الكتابة كعملية لفهم الذات والواقع
الكتابة بجوهرها لا تكتب لتُقرأ بل لترفعَ كاتِبها نحو فهم نفسه وما حوله من إشكالياتٍ وحلولٍ غير محكمةٍ بعد، هي عملية أساسيّة في الفهمِ والتوسُّع في المعرفة، وقدّ تحمل الكثير من الصعوبات في بدايتها، ولكنها، بتعبيرٍ مُباشر، تشبهُ علاقةً غراميةً معقّدة في طبيعتها.
يبدأ الأمر بثقةٍ عمياء بين الكاتب ونصوصه، ويرافق ذلك سحرٌ غير مفهوم يرافق بداياته الحماسيّة والمراحل الأولى بتشكّل ملامح الطابع الأدبيِّ الخاصِ به، حيثُ أنه يرى في ما كتبَ نشوةً أولى وكأنها قبلة عابرة لم يُخَطَّط لها من قبل، وبعدَ أن يغرق بذلك لمدّة طويلة، وساحرة، قدّ تتضحُ ملامحها عند زوال السحرِ الأول الذي جعل من الكاتب واثقا بنفسه أكثرَ ممّا يجب، فيعلمُ حينها أنه مخدوعٌ بغايتهِ ولغتهِ وبلاغته وعلاقته مع الكتابة؛ من هنا تبدأ عملية الفهمِ لذاته فيصبحُ أكثرَ حكمة في تقديرِ ما يجب أن يكتب علنًا وما يجبُ أن يحتفظَ به كمسودةٍ قابلةٍ للتطوير، هذه قاعدة أساسية في الحياة وليسَ في الكتابة فقط؛ على المرء أن يدرك ما يجب أن يُقال وما يجب أن يبقى سجين عقلهِ حتى وقتٍ لاحق، وأن يعي ما قاله سقراط “تكلَّم حتى أراك”.
إن أي فنان يحترم نفسه لا يجلس عاقدًا ذراعيه بحجة أنه ليس في مزاج مناسب
تشايكوفسكي
أوليسَ هذا يبدو مجحفًا بحق الكُتّاب والرؤية الرومانسية عن الإلهام والشغف؟ ولكن من رؤية أُخرى ألا يبدو واقعيًّا، أو طريقةً عملية للاستمرار في حياة لا تسير كما نتمنى؟
هذا أيضًا، ولحدٍ ما، شرطٌ أساسيٌّ لفهم الذات، الطباع الرومنسيّة ليست عملية فعّالة بل مثاليّة يصعبُ أن تُناسب عبثية الواقع، أو أن يُراهنَ بِها كوسيلة نجاح مضمونة، والكتابة كذلك؛ لا يجدرُ بها أن تكون رهنَ الإلهامِ فقط بل أن تكون منطلقة من عالمٍ عبثيٍّ ومُبعثرٍ باحتمالاته.
كتب ديستوفيسكي -22 ديسمبر 1849- في مقدمة رسالته إلى أخيه -ميخائيل دوستويفسكي- مُتحدثًا عن لحظة الحكم عليه بالأعدام، كيفَ عاشها، وكيفَ كان له أن يصفَ تلك القسوة، وذلك قبيل السفر الى «بيت الموتى» في سيبيريا:
أخي يا صديقي العزيز! لقد حُسم مصيري! لقد أدانوني بأربع سنوات من الاشغال الشاقة في سجن سيبيريا، وبعد الخروج من السجن سوف اصبح مجندا محروما من الحقوق المدنية بما فيها حق الكتابة لمدة ست سنوات..
