النزعة الإنسانية لهيوم (مترجم)
للكاتب: جوليان باجيني
لقد اعتقد ديفيد هيوم بأننا لسنا سوى بشر لا أكثر ولا أقل، ولهذا السبب فإنه الفيلسوف المحبوب، البسيط، والكريم الذي نحتاج لمعرفته…
لقد مات سقراط جراء تناول شراب نبات الشوكران السام (Hemlock) مدانًا بالموت بواسطة شعب أثينا. بينما لقي ألبير كامو حتفه في سيارة التَفَّت حول شجرةٍ، نظرًا لسرعتها الكبيرة. ولقد أصيب نيتشه بالجنون بعد البكاء على حصان مهزوم. تُحب الأجيال القادمة النهاية المأساوية، وربما لهذا السبب لم تزددْ شعبية دايفيد هيوم، والذي يُمكن القول بأنه أعظم فيلسوف أنتجه الغرب، وبينما كان ديفيد هيوم ذو الـ 65 عامًا، راقدًا على فراش الموت في نهاية حياة طويلة، سعيدة، وناجحة أخبر طبيبه: «إنني أموت سريعًا كما قد يتمنى لي أعدائي، إن امتلكتُ أيًّا منهم، وبسهولة وابتهاج كما قد يرغب لي أفضل أصدقائي.» قبل وفاته بثلاثة أيام – ربما بسرطان البطن، وفي يوم 25 أغسطس 1776، فإن طبيبه كان لا يزال يُبلغ بأنه «خالٍ جدًا من القلق، الجزع، أو الاكتئاب ويقضي وقته بشكل جيد جدًا بـ مساعدة الكتب المسلية.»
عندما أتت النهاية، أخبر الدكتور بلاك بأن هيوم قد «استمر راشدًا عاقلًا حتى النهاية، معافى من الكثير من الآلام أو مشاعر المحنة والكرب. ولم يتفوه مطلقًا بأصغر التعبيرات عن الجزع. وعندما أتيحت له الفرصة ليتحدث للناس عنه، فقد فعل دائمًا بمودة وحنان … فقد مات في حالة عقلية من الهدوء والسعادة، والتي لا يستطيع أي شيءٍ أن يتجاوزها. »
شهرة ديفيد هيوم
كانت شهرة ديفيد هيوم أثناء حياته كمؤرخ، أكبر منها كفيلسوف. ولقد بدأت مسيرة هيوم الفلسفية بشكل مشؤوم، نوعًا ما. حيث كانت أولى محاولاته المُبكرة في وضع نظام فلسفي شامل جديد: رسالة في الطبيعة البشرية (1939 – 40). والتي نشرها وعمره 26 عام، ولقد كان الكتاب على حد تعبيره الفكاهي: «عديم الفائدة بالنسبة للصحافة، حيثُ لم يصلْ إلى درجة تثير الهمهمة بين المتحمسين.»
وبمرور الوقت، ازدادت مكانة هيوم حتى وصلت لأعلى مستوى. منذ بضع سنين، تم سؤال آلاف الفلاسفة الأكاديمين عن الفيلسوف الذي ينتمون إليه، ويتشابهون معه. ولقد جاء هيوم بشكل صريح في المرتبة الأولى، متفوقًا على أرسطو، كانط، وفيتجنشتاين. وحتى العلماء – الذين لديهم القليل من الوقت للفلسفة – عادة ما يضعون استثناءً لهيوم. وحتى البيولوجي لويز ولبرت والذي يقول بأن الفلاسفة «على قدر عالٍ للغاية من الذكاء، ومع ذلك فلا يمتلكون شيئًا مفيدًا لقوله»، يضع استثناءً لهيوم – معترفًا بأنه أحبه في مرحلة من حياته.
ومع ذلك، فإن الإسكتلندي العظيم يظل ذا شأنٍ كجزء من فيلسوف الفلاسفة. وحتى الآن لا يُوجد أي كتب شعبية ناجحة عنه، مثلما حظي مونتين، نيتشه، سقراط، فيتجنشتاين وَالرواقيون. اقتباساتهم – لا اقتباساته – تزين الأكواب ومناشف الشاي، وتحدق وجوههم من الملصقات. لم يعبر هيوم حتى الآن من التميز والسمو الأكاديمي إلى الإطراء والإشادة العامة (بين الجمهور).
والأسباب التي تجعله على هذا النحو، هي نفسها الأسباب التي من المفترض ألا تجعله كذلك. إن صلابة هيوم كشخص ومفكر تعني أنه لم يمتلك هذا النوع من «السمات» التي تُروِج وتَبيع المثقفين. باختصار، فهو لم يكن تراجيديًا، أو رومانسيًا – كما أن أفكاره ليست بسهلة التلخيص. إضافةً إلى ذلك، فإن نفوره من التعصب من أي نوعٍ جعله عقلانيًا للغاية، ومعتدلًا في إلهام معجبيه من المتحمسين.
