤدِّ إلى انهيار مفهوم الثنائية في ظاهرة الحياة بل زادها تأكيدًا! إذ ارتفع بها إلى مستوى أعلى من الخلية الحية.
فمع إدراك ما عليه منظومة (الدنا- البروتين) من تعقيد هائل تعجز العشوائية عنه، فقد حتم ذلك الإقرار إلى مصدر أول كمصدر لهذه المنظومة، وهذا ليس إلهًا لسد الفجوات كما يدّعي الماديون بل هنا أذكر مقولة ريتشارد سوينبرن:
لاحظ أنني لا أفترض “إله الفجوات” إله فقط لأشرح الأشياء التي لم يفسرها العلم إلى الآن، أنا أفترض الله ليُفسر لماذ العلم يُفسر لا أنكر أن العلم يُفسر لكن أفترض الله لأفسر لماذا العلم يُفسر نفس نجاح العلم ليبين لنا عنق التنظيم في العالم الطبيعي يوفر أرضية قوية للاعتقاد أنه هناك حتى علة عمق لهذا التنظيم.
فالعلم يتحدث عن الآلية والميكانيكية ولا يتحدث عن الغائية أو لماذا يحدث هذا الشيء فهو ليس من اختصاصه أو حدوده، لذلك لو ثبت مستقبلًا أن عمليات المخ الكهروكميائية قادرةٌ على تفسير الوعي، فإن هذه المنظومة لن تقل تعقيدًا عن منظومة “الدنا-البروتين” وستحتاج إلى سبب أول يتسم بنفس صفات منشئ منظومة الحياة، في هذه الحالة ستكون منظومة الثنائية قد ارتقت من مستوى ثنائية ديكارت “العقل الجسد” إلى مستوى الإله اللامادي -الوجود نادي، وفيها يتخذ الإله من قوانين الطبيعة آليات يدبر بها الوجود، ويشكل بها الوعي من المخ المادي، وهذا ما نقصده بالثنائية بشكلها الجديد.
8. يقول دينيت أن الإنسان ليس نقطة موجودة داخل عقله هي ذاته بل الإنسان الحقيقي هو الكيان كله.
9. نحن نتمتع بالإرادة الحرة التي ترجع إلى الانسان الكيان كله.
10. لا شيء يبقى بعد الموت إلا السيرة القائمة على أقوالنا وأفعالنا.
11. إن مساهمة دينيت الأكبر في دراسات الوعي أنه جعلنا ندرك أن المذهب المادي أقوى وأكثر تماسكًا مما نظن، وقد فندنا هذا الادعاء في نقطة رقم 7.
12. يطرح دينيت بدلًا من المسرح الديكارتي نظريته في “المسدوات المتعددة” واشتهر أيضًا بطريقته في علم دراسة الظواهرية المغايرة والمقصود بها عكس المذهب الفلسفي المسمى بالفينمولوجيا وهو مذهب ظهر على يد هوسيرل وشاع على يد هيدجر وأيضًا الفلاسفة الفرنسيين ميرلو بونتي وسارتر، وهذا المذهب المرادف للخبر الذاتية كالإبصار والألم وهو يهتم بوصف طبيعة الخبرة الذاتية كما تبدو للوعي دون إخضاعها للاختزال وللنظريات والافتراضات العلمية، ويتبنى دينيت أن الاصطلاح يشير إلى مرحلة ما قبل تصنيف الكواليا إلى خبرات ذاتية مختلفة.
3. باتريكا وبول تشيرشلاند والمشكلة الخادعة.
ولدت باتريكا عام 1943 في كندا ودرست في بتسبرج وأكسفورد وتزوجت الفيلسوف بول تشيرشلاند وقد عملا معًا في جامعة مانيتوبا ومعهد الدراسات العليا في برنستون قبل الانتقال عام 1984 إلى جامعة كاليفورنيا في سان ديجو ليعملا أستاذين للفلسفة، وكان مجال اهتمامهما هو العلاقة بين فلسفة العقل والعلوم العصبية المعرفية، اشتهرت باتريكا بآرائها عن الوعي وقد وصفت المشكلة الصعبة بأنها “المشكلة الخادعة” وأنها ستتلاشى مثل الفاوجستون والمذهب الحيوي وقد رفضت باتريكا مفهوم الزومبي الفلسفي واعتبرته أضعف تجربة عقلية كما سخرت من التماسك الكمومي في الأنبيبات الدقيقة “سنناقش هذا المصطلح بالتفصيل في سلسلة الوعي مع روجر بنروز تحت عنوان الوعي وميكانيكا الكوانتم.”
