حارس القدس ومطران المقاومة
إن القوميّة هي نفس العاطفة التي تربط الفرد بأهل بيته لأن الوطن بيت كبير والأمّة أسرة واحدة.
هكذا عرّف ووصف المفكر السوري ميشيل عفلق القوميّة وهكذا كرسها مطران مسيحي، تخلى عن الحيّز العقائدي الخاص ليعزّز الحيّز القومي العام.
هذا المطران الذي يقول “أنا سوري المولد، فلسطيني الهوية، قلبي في لبنان وعربي الانتماء” هو حديث مقالنا اليوم وحديث مسلسلٍ اعتلى منذ الحلقات الأولى عرشَ المسلسلات الرمضانية ذات الرسالة.
جعل المطران كابوتشي من حياته عنوانًا للنضال القومي ومنارة للقضية الأم، فرأيناه يحرس القدس و يصلّي لترابها. يهرّب الأسلحة مناصرة للمقاومة الفلسطينية ويواجه الجوع شامخًا لا راضخًا، خلف أسوار سجون الاحتلال.
هذا المطران الذي نتحدثه عنه والذي مثّل ولا يزال حتى بعد موته سراج أملٍ لكل فلسطيني هو جورج بشير كابوتشي، المعروف بهيلاريون كابوتشي. هو الأسقف الذي كان مقاومةً في وجه الاحتلال وصمودًا في وجه الإرهاب. إنه أحد رموز المسيحية المشرقية في ارتباطه بهذه الأرض وفي عمق انتمائه لها، وهو المطران-القضية (حسب الأستاذ حبيب أفرام، الأمين العام للقاء المشرقي).
مسيرة مطران مقاوم “المطران كابوتشي”
ولد المطران سنة 1922 في مدينة حلب التي كانت آنذاك تواجه الاستعمار الفرنسي. فورث عنها جمال روحها وشموخ مآذنها وقداسة كنائسها. انتقل بعدها إلى دير الشير قرب عالية في لبنان، حيث بقي حتى سنة 1944.
ثم تركها ليكمل دراسته في القدس وينصَّب أسقفًا على رأس كنيسة الروم الكاثوليك سنة 1965. تواجده في هذه البقاع المقدسة وفي سياق النكبة ثم النكسة جعل من ابن حلب فلسطينيًّا فدائيًّا، يرفع عصاه في وجه الكيان الصهيوني مناضلًا غير متوارٍ ذي لباس كهنوتي أسود قاتم جعل من صليبه سلاحًا ينصر الحق ويناهض الظلم والطغيان.
اُعتُقل هذا الأسقف الوطني من قِبَل قوات الاحتلال سنة 1974 حين كان بصدد تهريب أسلحة لحركة المقاومة الفلسطينية داخل سيارته. فحكم عليه بـ 12 سنة قضى منها 3 سنوات و3 أشهر. ومن هنا بدأت قصة العمليات التي تتالت منذ عام 1974 في عملية بيسان إلى عام 1975 في عملية كفار يوفال مرورًا بعملية السافوي، مطالبة بإطلاق سراح الكابوتشي وغيره من المعتقلين.
“حارس القدس” مسلسل ودرس في الإنسانية
هذا هو بطل المسلسل الذي أهدانا إياه كل من الأستاذين باسل الخطيب وحسن م.يوسف، وقام بتأدية دوره العظيم “رشيد عساف” بصحبة ثلة من ألمع الممثلين أمثال سليم صبري وصباح الجزائري. أنتج هذا العمل الأستاذ عماد سمارة وأطربتنا في مقدمته ميادة بسيليس. وهو مسلسل يخاطب العقل والوجدان، فيرسم مسيرة رجل، لم يقبل بأن يفتك الاحتلال بأرضه أو ينتهك عرضه وظل يحارب عدوه بالصليب وبالصلاة وبالسلاح في صورة لرجل الدين المثالي والمنفي متحديًا قرار النفي وليعود مبحرًا عبر أسطول الحرية لفلسطين عام 2010. هُجِّر ولكن عطشه لإظهار الحق قاده لمواجهة العدو مجددًا والصراخ في وجه المحتل.
“حارس القدس” هو عمل تحضر فيه القضية الفلسطينية كقضية إنسانية سامية، تستحق أن تغزو عقولنا و قلوبنا، أقلامنا وشاشاتنا كما غزت قلب كابوتشي وروحه وسيرته.
المطران كابوتشي الذي هتف باسمه الناس حال خروجه من المحكمة والذي أجابهم قائلًا: ” أنا سعيد بما فعلت، إن هدفي هو إحلال السلام في المنطقة… ونحن جميعا أبناء لأب واحد وهو الله”.
المطران كابوتشي الذي لم ينفك يردد أن الأرض هي الأم والذي حفظ بين ثنايا قلبه كل فصيلة من فصائل المقاومة (من حماس إلى الجهاد والجبهة الشعبية والديمقراطية والنضال والصاعقة والقيادة العامة وصولًا إلى جبهة التحرير العربية وحزب البعث).
كابوتشي الذي رحل عنّا سنة 2017، تاركًا وراءه هذه الكلمات:
لو أتيح لي أن أفوت إلى غزة كي أكحّل عيني برؤية أبنائي وأشم رائحة القدس من بعيد، أتمنى البقاء معهم لأشاركهم الشهادة والاستشهاد أو النصر، نحن لن نركع، لن نستسلم ولن نهادن، مهما طال الزمن وبهظ الثمن.