لقد حظي ديفيد هيوم على الأقل بفرصتيْن ليصبح بطلًا تراجيديًّا ويتجنب النهاية السعيدة التي وجدها في نهاية المطاف. فعندما كان بعمر 19، فشل في مقاومة ما كان يُسمى «مرض المُتعلِم» ألا وهو الحزن والكآبة، ما يُسمى اليوم – بالاكتئاب. ومع ذلك، فبعد حوالي 9 أشهر، أدرك أن هذا ليس مصيرًا حتميًا للشخص الحكيم، ولكن النتيجة لتكريس الكثير من الوقت لدراساته. مدركًا أنه لكي يظل بصحة جيدة – كان من الضروري عليه لا الدراسة فقط، بل أيضًا التدريب وطلب صحبة الأصدقاء. وبمجرد أن بدأ في القيام بهذا، اكتسب مرة أخرى بهجته والتي ظل محتفظًا بها كثيرًا لبقية حياته.
ولقد علمه هذا درسًا مهمًا بشأن طبيعة الحياة السعيدة. كما كتب لاحقًا في كتابه مبحث في الفاهمة البشرية (1748):
«إن العقل يحتاج لبعض الراحة، حيثُ لا يستطيع دائمًا أن يدعم عزمه بالاهتمام والمثابرة.»
لذا فإن الفلسفة مهمة، ولكنها ليست كل شيءٍ. ويقول أيضًا: «إنني أمتنع عن الفكر الغامض المبهم والمباحث العويصة العميقة، حيث ستُعاقب بشدة بواسطة الأفكار السوداوية الكئيبة، والشك اللانهائي الناتج عنهم. لذا فإن أنسب حياة للجنس البشري هي مزيج – حيث اللهو، المتعة، والتسلية مهمة، بالإضافة لما يُعتقد بأنه المساعي العليا. لذا كن فيلسوفًا، ولكن في وسط جميع فلسفاتك، كن إنسانًا.»
وعام 1770، حصل ديفيد هيوم على فرصة أخرى للاستشهاد (في سبيل اعتقاداته)، في ظروف مثيرة للشفقة. حيثُ كانت البحيرة الشمالية (Nor Loch) بإدنبره، والتي حلّ مكانها الآن حدائق برنسيس ستريت (Princes Street)، يتم تجفيفها كجزء من توسع المدينة. ماشيًا عبرها في أحد الأيام، سقط هيوم في أحد المستنقعات التي لم تجفْ بعد. صرخ هيوم طالبًا المساعدة، ولكن لسوء الحظ فإن المرأة التي سمعت صراخه، أدركته بأنه «الكافر العظيم» (لقب أُطلق على هيوم) – لذا فـقد مالت المرأة إلى عدم إنقاذه. وقد أشار هيوم بعقلانية، بأنه يجب على جميع المسيحيين مساعدة أي شخص بغض النظر عن معتقداته، ولكن فهمهم لحكاية السامري الصالح لم تصل لديهم مثلما وصلت لدى هيوم، لذا فقد رفضوا إنقاذه إلا إذا أصبح مسيحيًا هناك وبعد ذلك، تلا صلوات الرب وآمن بأسس العقيدة المسيحية.
رُبما لو سقط سقراط في هذا المستنقع، لفضل الموت باسم الحقيقة. ومع ذلك، فإن هيوم لم يكنْ ليدعَ حماقة الآخرين بأن تُقصِر حياته. لذا فقد فعل ما قد يفعله أي إنسان راشد، فقد وافق على طلبهم، بدون أي نية للوفاء بوعده.
وفي هذا، فقد تبع ديفيد هيوم خطوات الفيلسوف الوحيد الآخر والذي ينافسه على العظمة في جميع الأوقات أرسطو. فيلسوف آخر والذي لا يُمكن أنْ تصل مكانته بين الخبراء لأبعد مما وصلت إليه، ولكنه فشل – كهيوم – في أسر خيال العامة. ليس من قبيل المصادفة، ولكنني أعتقد بأنه رفض أنْ يلعب هو الآخر دور الشهيد. فقد أدين أرسطو – مثل سقراط – بالموت بسبب المعصية (impiety). ولقد امتلك الفرصة هو الآخر كسقراط للهروب من المدينة للأمان. ولكن على عكس سقراط، فإن هذا ما فعله بالضبط أرسطو. لذا فبينما يعلم الجميع كيف مات سقراط، فلا يعلم سوى القليل أن أرسطو –كهيوم– مات في الستينيات من عمره. أيضًا بسرطان المعدة هو الآخر.
مصدر الترجمة Julian Baggini, Hume the humane", Aeon magazine, August 15th, 2018