وهنا نلخص آراء الثنائي تشيرشلاند في عدة نقاط:
1. يمثل الزوجان تشيرشلاند مع دينيت ثالوث الفكر الفلسفي المادي الغربي المعاصر.
2. ترجع صعوبة مشكلة الوعي إلى أن المعروف لنا عن المخ قليل للغاية وعندما تزداد معارفنا ستُحل المشكلة، بعد معارضة تطول أو تقصر، مثلما حدث مع الكثير من المشكلات العلمية مثل طبيعة الضوء.
3. بل ينبغي أن يقوم الفكر الفلسفي على تحديد ما لا يستطيع العلم التوصل إليه بل ينبغي أن يقوم على وضع نظريات إيجابية تفسيرية للظواهر.
4. مثلما اكتشفنا أن الضوء لا يحدث بسبب الموجات الكهرومغناطيسية ولا هو متعالق بها، بل هو عينها، فالأرجح أن الوعي هو عين النشاطات الفيزيوكميائية للخلايا العصبية.
5. توجد في المخ خرائط ممثلة للعالم الخارجي، ويقوم كل منشط باستثارة نقاط فقط، فتشكل عند كل منا خبرته الذاتية عن العالم الخارجي.
6. قد تحمل خلايا معينة في قشرة المخ البصرية شفرة خاصة بكل لون، مسؤولة عن الخبرة الذاتية بالألوان ومثل ذلك مع كل الخبرات الذاتية.
7. إن التعمق في دراسة المخ وعلم النفس يجعلنا ندرك أنهما منظومة واحدة ننظر إليها من زاويتين مختلفتين.
8. يقوم المخ بتشكيل نوع من الثنائية بين ما هو داخل وما هو خارج فنشعر بالحدود بيننا وبين العالم المحيط، ونشعر بأن أفعالنا صادرة عنا، ومن ثم فهي ثنائية خالية من الكيانات الشبحية الغامضة.
9. إن كان الزومبي الفلسفي ممكن منطقيًا فهو غير ممكن واقعيًا.
10. إذا كان السلوكيون مثل دينيت ينظرون إلى الكواليا من زاوية قابلية الخبرة للتسجيل فإن تشيرشلاند ينظران إليها بمنظور بيولوجي يتطلب وضع نظرية عصبية لتفسيرها تقوم على رصد التعالقات بين عمالتنا المخية وبين خبراتنا الذاتية.
11. تتبنى باتريكا أن المخ يشعرنا بتوهم مفيد أخلاقيًا وعلميًا بوجود حرية الإرادة نختار في ضوئها أفعالنا وتتحمل مسؤولياتها، ويرى بول أننا فعلا نتخذ قراراتنا بإرادتنا، لكنها محكومة تمامًا بالظروف المسبقة التي لا يمكن التعرف علها لدقتها، ومن ثم تكون اختيارتنا غير قابلة للتنبؤ.
12. لا بقاء للوعي بعد الموت، ذلك أنه صادر عن المخ الذي يفنى بالموت.
13. اهتم بول بدراسة الوعي باعتباره فيلسوف طبيعي يتبع الوضعية المنطقية، ومن ثم يرى أن المخ المادي مسؤول عن كل الملكات العقلية، بينما يمثل الوعي أحد مجالات البيولوجيا العصبية التي تحوز اهتمام باتريكا.
14. لم تؤثر دراسة الوعي على شخصية باتريكا تأثير عميق أما بول فقد جعلته هذه الدراسة أكثر اهتمامًا بفهم الآخرين وبالجوانب الاجتماعية والأخلاقية، وجعلته أكثر تعلق بالموسيقى التي يحبها بعد أن فهم أسسها العقلية.