وقدّ عبَّر وعبرَ نحو أعمقِ نقطةٍ في النفسِ البشرية بتلك الرسائل، ولأنَّ الكتابة لديهِ كانت سيفا يقطع به اليقين بأنه مازال موجودا -صفةٌ وجوديَّةٌ عُليا-، وعملية أساسية للفهمِ والإدراك، فلم ترتبط بالمزاج والإلهام بل كانت منطلقةً بجوهرها حتى قبل الموتِ بساعات، وهُنا تصوغ مقول تشايكوفيسكي -التي ذُكرت سابقًا- مُبتغاها، وتُبرَّر أنَّ الفنّ بالعموم، والكتابة بالخصوص، طريقةٍ لفهم الذّات والمحيط، طريقةٌ لا تنتمي للرفاهية والإلهام بل إلى جوهر الكاتب لفهمِ نفسه كأولوية، ولفهمِ المُحيط كثانوية.
تعمل الكتابة هنا، على عكس القراءة، كمُثبِّت لطابع خاص بما يخص التنقيح والتحليل للمعلومات، وهذا ما يدعو الكاتب -وليس الناقل أو المحرِّر- للتفهيم من خلال بصمته الأدبية والفكرية لما يَكتب، وهذا يشبه لحد ما نظرية أرسطيّة -أفضل طريقة لتتعلَّم هي أن تُعلِّم- ولكنَّ الفرقَ بينهم يكوّن ميزة الكتابة، وهي أنها لا تحتاج للتلميذ بل عملية أساسية في الفهم -جوهرية بذاتها- ومع ارتباط هذه الاستراتجية بالمحيط نجد الآتي: الكاتب يَشرَع لتفهم ذاته عن طريق تحليل وتنقيح ذكرياته ويومياته بشكلٍ أدبيّ، وهذا ما يجعل منه عقلاً مُفكرًا يتفلسف في سبيل التعبير عنه.
تقول الفيلسوفة الألمانية حنة آرنت في مقابلة لها ضمن برنامج: إلى الذات. والذي كان يقوم بتقديمه المقدم غونتر غاوس. وقد تم إذاعة الحلقة سنة 1964.
الكتابة جزءٌ أساسيٌّ في عملية الفهم، وجزءٌ أساسيٌّ من التعمُّق في الوعي.
من جهة أُخرى ومحبوبة لدى القُرّاء، وهي الكتابة الروائية، وعلى وجه الخصوص تلك التي تسعى لملء قصور الفلسفة، وتكوّن عالمًا غريبَ الملامحِ ومُطلق الخيال ليشَرَع نحو تجسيد الفلسفة بجوهرِ فنّ الرواية عن طريق الشخصيات والعوالم والأحداث.. وسَعى ميلان كونديرا لشرحِ دور الرواية في إكمالِ القصور الفلسفيّ في كتابه -فنّ الرواية- حيث يفتتح كتابه بأن الفلسفة يجب أن تتحوّل لشكل آخر، وهو الرواية، وهذا ما يُناست رغبة الإنسان في لغة ينجبلُ معها ليجدَ ذاته.
وبالفعل الرواية اتخذت مركزًا مهمًا في التعبير الفلسفيّ من خلال أعمال كونديرا والبير كامو وكافكا وديستوفيسكي، وحتى برتراند راسل في كتابه -الشيطان على الأرض- وغيرهم من الكُتّاب والأدباء والفلاسفة.. إذًا عندما نكتب فنحنُ نتفلسف ونَشرَعُ هائمينَ في عالمٍ خياليٍّ يعكسُ أعمق نقطةٍ في الباطن، حيثُ أنّه-ذلك العالم- يخلو من حدود الواقع، فنطبعُ طبائعنا في شخصيات العمل ليكون وجهًا آخر للفلسفة وفهمِ ذاتنا وواقعنا من نقطة أعمق، وكم هذا شرطٌ أساسيٌّ ليعيشَ المفكرُ والفنان واقعه العبثيّ ليستمرَ في مسيرتهِ مُتأمّلاً بعالمٍ يُشبهُ ما يتمنى.. والانعكاس بين الخيال والواقع هو حجرُ الأساس الذي ينطلق منه الكاتبُ ليُغيِّر واقعه أو يتفهمه أو يُعطيه طابعًا يُخفِّف حدّة الحقائق على نفسه.