اللاطمأنينة: الذات في مواجهة الوجود
يلتمس القارىء في يوميات (بيسوا) انفصالًا وجدانيًا عاشه الكاتب عن عالمه ومحيطه الخارجي إلا أن هذا الانفصال هو في الحقيقة ليس إلا شكلًا آخر من الاندماج والاشتباك معه، كل هذه الإحساسات التي عبر عنها (بيسوا) في يومياته والتي تنم عن اغتراب ذاتي واجتماعي هي أشبه بردة فعل لا واعية، عتاب، واحتجاج غير مباشرين على غياب الأمان في الخارج، والطمأنينة، ومقومات الحياة الوجدانية، الانتماء بكل صوره؛ الدينية والسياسية والأخلاقية. “عندما جاء الجيل الذي انتمي إليه إلى الوجود لم يجد أي سند عقلي أو روحي ذلك أن العمل الهدام الذي قامت به الأجيال السابقة لنا جعل العالم الذي ولدنا فيه مفتقرًا إلى الأمان الديني وإلى الدعم الاخلاقي وإلى الاستقرار السياسي لقد ولدنا إذن في أوج القلق الميتافيزيقي في أوج القلق الروحي وفي أوج اللاطمأنينة السياسية..” (١)
غياب الإيمان الديني:
يشكل الدين أحد أهم أشكال وصور الإيمان لما يبعث في النفس البشرية من اتزان واستقرار وهو منبع من منابع الأمل المتجدد، لم يكن لهذا الشكل من الإيمان محل في حياة (بيسوا)، أو على الأقل هذا ما يقوله لنا في يومياته: “أما نحن فقد فقدنا هذا الدين منذ البداية ومعه الأديان الأخرى بدورها وانتهينا إلى الاستسلام لذواتنا الفردية، داخل وحشية الإحساس بالحياة”. (٢)
لقد خلف غياب هذا الشكل من الإيمان في حياة (بيسوا) ثقبًا نافذًا لأشباح القلق بشتى أشكاله وألوانه لا سيما أشرسها: القلق الوجودي. ولا يعني هذا أن الإيمان الديني درع حصين ضد القلق الوجودي لكنه يمثل بشكل أو بآخر مصدر من مصادر الطمأنينة، والذي من شأنه أن يخفف -بشكل أو بآخر- من شدة ووطأة هذا الشعور النفسي.
تعدد الأنا واندماجها مع الآخر:
يقطن البعض منا في عالمين، يتناوب في الحضور والتواجد فيهما، العالم الذي وجد نفسه فيه والعالم الذي أوجد نفسه فيه، الذي شيده بأفكاره ومعتقداته الخاصة وانتقى كل أجزائه وعناصره بنفسه، أو بعبارة أخرى العالم العملي والعالم الروحي والوجداني ويحتم على هؤلاء الذين يتنقلون بين هذا العالم وذاك أن يحملوا في داخلهم ذوات منقسمة إلى أجزاء صغيرة متعددة، العالم الثاني يولد دائما كردة فعل على العالم الأول، يكمل نقائصه، يسد ثغراته، كان (بيسوا) جزءًا من العالمين وهذا ما ولد في داخله شعورًا بالتشتت والانقسام الذاتي، “إلهي، يا إلهي؟ من أكون؟ كم من ذوات أنا؟ من هو أنا؟ ما هو هذا الفاصل الموجود بيني وبيني؟ (٣)
ولكن ليس مصدر هذه الحيرة وجوده في العالمين وكونه جزءًا منهما بل تداخل واندماج هوياته في كلا العالمين حتى أصبح من الصعب عليه تمييز ذاته الأصيلة أو هويته الأصلية. وبعبارة أخرى، لقد بات الآخر جزءًا لا يتجزء من الأنا وأصبح الهروب من الآخر أو محاولة الانعتاق منه هو هروب من الذات وانسلاخ عنها: “التعايش مع الآخرين تعذيب بالنسبة إلي والآخرون مقيمون دائما بداخلي حتى وإن كنت بعيدًا عنهم فأنا مجبر على معايشتهم، لا أملك ملاذا أفر إليه مع عدم قدرتي على الفرار من ذاتي”. (٤)
بالنسبة (لبيسوا) يشكل الآخر تهديدًا لذاته (مصدر قلق) لكنه في الوقت نفسه لا يستطيع أن يحمي نفسه من هذا الخطر؛ لأنه سيكون حينها يحمي نفسه من نفسه ويتخلى عنها من أجلها مما يفضي إلى تناقض ذاتي رهيب يولد في النفس إحساسًا بذات جوفاء، خاوية فقدت ماهيتها” لقد تنبهت بوميض برق باطني أني لا أحد، لا أحد”. (٥)
اللا وجود والتمرد على الوجود:
“لقد انتميت على الدوام إلى ما لا يوجد حيث أوجد أنا وإلى مالم أستطع أبدا أن أكون، كل مالم يكن لي مهما صغر شأنه امتلك دائما نوعًا من الشاعرية بالنسبة إلي لم أحب أبدا غير لا شيء. لم أرغب قط سوى فيما لم أتمكن من تخيله“. في هذا النص أو كما أسميه الشذرة الفلسفية لا يحدثنا (بيسوا) عن شعور شخصي يخصه وحده بل يطرح فكرة فلسفية وجودية مفادها أن الإنسان نتاج الخيارات التي لم يخترها والقرارات التي لم يتخذها، كل خيار نختاره أو قرار نتخذه هو ناقص بالضرورة مهما كانت مميزاته؛ إذ توجد به ثغرة لا يسدها إلا القرار الذي رفضنا اتخاذه ما يعني أنه من المستحيل أن يصبح كاملًا في أعيننا لأنه من المستحيل أن نرفض ونختار الشيء ذاته في الوقت نفسه.
وأخيرا.. اللاطمأنينة ليس مجرد كتاب دون فيه (بيسوا) يومياته ومن الظلم اعتباره كذلك، هو أشبه بنص أدبي نثري بروح فلسفية عميقة. ظاهره أدبي وباطنه فلسفي.. هذا المزيج الثنائي بين الفلسفة والأدب استطاع بيسوا من خلاله أن يختزل حقائق كثيرة عن الحياة.
المصادر:
(١) كتاب اللاطمأنينة، ترجمة المهدي أخريف ص ٢٢
(٢) المصدر السابق ص ٢١
(٣) المصدر السابق ص ٣٨
(٤) المصدر السابق ص ٥٧
(٥) المصدر السابق ص ٤٢