4. ند بلوك والمخ الصيني
وُلد في شيكاغو عام 1942 وحصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة هارفارد، شغل كرسي برنامج الفلسفة في MIT.
ومنذ عام 1996 صار أستاذًا للفلسفة وعلم النفس في جامعة نيويورك، اشتهر بنقده لعلم المعرفة والوظائفية، كما اشتهر بتجاربه العقلية كتجربة الأمة أو الشعب الصيني أو المخ الصيني التي سنعرضها هنا ضمن تلخيص آرائه، وأيضًا اشتهر بتمييزه بين الوعي المدخلي التطبيقي وبين الوعي الظاهراتي أو الذاتي أصدر عام 1997 كتابه “طبيعة الوعي: مناظرات فلسفية”
وهنا تلخيص لأغلب آرائه مع شرح لبعض المصطلحات التي تتطلب شرحًا:
1. يعتبر ند بلوك من الفلاسفة الماديين ويختلف مع دينيت في أنه يتبنى وجود منظومة وظيفية وليس تشريحية للوعي داخل المخ، بينما يرفض دينيت وجود المنظومتين.
2. مهتم بعلم وصف الخبرات الذاتية، ومساهمته الأكبر فيه هو وضع التجربة العقلية المعروفة بالمخ الصيني: والمخ الصيني أو الشعب الصيني هي تجربة عقلية صممها ند بلوك حيث يتصور بلوك أن كل شخص صيني مزود بجهاز يعمل كمستقبل ومرسل للموجات يجعله كعصبون في مخ هائل، هو الشعب الصيني، إن المخ الصيني سيعمل كالمخ الطبيعي بالرغم من بنيته المختلفة تمامًا، والسؤال المهم الذي من أجله صُممت التجربة: هل سيكون هذا المخ الصيني واعٍ؟ يرفض بلوك أن يكون المخ واعيًا ويستخدم ذلك كدليل ضد الوظائفية التي تعني أن بنية الأشياء تتماشى تمامًا مع وظيفتها دون أية زيادات تكمليلية “كالوعي” أو جمالية.
3. يذكر بلوك أن هناك فرقًا بين الوعي الذاتي الذي هو خبراتنا الذاتية وبين الوعي المدخلي التطبيقي الذي هو المعلومات المتاحة لأغراض عقلية تطبيقية أخرى.
4. من ينكرون الخبرة الذاتية يكادون هم أنفسهم يكونون زومبي.
5. هناك نوعان من الزومبي، الوظيفي الذي يشبهنا وظيفيًا ويختلف عنا فيزيائيًا وهذا ممكن الوجود، وزومبي فيزيائي يشبهنا فيزيائيًا ووظيفيًا وهذا غير ممكن الوجود لذلك لا تُعتبر جزءًا من ذواتنا.
6. لا يمكن الجزم بوجود أو غياب الإرادة الحرة، ذلك أنه لا مجال للقول بأن الإنسان هو مؤلف سيناريو أفعاله، لكنه في نفس الوقت يستطيع القيام بالأفعال بطريقة مختلفة.
7. الذات الإنسانية التي تدرك الخبرات الذاتية وتمارس الأفعال هي مجموعة من العمليات العقلية المتفاعلة.
8. بدأ ند بلوك اهتمامه بالوعي منذ كان طالبًا جامعيًا واحترف الأمر منذ عام 1996.
9. لم تؤثر دراسته للوعي في خبراته الذاتية فما زالت معارفنا عن الوعي أقل من أن تؤثر في سلوكياتنا.
5. توماس متزنجر ونموذج الذات.
وُلد بألمانيا عام 1958، درس في جامعة جوهان وولف جانج جويث بفرانكفورت، ثم حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة في مشكلات العقل-الجسد من جامعة فرانكفورت، بعدها درس في العديد من الجامعات في ألمانيا والولايات المتحدة، تدور اهتماماته الفلسفية حول موضوعات الأخلاق وطبيعة الذات وفلسفة العلم وخاصة العلوم المعرفية والعلوم العصبية، اُشتهر بنظريته عن “نموذج الذات” ويمارس التأمل منذ فترة طويلة.
