المنهج العلمي: مقدمة
تأليف أنثوني كاربي ANTHONY CARPI وآن إي إيغر ANNE E. EGGER.
المنهج العلمي: مقدمة
(هذه المقالة الأولى لسلسلة مقالات تشرح المنهج العلمي بطريقة تجمع بين السلاسة والعمق، وتقدّمه لعامة الناس. رأيت أن أترجمها للقارئ العربي حتى تكون بمثابة خارطة طريق ترشده إلى فهم أوسع وأشمل للعلوم) المترجم.
قبل عدة سنوات، كاشَفتني طالبةٌ كانت تعمل على مشروع بحث للمرحلة الجامعية الأولى عن قلقٍ يساورها، إذ عبّرت عن ذلك قائلةً: “إنني أرتكبُ خطأً”. لقداطّلعتُ على نتائج بحثها، ووجدت أنها تحرز تقدمًا جيدًا؛ لذا، فوجئت عند سماعي بأنها كانت تعاني مشكلة ما. وفي غضون الأيام القليلة التالية، درسنا إجراءاتها التجريبية، حيث راجعنا أساليبها الأداتيّة، واختبرنا نتائجها، فلم أجد أن ثمة مشكلة، فسألتها بوضوح: “لِمَ تظنين أنكِ ترتكبين خطأ؟” فردّت محبَطة: “لأنني لم أحصل على ما قلت أنه ينبغي الحصول عليه“. أذهلني ردُّها! فبعد نقاشي معها، أدركت أنها أساءت فهم فرضية بسبب نتيجة مسبقة. لم أخبرها بما ينبغي لها الحصول عليه، بيد أنني على اطّلاعٍ بالمواد المطبوعة والأبحاث المنشورة في هذا المجال، وناقشنا بعض الفرضيات المنشورة قبل أسابيع خلت. إلا أنني عند مواجهتي لبيانات أبحاث صحيحة لم تتناسب مع هذه التنبّؤات، أدركت أنها توصلت إلى نتائج جديدة غيرت فرضيتي، لكنها كانت تفسر نتائجها على أنها خطأ. لماذا أذهلني ردّها؟ لأنه بالرغم من أربع سنواتٍ من دراسة تخصص علمي بصورة مكثفة، وسنوات عديدة من الخبرة العلمية في المدرسة الثانوية، لا زالت هذه الطالبة تؤمن بمفهومٍ خاطئٍ، وهو أن العلم تمرينٌ جامدٌ يقوم بإثبات فكرة موضوعة مسبقًا؛ أي أن العلم يتّسم بشيء بسيط من الإبداع أو الاكتشاف، لكنّه بدلًا من ذلك يعدّ ممارسة مضجرة تفضي إلى إثبات صحة ما نعلم صحته مسبقًا. كما أنني ذُهِلت لأنه رغم إدراكي بأنني قضيت ساعات طويلة مع طلابي أعلِّمهم إجراءات البحث العلمي والتصميم التجريبي والعمليات الأداتية والمواد العلمية المطبوعة، فإنني لم أعلمهم العلم بعد. لكن، كيف يمكن أن يحدث هذا؟ فهذه طالبة ممتازة معدلها يقارب الدرجة الكاملة، وكنت أسير في التعليم والإرشاد وفقًا لما يمليه علي ضميري. لماذا لا يزال ثمة فرق بين إدراكي للنتائج وبين إدراكها؟
المناهج التقليدية في تدريس العلم:
يتعمّق جذرُ المشكلةِ في ما هو أبعد من تفاعلنا مع الطلاب طوال العام. فخلال المدرسة، يتم تصوير العلم للطلاب سواءً في المقررات أو حتى في الغرف الصفية على أنه سلسلة من الحقائق والصور، مثل أن الإلكترون ذات شحنةٍ سالبة، والحمض النووي DNA حلزونيّ الشكل، والزلازل تحدث على تخوّم الصفائح. ولسوء الحظّ، فإن المنهج الذي قاد إلى هذه الاكتشافات وجسّدها في إطار التقدم العلمي يتم تجاهله في غرفة الصف.
