القتل بإسم الدين.. وأصل الارهاب
القتل باسم الدين
فى عام 1572، اندلعت في مدينة باريس أبشع مذبحةٍ عرفها التاريخ، راح ضحيتها رجال ونساء وأطفال، بلغ عددهم فى يومها الأول ثلاثة آلاف شخص، ثم امتدت أحداث تلك “المجزرة” إلى العديد من المدن الفرنسية حتى وصل عدد الضحايا إلى ثلاثون ألفًا.
فقد انطلقت جموع الأهالي من الكاثوليك فى نشوة “دينية” غير مسبوقة، بإسم حماية معتقداتهم وحماية الكنيسة وبابا الفاتيكان، في حربٍ هيستيرية ضد غيرهم من المسيحيِّين المنتسبين للعقيدة البروتستانتية، واختفت كل المشاعر الانسانية أثناء تلك الهوجة، فقتلوا وذبحوا كلّ من تشكَّكوا فى عدم انتسابه للعقيدة الكاثوليكية أو حمايته لأفراد منتسبين للبروتستانت، لقد قتلوهم وقتلوا نساءهم وأطفالهم بلا رحمةٍ، وسميت هذه الأحداث بمذبحة “سان بارتيليمى”.
لقد هربت الكثير من العائلات البروتستانتية إلى جنوب فرنسا حيث كانت أعدادها كافية للدفاع عن نفسها، إلَّا أنَّ الهجوم المستمر عليهم أدى أيضا لهروبِ الكثير منهم إلى مدينة “جنيف” بسويسرا، مثلما فعل القسّ الفيلسوف جان كالفان لينعم بحرية نشر عقيدته.
استمرت تلك الهجرات عبر السنين طويل، حتى أني أذكر حالةَ جدتي لأمي الفرنسية المولد، وقد هاجر أهلها البروتستانت إلى جنيف فى نهاية القرن التاسع عشر هروبا من اضطهاد الكاثوليك بمدينة “نيم” فى جنوب فرنسا.
لم يتفِّق المؤرخين على تفاصيل الأسباب التى أدت إلى حدوث تلك الهوجة الاجرامية ذات النزعة الحيوانية والقناع الديني، ولا تزال الاختلافات العقائدية حتى يومنا هذا تؤثِّر على وضوح الرؤية التاريخية وتحليلها.
لذلك سنحاول فقط فهم التسلسل التاريخى لتلك الفترة، واستخلاص الدروس التاريخيَّة نظرا لما تمرُّ به بلادنا من انقسامات حول المفاهيم الدينية التي قد تؤدِّى بنا (لا قدر الله) إلى أوضاع أبشعَ من تلك المذبحة التاريخية التى تمت باسم حماية المعتقدات الدينية.
قد يكون للعقيدة البروتستانتية جذورًا تعود إلى القرن الحادى عشر الميلادى، إنَّما نشأة تلك العقيدة بصفة رسمية محددة بعام 1517، (قبل المذبحة بخمسة وخمسون عاما)، وكان الداعي لها القس المسيحي الألماني “مارتن لوثر” الذى صاغ وثيقة “الخمسة وتسعون رسالة أو أطروحة” اعتراضًا على مفاهيم وممارسات الكنيسة الكاثوليكية، وأضيف لها أبحاث وأعمال القس الفيلسوف الفرنسى “جان كالفان”، ونظرا لقيام تلك العقيدة أساسّا اعتراضًا على ممارسات الكنيسة، فتم تسمية تلك الجماعة بالمعترضين أي “البروتستانت”.
أهم نقاط الاختلاف بين البروتستانت والكاثوليك:
• مرجع البروتستانت الأوحد هو الكتاب (العهد القديم والجديد). وهم لا يعترفون بالأعراف والتقاليد التس امتلئت بالتفسيرات المتشدِّدة ذات الطابع المسيَّس.
• يرفض البروتستانت أي دورٍ لأفراد وضعوا أنفسهم فوق مستوى العامة للوساطة مع الخالق (القس والراهب)، ولا يوجد لديهم إلَّا مرشدين وعلماء (رجال أو نساء) لهم دور استشارى فقط تجاه العامة. وليس لهذا الاستشارى أي دور لمنح صقوق غفران كما يفعل القس الكاثوليكى مقابل الاعتراف بالذنوب.
• لا يعترف البروتستانت بالبابا سواء الكاثوليكي أو الأورثوذوكسي ولا لأي دور أو شكل قدسي لرجال الكنيسة من الأساقفة ورجال الكهنوت.
• يحق لرجال الكنيسة البروتستانتية نظرا لصفتهم الاستشارية الزواج مثلهم مثل كل العامة.
• لا يوجد لدى البروتستانت قديسين، بالتالي لا وجود لذكرهم فى الصلاة كوسطاء مع الخالق، حتى أن السيدة العذراء نفسها لا دور وسيط لها، ويعتبر كل شخص مسئول عن أعماله مباشرة أمام الخالق.