يعمل الآن أستاذًا للفلسفة ومديرًا لمجموعة الفلسفة النظرية في جامعة جوهانز جوتنبرج في مينز، حرر كتابي: الخبرة الواعية، العلاقات العصبية للوعي وألف كتاب “أن تكون لا أحد”، كذلك في عام 2009 كتاب نفق الأنا، وكتاب “هذا يفسر كل شيء” سنة 2013 .
وهنا تلخيص لأغلب آرائه:
1. هو صاحب منظور مادي معتدل يعتبر أن الوعي ظاهرة طبيعية.
2. يمثل الوعي مشكلة كبيرة، فهو يتفرد عن العلوم الطبيعية بمنظور الشخص الأول ويشاركها في منظور الشخص الثالث.
3. يمكن دراسة الوعي من خلال منظورين، المنظور النظري، من خلال نظريات تسعى لمعرفة الحقيقة العلمية، ومنظور الخبرة الذاتية الذي يسعى لتيسير تعاملنا مع الوجود وتيسير تكاثرنا والمحافظة على الجنس البشري دون اهتمام بالموضوعية.
4. مثلما نقبل نظريات فيزيائية لا يمكن تصورها “الكوانتم” علينا أن نقبل نظريات لا يمكن تصورها عن الوعي.
5. لا يمكن أن تكون الخبرة الذاتية الواعية مجرد توهمات، ذلك أن أجسامنا الفيزيائية والعالم الفيزيائي يحتاجان إلى تصوير صادق دقيق للواقع تقومُ به ذواتنا حتى يمكننا التعامل معه.
6. حتى إذا كان الشعور بالذات خادعًا تقوم به خبراتنا الواعية، فكثير ما يكون التوهم مفيدًا وظيفيًا.
7. طرح نموذج “الذات الشفافة” الذي يتبنى وجود صورة داخلية للذات لا نستطيع التعرف عليها، وقد كان لظهورها دور تطوري مهم في الصراع من أجل البقاء، ويُسهب في هذا الأمر حيث يقول إن افضل الطرق واقعية وحكمة إلى الذات الواعية هو النظر إليها من خلال “نموذج الذات الشفافة” كما قد يسميه الفلاسفة، إن هناك صورة داخلية لذاتك، وأنت لا تستطيع التعرف عليها كصورة بالرغم من وجودها، ويمكن اعتبارها سلاحًا ظهر خلال سباق التزود بالأسلحة المعرفية في أثناء التطور البيولوجي.
لقد كان هناك تنافس حثيث وحشي لا شفقة فيه بين الكائنات على كوكبنا لملايين السنين، وقد كان ظهور ملكات كالذاكرة والتفكير والإدراك يعادل في الأهمية في الصراع من أجل البقاء السيقان الأفضل للجري والقلوب الأفضل لضخ الدم والأكباد الأفضل لوظائفها البنائية، إني أنظر إلى الذات الإنسانية باعتبارها سلاح حاسوب عصبي، إنها كيان معلوماتي يقوم المخ بتنشيطه من وقت لآخر مثلما يحدث عندما تستيقظ من النوم وتبدأ في الربط بين إدراكاتنا الحسية وبين سلوكك الحركي.
ففي مثل هذه المواقف تشغّل آلة الأنا إدراكها لذاتها، في هذه اللحظة نصبح قادرين على إدراك هذه الذات الشفافة، إن النموذج الجيد للذات هو الذي يعين الكائن على الحياة في بيئته، وهو يبدأ بسمات بسيطة للغاية، عليك مثلًا أن تعرف إلى أي مدى تستطيع أن تقفز، ما قدرات جسمك، ما حجمك وما امتدادك حتى لا تقوم بالتهام ساقك! كما تفعل بعض الحيوانات البدائية مثلًا او كما يفعل بعض المرضى النفسيين..