جوزيف جون تومسون
حتى عند إضافة المادة إلى المحاضرات العلمية حول هذه الاكتشافات، فإنها تقدم بصفتها نتائج واضحة وحتمية. فعلى سبيل المثال، تتم مناقشة تجارب تومسون في أنبوب أشعة الكاثود “القطب السالب” بصورةٍ شائعةٍ في حصص الكيمياء، إذ يقدم قليلٌ من المعلمين العناصرَ الأساسيّة للعملية التي تؤنسِن تومسون، مثل حقيقة أنّه عند تقديم تومسون لفكرة شحنة الكهرباء إلى المجتمع العلمي، سأله زميلُه عمّا إذا كان يمزح. تساعد هذه التفاصيل على توضيح طبيعة الاكتشافات العلمية، والشكوك المصاحبة للاكتشافات الجديدة، وعملية المراجعة والتصحيح التي تخضع لها قبل القبول. ونظرًا لأنه من النادر ما يتم توضيح هذه الأمور في الغرف الصفيّة، فلا عجب أن نرى هذه الأفكار تقدّم على أنها نتائجٌ حتمية. أين يمكننا تعلم كيفية ممارسة العلم؟ إن أولئك المحظوظين بما يكفي للتطرق إلى البحث العلمي يبدأون بالفَهم لأنهم منخرطون في المنهج العلمي. وبعد تجربتي مع تلك الطالبة، ناقشنا فكرة أن العلم ليس مجرد مجموعة من الحقائق المعروفة، ولكنّه منهجٌ نستخدمه للتعرف على العالم الطبيعي. كما تطرّقنا إلى هدف التجربة، ودور مراجعة المطبوعات الموجودة في تحديد فرضيات البحث المحتملة، والحاجة إلى البقاء منفتحين على تفسيراتٍ متنوعةٍ للبيانات. إن المشاركةَ في البحث الموجّه هي إحدى طرق تعلُّم كيفية ممارسة العلم. فقد سَعَت هذه الطالبة إلى إتمام بحثها، ونشره، والالتحاق ببرنامج الدكتوراه، لتكون بذلك عالمة مؤهلة بذاتها. فعند سؤالها مؤخرًا، لم تتذكرْ التفاعل بعينه، وإنما تذكرت أنه رغم إجبارها على تعلم المنهج العلمي في كثير من الحصص، فقد كان فهمها سطحيًا لما اقتضاه العلم، حتى تجربة بحثها في المرحلة الجامعية الأولى.
التفكير كعالم
من الضروري أن يفهمَ العلماءُ كيفية ممارسة العلم. ولكن، لماذا يهم هذا الأمر أي شخص ممن لا يهتمون بأن يكونوا علماء؟ إن السبب في ذلك يرجع إلى تأثير العلم وطريقة التفكير العلمي في جوانبٍ من حياتنا اليومية أكثر مما نعتقد. إن التقدم العلمي في مجالي التغذية والطب ساعد في رفع مستوى توقع الحياة لسكان الولايات المتحدة بما يقارب عشرين عامًا في القرن المنصرم وحده، إذ أنه على المستوى الشخصي، يساعدك العلم والطريقة العلمية في التفكير في قراءة التقارير المختلفة في مجال التغذية؛ فتكون بذلك خياراتك أفضل للغذاء الصحي. وقد أدى التقدم في كل من الفيزياء والكيمياء وعلوم المواد إلى حواسيب أسرع وهواتف محمولة أصغر، لتمكّنك من التقاط صورٍ باستخدام هاتفك، وإرسالها إلى أصدقائك. وقد ساعدنا التقدم في مجالات النمذجة وعلم المناخ في التنبؤ بالكوارث الطبيعية والتخطيط لها بصورة أفضل، مثل الفيضانات والأعاصير، وهي أمورٌ نتمنّى أن لا نواجهها، لكنه يمكننا التحضير لها بصورة أفضل عند حدوثها. إن فهم العلم لا يقتصر فقط على حفظ أن للإلكترون شحنة سالبة، وإنما يكمن جوهره في فهم كيفية حصول التقدم العلمي وتصحيحه وتفسيره. إنها القدرة على تفسير وضعية مسؤول منتخب في بحث الخلايا الجذعية أو التغير المناخي أو استكشاف الفضاء، كما أنها تملكُ القدرةَ على استقبال المعلومات حول الحميات الغذائية أو التمارين أو الأمراض، وتطبيقها على حيواتنا. يمكن للمنهج العلمي وحل المشاكل بصورة علمية مساعدتنا في اتخاذ القرارات يوميًا.