• لا يمارس البروتستانت صلاتهم بأداء علامة الصليب كما يفعل الكاثوليك، فهم يعتبروا تلك الشعائر من بقايا الوثنية.
• يشجِّع البروتستانت أداء الأعمال المفيدة أو الخيرية مباشرة للغير دون وساطة للكنيسة.
ولتوضيح تلك الفروق أهمية لفهم لماذا استشعرت الكنيسة الكاثوليكية الخوف من الأفكار البروتستانتية، حيث أنَّها تقلِّل من شأن الكنيسة ومن تسلُّطها على الحياة السياسية وحفاظا على ثرواتها التي تجمَّعت لديها عبر القرون من استنزاف العامة باسم منح صقوق الغفران وما شابه.
وبالعودة إلى مذبحة السان بارتيليمى، سنجد أنَّ الكنيسة الكاثوليكية لعبت دورًا خفيًا ولكن خبيثّا لاشعال الفتنة بين المسيحيين من الطائفتين، فى حين كانت الملكية الفرنسية (خاصة الملك شارل التاسع وأمه كاترين دى ميديسيس) فى ذلك الوقت تحاول الحفاظ على السلام الاجتماعى بعد عهود من الحروب الدينية، حتى أنَّها ضمَّت ضمن العائلة الملكية عددًا من الأمراء البروتستانت، ولكن يبدو أنَّ بعض خبثاء الكاثوليك نجحوا فى زرع الفتنة التى تسبَّبت في تلك المذبحة عن طريق تدبير حادث لمحاولة اغتيال أمير البحار “كولينيى”، وانتهت فعلًا بمصرعه بعدها بأيامٍ أثناء المذبحة.
بالقطع أنَّ الدرس الأوَّل المستفاد من تلك الأحداث التاريخية هو سهولة زرع الفتنة بين العامة بإسم الدين، وبأسلوبٍ يؤدِّي للقتل والاغتيال دون إحساس بالذنب، وما أساليب داعش بجديدة فى تاريخ البشرية.
أما الدرس الثانى فهو أنَّ قيام رجال الدين بلعب أدوار سياسية، لايوجد غرض من وراءها إلَّا السيطرة والسلطة المطلقة، وكلَّما حدث ذلك انهارت القيم الدينية والعقائد لصالح بعض رجال الكهنوت. فكم بالتاريخ من تفاصيل مريعة ولكن نافعة إنْ تدارسناها واستوعبناها.
أصل الإرهاب
ليس الإرهاب بظاهرة حديثة مقصور استخدامه على المتأسلمين، فالتاريخ يعلَّمنا أن أول ظهور مسجَّل بمستندات وأدلة لتلك الظاهرة يرجع للقرن الأول الميلادي، أي ستة قرون قبل ظهور الإسلام.
لكن العجيب، أنَّ الإرهاب بمفهومه الحالي كأداة للقتل الجماعي بين صفوف الأبرياء من أجل إسماع صوت بعض الأقليات من الطوائف المتعصبة دينيا وسياسيا، ظهر فى منطقة الشرق الأوسط، وتحديدًا في فلسطين، فلقد تواجدت طائفة يهودية متطرِّفة ومتعصِّبة، سميت باللغة الكنعانية “طائفة الكاناييم”( Qanaim)، وباللغة اليونانية “طائفة الزيلوت” (Zélotes).
لقد اشتهرت تلك الطائفة اليهودية بالتزمُّت الشديد والعدوانية الإجرامية، حيث كانت معتقداتهم هى ضرورة ارساء قواعد مملكة اليهود على الفور دون انتظار باستخدام العنف والقسوة، وكانوا يعتبرون أنَّ أيّ شخص من خارج هذه الطائفة – حتى إن كان يهوديًا من طائفة أخرى – هو الأجنبي الذي يجب قتله، باستخدام الكمائن على الطرق والهجوم على المنازل لقتل الأسر والعائلات، بإستخدام السيوف والخناجر.
وظلَّ الحال كذلك فى فلسطين عشرات السنين حتى قرَّر الرومان إبادتهم لإنهاء إرهابهم، ثم استمرت ظاهرة الإرهاب عبر التاريخ على فترات متباينة، وظهرت قبائل عربية وأسياوية – مثل قبائل الحشاشين (Assasins) – التى استخدمت الإرهاب لأغراض دينية/ سياسية…
ثم كان أول ظهور للإرهاب الحديث في أوروبا أثناء الثورة الفرنسية، ثم فى روسيا بنهاية القرن التاسع عشر وقبل الحرب العالمية الأولى، وكانت قمة استخدام الإرهاب والقتل الجماعى بالتفجيرات في أوروبا على يد الحركات “الأناركية” أو الفوضوية فى نهاية القرن التاسع عشر.
لذلك يكون أقرب تعريف لأهداف الإرهاب بصفة عامة، هو قيام بعض الأقليات باستخدام العنف وسلاح القتل الجماعي للأبرياء لمحاولة فرض رأي وتوجُّه ديني وسياسي على الأغلبية.