8. يرى أن من علامات الصحة النفسية هو تعدد نماذج الذات والهويات الذاتية والخبرات الذاتية تبعًا لاختلاف الظروف الاجتماعية.
9. الزومبي الفلسفي احتمال لا مبرر لطرحه.
10. نحن نتمتع بحرية إرادة حقيقية.
11. أن تقدم العلوم العصبية ودراسات الوعي تهيئ لتبني صورة الإنسان بعيدة عن الميتافيزيقا ولا ندري إن كان العلم قادرًا على تقديم البديل المناسب لهذه المفاهيم التي حافظت على تماسك مجتماعتنا لسنوات طويلة والمهم ألا يكون البديل هو مادية فجة غاشمة.
12. تجعلنا ثورة العلوم العصبية في مواجهة عالم مليء بالإنجازات الحضارية التي نعجز جميعًا عن ملاحقتها في مجالات الإلكترونيات والانترنت والطب النفسي والعقاقير.
13.توماس ليس متفائلًا بالمستقبل بخصوص الوعي لكن من يدري؟!
14. انعكست دراسة توماس للوعي على حياته، فصار يدرك أننا كائنات هشّة للغاية، لذلك فدراسة الوعي يمكن أن تأتي بالحكمة أو بالاكتئاب.
اقرأ أيضًا: ما الوعي الذّاتي ؟ وكيف تكتسبونه؟
6. جون سيرل والغرفة الصينية
فيلسوف أمريكي ولد عام 1932 يشغل منصب أستاذ الفلسفة في جامعة بيركلي التي عمل بها منذ عام 1959 يُعرف نفسه بأنه دائمًا “يهتم بكل شيء”، درس في جامعة ويسكونسن ثم قضى ثلاث سنوات في منحة في أكسفورد وأصبح مدرسًا في كلية كنيسة المسيح، حصل على العديد من الجوائز وعُقدت العديد من المؤتمرات لدراسة أعماله، تُعتبر تجربة سيرل العقلية المشهورة “الغرفة الصينية” أقوى الأدلة ضد احتمال الذكاء الاصطناعي القوي وهذا اصطلاح من ابتداعه، ويتبنى سيرل أن العقل من إنتاج المخ ومن ثم نجده يدافع عن “المذهب الطبيعي البيولوجي”، ويؤكد هذا الفيلسوف الطبيعي عجز المادية عن تفسير الوعي، كما يؤكد احتياجنا لأطروحات جديدة تمامًا مما يعتبر تفنيدًا لأطروحات الماديين السابقيين، كتب العديد من الكتب في اللغة والمنطق والوعي وأهم كتبه في هذا المجال:
إعادة اكتشاف العقل 1992
غموض الوعي 1997
العقل، مقدمة مختصرة 2004
صناعة العالم الاجتماعي 2010
رؤية الأشياء على حقيقتها 2015
ونلخص كالعادة أغلب آرائه في عدة نقاط :
1. هو فيلسوف طبيبعي والمقصود بالطبيعي غير المادي في مواجهة النظرتين المادية والدينية لتفسير وجود ما في ظاهرة الحياة من ذكاء وغائية، ظهرت مجموعة من العلماء والفلاسفة ترفض النظرة الميكانيكية لفهم الطبيعة، وترفض كذلك الطرح الديني للخلق لاعتقادهم أنه يتعارض مع المنهج العلمي، فقاموا بالبحث عن مصادر طبيعية خارج المنظومات المادية، تكون قادرة على تفسير نشأة ما في الطبيعة من معلومات تقوم بتوجيه أحداثها وكذلك تفسير ما في الطبيعة من ذكاء وقصد وانتظام، ويطلق على هؤلاء اصطلاح الطبيعيين غير الماديين.