ما هو المنهج العلمي:
يطلق المنهج العلمي على مجموعة الممارسات التي يتم توظيفها للكشف عن المعرفة وتفسير معنى تلك الاكتشافات. وغالبًا ما تبسِّط المقررات الدراسية المنهج العلمي وتسيء تقديمه، فتجعله منهجًا علميًا مفردًا، ينتقل به عالم وحده من الملاحظة -من خلال التساؤل- إلى التجربة. بيد أن المنهج العلمي أكثر متانة وديناميكية وتنوعًا. وفي الوقت ذاته هناك مبادئ جوهرية توحد المعارف المتنوعة داخل الحقل العلمي، إذ أن البيولوجيين والكيميائيين والجيولوجيين والفيزيائيين يجمعون بصورة موضوعية بياناتٍ حول العالم الطبيعي باستخدام مناهج بحث متعددة، ويوظفون تقنيات مشابهة، ويكوِّنون فرضيّاتٍ معتمدين على البيانات، ويعملون مع مجتمع عالمي من الأفراد والمنظمات المساهمة في العلم. وقد تطورت هذه المبادئ والمناهج الجوهرية عبر الزمن وميّزت العلمَ عن بقية فروع المعرفة. تعتبر هذه الأولى من المراحل التي تفصل جوانب مختلفة من العلم، وذلك من خلال تسليط الضوء على أمثلةٍ من التاريخ، وربط هذه القصص بالبحث العلمي في اللحظة الراهنة. يمكن قراءة هذه المراحل معًا لتكوين إجابة شاملة عن السؤال: ما هو العلم، وكيف يعمل؟ بيد أنه يمكن استخدامها على حدة لفهم كيفية عمل العالم، وماهية التجربة بالتحديد، وكيفية تأسيس النظرية بصورة أفضل. كما تم استخدام اثني عشر مفهومًا رئيسًا يؤسّسون لتطور هذه المراحل، إذ توفر هذه المفاهيم إطارًا لفهم مادة هذه السلسلة.
مفاهيم رئيسة
1- العلم هو المنهج الذي يدرس العالم الطبيعي والمعرفة التي تتولد من هذا المنهج.
2- يستخدم العلماء أساليب متعددة في البحث لدراسة العالم الطبيعي.
3- لا بد من تحليل البيانات التي يتم جمعها خلال البحث العلمي وتفسيرها.
4- النظريات العلمية هي تفسيرات قابلة للاختبار ومدعومة بوابلٍ من الأدلة.
5- تتطور المعرفة العلمية بالأدلة والتوجهات الجديدة.
6- يستفيد العلم من إبداعات الأفراد وفضولهم وتنوعهم واجتهاداتهم.
7- يخضع العلم للتحيز البشري والخطأ.
8- ينخرط المجتمع العلمي في الحوار، ويخفف من الأخطاء البشرية.
9- إن عدم اليقين أصيل في الطبيعة، إلا أن العلم يعمل على تقليله وتحديد كميته من خلال جمع البيانات وتحليلها.
10- يثمن العلماء التواصل المنفتح والصريح في نقل الأبحاث.
11- يتأثر العلم ويؤثر في كل من الثقافة والمجتمع الذي يعمل فيه.
12- إن العلم لا يقدر بثمن بالنسبة للأفراد والمجتمعات.
تختتم كل وحدة بثلاثة إلى ستة من المفاهيم الرئيسة التي تضفي بدورها مزيدًا من التفاصيل على المفاهيم الاثني عشر المبينة أعلاه. لا يتم تقديم مادة المحتوى في هذه الوحدات بصفتها فرعًا مستقلًا من فروع العلم، وإنما بوصفها شبكة تربط كافة فروع العلم ببعضها. خلال قراءة هذه الوحدات، ستفهم أن العلم ليس مجموعة من الحقائق والمصطلحات التي يجب حفظها، وإنما هو منهج متين يساعدنا في فهم ما يحيط بنا، وفهم مكاننا في هذا الكون بصورة أفضل. كما أنه متاحٌ للجميع، سواءً كطريقة تفكير تستخدم في الحياة اليومية، أو كمسارٍ مهني يستفيد منه الناس من مختلف الخلفيات والتوجهات. وسواء أكنت عالمًا أو مصرفيًا أو روائيًا، فإن فهمك للعلم أساسي لمشاركتك في المجتمع كمواطن.
الخلاصة:
ما هو المنهج العلمي وكيف يعمل؟ تعرفنا هذه الوحدة بسلسلة المنهج العلمي التي تجيبنا عن هذا السؤال، وتقدم لنا المنهج العلمي باعتباره طريقة تساعدنا في اتخاذ القرارات في حياتنا اليومية، كما تعطينا هذه الوحدة لمحة سريعة عن المفاهيم الرئيسة الاثني عشر التي تقود سلسلة دروس المنهج العلمي.
ترقبوا المقال الثاني من هذه السلسلة.
المصدر