مقرئات أندلسيات بعضهن أتقنّ القراءات السبع
شهدت الأندلس نهضةً فكريةً في شتّى الميادين والمجالات، وكانت قرطبة قِبلةً لطلبة العلم من شتى بقاع الأرض، منارة تضيء العالم في عصوره المظلمة، ولمّا كانت العلوم الدينية هي أولى العلوم التي تُدرس، كان بدهيًا وجود نساء في هذا المجال أيضًا جنبًا إلى جنب مع الرجل، فقد وجدت نساء تلقيْنَ تعليمًا دينيًا محضًا، وكانت مهمتهن الوعظ والإرشاد والتدريس في مجالس للقرآن. وكان من بين هؤلاء الفقيهات والمحدثات والمقرئات، حتى أن بعضًا منهن شددن الرحال بحثًا عن العلم والتحصيل كفائزة القرطبي التي رحلت من غرناطة بحثًا عن شيخ يجيزها في القراءات السبع.
سنتناول في هذا المقال مقتطفات عن بعض المقرئات الأندلسيات ممن ورد ذكرهن في المصادر على قلّتها.
أم العز بنت محمد بن علي بن أبي غالب العبدري
تدعى أيضًا العبدرية نسبة إلى عبد الدار بن قصي من قريش، وهي من مدينة دانية، وقد روت عن أبيها، ومن مروياتها عنه: صحيح البخاري، قرأته عليه بلفظها مرتين، وروت عن زوجها أبي الحسن بن الزبير وأبي الطيب بن برنجال، وأبوي عبد الله: ابن أبي بكر وابن أيوب بن نوح، وأبي عمر بن عات. وكانت حافظةً لكتاب الله قائمةً عليه مجودةً له بالسبع، ويقول عنها ابن أبار: “كانت تحسن القراءات”.
وافتها المنية في ست عشرة وستمائة.
ابنة فائز القرطبية
أبوها هو فائز القرطبي، كان عالمًا بالتفسير والعربيّة واللُّغة، أديبًا شاعرًا، وكان على ضِيَاع المنصُور أبي الحَسَن عبد العزيز بن عبد الرّحمن بن أبي عامِر، أخَذَتْ عنهُ ابنتُه عِلمَه، وكانت زَوْجَ أبي عبد الله بن عَتّاب.
أخذت عن أبيها علم التفسير واللغة والعربية والشعر، وعن زوجها الفقه والرقائق، ورحلت إلى دانية للقاء أبي عمرو المقرئ، فألفته مريضًا من قرحة كانت سبب منيته، فحضرت جنازته ثم سألت عن أصحابه فذكر لها أبو داوود بن نجاح، فلحقت به بعد وصوله إلى بلنسية، فتلت عليه القرآن بالسبع في آخر أربع وأربعين وأربعمائة.
توفيت بمصر في طريق عودتها من الحج إلى الأندلس، وكان ذلك سنة ست وأربعين وأربعمائة.
ريحانة
ورد ذكرها في بغية الملتمس للضبي في حديثه عن عثمان بن سعيد عثمان أبو عمرو المقرئ إمام وقته في الإقراء محدث مكثر أديب، سمع بالأندلس محمد بن عبد الله بن أبي زمنين الفقية الألبيري وغيره، ورحل إلى المشرق قبل الأربعمائة طلب علم القراءات، فرأس فيه، وقرأ وسمع الكثير، وعاد إلى الأندلس فتصدّر بالقراءات وألّف فيها، ويذكر أنه أقرأ بالمرية مدة، وكانت ريحانة تقرأ عليه القرآن بها، كانت تقعد خلف ستر فتقرأ ويشير لها بقضيب بيده إلى المواقف، فأكملت السبع عليه وطالبته بالإجازة فامتنع، وقرأت عليه خارج السبع روايات.
فقرأت عليه ذات يوم: {وقالوا لا تنفروا في الحر} فقال لها: اكسري الحاء، فقالت: “وقالوا لا تنفروا في الحوار”، فقال: “أنا لا أجيز مثل هذه والله لا برحت أو أكتب لها فكتب إجازتها في ذلك الموضع”.
فاطمة بنت أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد بن غالب الأنصاري الشراط
عريبة النسب من الأنصار كانت تدعى أم الفتح، وهي من مدينة قرطبة، أبوها هو عبد الرحمن بن محمد بن غالب الأنصاري الشراط (ت586هـ)، وكان من أهل العلم والعمل، محببًا إلى الخاصة والعامة، بصيرًا بالقراءات، والعربية، واللغة. تلت على أبيها ختمات لا تحصى بحرف نافع، ثم استظهرت عليه تنبيه مكي وشهاب القضاعي ومختصر الطليطلي عن ظهر قلب، وقابلت معه صحيح مسلم والسير وتهذيب ابن هشام وكامل المبرد وأمالي القالي وغير ذلك، وسمعت من لفظه كثيرًا وحفظت من شعره في الزهد، وتلت القرآن على أبوي عبد الله: الأندرشي الزاهد وابن المفضل الكفيف. حدث عنها ابنها أبو القاسم بن الطيلسان تلا عليها القرآن بقراءة ورش، وقرأ عليها ما عرضت على أبيها من الكتب، وسمع منها غير شيء، وأجازت له بخطها، وقال: “أظن أبا مروان بن مسرة أجاز لها؛ فإنه الذي سماها ودعا لها، حملها إليه أبوها يوم ولادتها”. وتوفيت سنة ثلاث عشرة وستمائة.
أم العز بنت أحمد بن علي بن محمد بن علي بن هذيل
أم العز بنت أحمد بن علي بن محمد بن علي بن هذيل: من أهل بلنسية، هي ابنة أحمد بن هذيل المعروف عنه أنه كان من أهل الصلاح والقرآن، أخذت قراءة ورش عن أم معفر: إحدى حرم الأمير محمد بن سعد(ت 568هـ)، التي اشتهرت بعلم القراءات ومجلس تعلم فيه القرآن للنساء. وبرعت أم العز في حفظ الأشعار والتمثل بها، وتوفيت بشاطبة إثر خروجها من حصار بلنسية في أحد شهري ربيع سنة: ست وثلاثين وستمائة.
أم شريح المقري
أم شريح بن محمد بن شريح المقرئ: تنحدر من إشبيلية، هي زوج أبي عبد الله بن شريح، الرعيني الفقيه والمحدث وصاحب كتاب “الكافي في القراءات”، وابنها هو شريح بن محمد العيني الإشبيلي خطيب إشبيلية ومقرؤها (ت 476هـ) وقد ذكرها ابن الأبار عن ابن خير هكذا غير منسوبة، وهي أخت أبي عبد الله أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن غلبون الخولاني بن الحصار؛ ولعلها تنتسب إلى قبيلة خولان العربية.
كانت تُقرئ مَنْ خَفَّ عليها خلف ستر بحرف نافع، وكان أبو بكر عياض بن بقي قد قرأ عليها في صغره؛ فكان يفخر بذلك ويذاكر به ابنها شريحًا، ويقول: “قرأت على أبيك وأمك؛ فلي مزية على أصحابك ومَاتَّةٌ لا يمت بمثلها أحد إليك”. فيقر له الشيخ ويصدقه.