وعلى رأس هؤلاء توماس ناجل الذي طرح مفهوم “الغائية الطبيعية” التي تصلح كأرض مشتركة يستطيع أن يتحاور حولها المتدينون مع الطبيعيين غير الماديين، ويعني ناجل بالغائية الطبيعية أن قوانين الطبيعة الفزيولوكميائية تتمتع بقدر من اللاحتمية تسمح لما أسماه ” القوانين الطبيعية الغائية” بأن توجه الطبيعة لإنتاج منظومات ذكية محددة مسبقًا، إن هذه القوانين الغائية تتماشى تمامًا مع نظرية المعلومات ومع الطرح الديني كما يرى د.عمرو شريف، ومن الطبيعيين غير الماديين أيضًا الفيزيائي بول ديفيز والبيولوجي الأمريكي المهتم بأصل الحياة ستيوارت كوفمان. ويشارك جون سيرل المتدينين كثير من آرائهم ولكنه يصنف نفسه كـ “لا أدري”.
2. يرى أن الوعي هو حياتنا وبالتالي لا ينبغي أن نسأل لماذا هو مهم، فللوعي وظيفة بدونها لا يكون الإنسان إنسانًا، فهو المسئول عن استقبال وفرز وانتقاء وتنظيم ومزج ومعالجة المعلومات في مجال وعي واحد.
3. مشكلة الوعي الصعبة هي جزء من مشكلة العقل الجسم، ولها شقين، الشق الفلسفي السهل الذي يقر بأن المخ هو سبب الوعي، والشق الصعب المتعلق بالبيولوجيا العصبية المسئولة عن التوصل إلى العمليات المخية المسئولة عن الوعي، ويكمن مفتاح اللغز في معرفة آليات الفرق بين المخ الواعي وغير الواعي.
4. إن الوعي تسببه عمليات فيزيوكميائية تقوم بها منظومة المخ.
5. نستطيع تحصيل معرفة موضوعية عن الخبرات الذاتية الواعية.
6. يتطلب حل مشكلة الوعي بحث كل الأفكار المطروحة، وإن كان طرح فيزياء الكوانتم قد أضاف إلى لغز الوعي لغزًا آخر وهو لغز الكوانتم.
7. الوعي ليس توهم ذلك إنك إذا توهمت أنك واعٍ فذلك يعني أنك واعٍ بالفعل.
8. يمثل الوعي مجال متوحد “نظرية مجال الوعي” ويشرحها سيرل بمثال حيث يقول:
تصور انك استيقظت من النوم في غرفة مُظلمة وهادئة تمامًا، لقد أصبحت متيقظًا تمامًا، بالرغم من أنك تستقبل قدرًا ضئيلًا للغاية من المثيرات الإدراكية، قد لا تشعر إلا بوزن جسمك على الفراش، ووزن الأغطية على جسمك، دون أية منبهات أخرى ومع ذلك فأنت واعٍ تمامًا، يا ترى ما الفرق بين مخك الآن ومخك منذ خمس دقائق قبل الاستيقاظ؟.
إن تصاوير المخ المتاحة حاليًا تتشابه كثيرًا في حالتي الوعي واللاوعي، بعد ذلك ها أنت تغادر فراشك في الغرفة المظلمة الهادئة وتفتح النوافذ وتذهب إلى الحمام للاستحمام وغسل أسنانك وغير ذلك من الأنشطة التي لم تمارسها منذ قليل، يقول سيرل:
الجديد الذي أطرحه في نظريتي والذي ينبغي أن نتبناه في دراستنا للوعي هو أن نعتبر أن هذه الخبرات ليست خلق جديد للوعي، لكنها تعديلات في “مجال الوعي المتوحد” الذي بدأ عند استيقاظي.
وينظر سيرل هنا إلى الوعي ليس باعتباره خبرات ذاتية متعددة يمثل مجموعها الوعي كما تمثل الشعرات المنفصلة ضفيرة الشعر، ولكن باعتبار أن هناك مجالًا متّحدًا للوعي، إما ان يكون موجودًا كما في اليقظة، أو غير موجود كما في النوم، وتمثل خبراتنا الذاتية تعديلات فيه، ومثال ذلك خزان الماء الذي نملأ منه زجاجات بأشكال مختلفة، فيأخذ ماء الخزان الواحد هيئات الزجاجات المتعددة.
وتبعًا لتصور سيرل هذا فليس الصواب أن نبحث عن التعالقات العصبية لكل خبرة حسية منفصلة مثل إدراك حمرة اللون الأحمر أو صوت المقام “دو” ولكن الصواب هو التوصل إلى الفرق بين عمليات المخ الواعي والمخ غير الواعي، فهذا سيمكننا من فهم مجال الوعي المتوحد.
9. إن وجود الخبرة الذاتية الواعية بالواقع أمر لا لبس فيه، ولكننا قد نعي بالشيء داخل خبرة ذاتية ما مختلف عن حقيقته، لذلك لا ينبغي التعويل على الخبرة الواعية في التوصل إلى الحقيقة كما تبنى ديكارت.
10. الزومبي الفلسفي كيان ممكن التصور وممكن الوجود من ناحية المبدأ ويثبت المفهوم تميزنا بشيء إضافي يجعلنا بشرًا.
11. تبين تجربة الغرفة الصينية العقلية أن العقل يتميز عن الحاسوب بالفهم الذي هو الانتقال من بينة الجملة إلى معناها، ومن ثم فما يُطلق عليه الذكاء الاصطناعي ليس إلا تحايلًا كبيرًا، وتجربة الغرفة الصينية كما لخصها سيرل أنه كانت هناك دائمًا وما زالت نظرة إلى العقل تتبنى أن المخ هو حاسوب رقمي وأن العقل هو برنامجه.
وينبني على هذه النظرة مفهومان:
الأول: أننا نستطيع ان نفهم عقولنا تمامًا عن طريق التوصل إلى برامجها.
والثاني: أننا نستطيع أن ننتج عقولًا عن طريق تصميم البرامج الملائمة.
لقد قدم سيرل تفنيدًا بسيطًا مباشرًا يستطيع كل شخص فهمه لهذه النظرة ويستطرد فيقول:
مع ذلك أدهش هذا التفنيد الكثيرين وهذا هو طرحي: أنا لا أتحدث اللغة الصينية ولا أفهمها بل لا أستطيع التفريق بين الكتابة الصينية والكتابة اليابانية، تصور أني حُبست في غرفة بها حاسوب يحمل برنامجًا لمعالجة الرموز الصينية، وقد طرحت علي أسئلة بالرموز الصينية، وكان علي أن أبحث في كتاب للتعليمات موجود معي في الغرفة عما يجب أن أفعل، وأن أعطي أجوبتي بالصينية، أي أنني أستلم مدخلات بالصينية وأنتج (عن طريف الحاسوب) مخرجات بالصينية، بالرغم من أني لا أفهم كلمة واحدة من هذه اللغة، علاوة على ذلك فإني لا أفهم برنامج الحاسوب ولا الحاسوب يفهم هذا البرنامج أيضًا، وإن كان يتبع تعليماته، ومن ثم فهو لا يفوقني في شيء.
والآن إذا قارننا تعاملي مع أسئلة اللغة الصينية بتعاملي مع أسئلة مماثلة تلقيتها باللغة الإنجليزية، فستجد إجابتي بالإنجليزية بنفس كفاءة أبناء هذه اللغة لأنني واحد منهم، كذلك تكون إجابتي باللغة الصينية بنفس كفاءة أبناء اللغة لأني أستخدم البرنامج وكتاب التعليمات، إن ظاهر الإجابتين يبدو متماثلًا لكنهما في حقيقتهما مختلفتان تمامًا، إذًا ما هو الاختلاف؟
الاختلاف واضح للغاية، وهو أنني لا أفهم الصينية وأنني فقط اتبع خطوات البرنامج بينما لدي شيء إضافي في الإنجليزية وهو أنني أفهم معنى الكلمات، من الواضح تمامًا أن الحاسوب لا يحتاج أن يعرف معنى أي شيء، إنه فقط يتعامل مع الرموز والأصفار والآحاد، أما العقل فلديه شيء إضافي آخر غير الرموز، إنه المعنى، لقد فندت بالدليل النظرة التي يطلقون عليها تعسفًا “الذكاء الاصطناعي القوي” وهذا الادعاء خطأ تمامًا حيث إن ” بنية الجملة غير معناها” إنها كلمات أربع تفضح الكثير من التحايل.
وعندما سألت سوزان بلاكمور جون سيرل عن تداعيات طرحه لهذه لتجربة العقلية قال:
أدهشتني ردود الأفعال التي أثارها الدليل الذي قدمته من خلال التجربة عن أهمية الوعي ومن ثم ضد الذكاء الاصطناعي، لقد صدرت مئات الأبحاث والدراسات التي تناقش الغرفة الصينية بعد أن هددت الأسس العقلية المتعلقة بالنظرة الحاسوبية للعقل، والتي تنطلق من النظرة الاختزالية للوعي والحياة العقلية، والتي يطرحها الاختزاليون والوظائفيون مع إغراء استخدام الحاسوبات كنموذج لفهم العقل الإنساني وإمكانية صناعة حاسوبات ذكية واعية.
كذلك اكتشفت أن الدليل الذي طرحته التجربة قد هدد بقطع الكثير من المنح البحثية والوظائف والأموال المتدفقة، نحن كفلاسفة لانبالي بذلك إطلاقًا، فنحن لا نحصل على أي أموال عن أعمالنا، لكن الكثير من الناس يحصدون الكثير من أموال المنح من وراء وعودهم الكاذبة بأنهم يصنعون عقولًا صناعية، لقد أثار ذلك معارك ممتدة مازالت مستمرة وستظل حتى يختفي هذا الجيل من رجال الذكاء الاصطناعي ويظهر جيل جديد، واستطرد سيرل أن هناك عددًا من الحجج آخذ في التزايد والمثير للدهشة أن أشهرها وأكثرها قبولًا هو أضعفها لكن هكذا تسير الأمور أحيانًا، إن حجة المعارضين الأشهر تدور حول أنه بما أني أجبت عن الأسئلة فإنني أفهم اللغة الصينية!!
إني أرها حجة متهافتة بائسة، سأخبرك لماذا.. أبدأ بأن أطرح السؤال: لماذا لا أفهم اللغة الصينية؟ الإجابة واضحة: لأني لا أستطيع الانتقال من بنيتها إلى دلالتها، أي لا أستطيع فهم معاني رموزها، وإن كنت عاجزًا عن ذلك فمحتويات الغرفة والحاسوب الذي يجيب عن الأسئلة عاجزيْن أيضًا.
ولاحظ أني لم أكن بمفردي في الغرفة الصينية بل كان معي القاموس وكتاب التعليمات والمنضدة والمكتب والأوراق وصناديق مليئة بالرموز الصينية، ولم أكن أنا الذي أتعامل مع اللغة الصينية، والآن تصور أني قد وضعت كل ما في الغرفة من معلومات في عقلي.
تصور أني حفظت القاموس وكتاب التعليمات وكل الرموز، ثم أني سأغادر الغرفة إلى الخارج، لأقوم بجميع العمليات داخل دماغي بدلًا من الحاسوب، وبالرغم من أن دماغي يحوي النظام كله، فما زلت لا أفهم الصينية، لقد عارضني الكثيرون وقالوا، بالتأكيد أنت تفهم الآن الصينية، فقد نجحت في الإجابة عن الأسئلة ولديك البرنامج! هذا سخف، أتحدى كل من يواجهني ويقول إنني الآن افهم الصينية وإنني كنت أفهمها عندما كنت في الغرفة.
12. يرى سيرل أن الإرادة الحرة حقيقة لا يمكن إنكارها، بل إن إنكارها هو ممارسة حقيقية لحرية الإرادة وتلك الحرية التي نستشعرها على المستوى النفسي يمكن تقابلها لا حتمية على مستوى البيولوجيا العصبية.
هنا ينتهي مقال الوعي والفلاسفة، وفي المقال القادم سنتحدث عن الوعي وعلماء النفس وسنعرض أغلب آرائهم في هذا الشأن وهذا اللغز المحير لأذهان عمالقة الفكر والعلم.
نرشح لك: مشكلة الوعي وحدود العلم
المصادر: 1. حوارت سوزان بلاكمور حول الوعي 2. كتاب لغز الوعي لدكتور عمرو شريف