الفن هو الخلاص: كيف يعيننا الفن على مأزق الحياة؟!
يتجول ستيفن ديدالوس، بطل رواية جيمس جويس المعروفة “صورة الفنان في شبابه“، ورأسه تعج بالأفكار، وإذ به يعيش لحظة استبصار بعد دفقٍ من الأفكار والرؤى، أخذ يفكر بلقبه “ديدالوس” وهو اسم شخصية أسطورية استطاع ببراعته الهندسية أن يصنع أجنحة من الشمع ليطير بها مع ابنه إيكاروس هاربين من سجنهما.
تراءى له أنه هو أيضًا يستطيع أن يصبح فنانًا يخلق لنفسه أجنحةً مماثلةً يطير بها عاليًا، بالنسبة له كان ذلك هروبًا من ظروف عائلته الصعبة وكذلك من أسْر الواجبات والقواعد الصارمة التي تفرضها عليه حياته الدراسية في مدرسته الدينية، لقد كان يريد أن يخلق لنفسه بالفن وجودًا موازيًا، وهكذا عندما التقت عيناه بعيني فتاة تلعب بالمياه على مقربة منه، شعر بروحه تنطلق، “كان خداه متوهجين، وجسده مشتعلًا، وكانت أطرافه ترتعد. وخطى سائرًا، سائرًا، سائرًا إلى الأمام على الرمال، يغني للبحر في جموح، يصيح مرحّبًا بالحياة التي نادته. لقد دخلت صورتها إلى روحه إلى الأبد، ولم تحطم كلمة واحدة صمت نشوته المقدس. لقد نادته عيناها وقفزت روحه للنداء. نادته ليحيا، ليخطئ، ليسقط، لينتصر، ليعيد خلق الحياة من الحياة!”
لطالما بدت الحياة أشبه بالمأزق بالنسبة للإنسان، هنالك دائمًا شيءٌ يهرب منه، وهنالك دائمًا وجهة يهرب إليها ليصبح كما يصف جويس بطل روايته؛ “…وحيدًا… خاليًا، سعيدًا وقريبًا من قلب الحياة الجامح.” إنه يهرب باحثًا عن الخلاص من مأزق الحياة! لكن ما الدور الذي يلعبه الفن في هذا الخلاص؟
كان أفلاطون يرى الفنون محاكاةً زائفةً لهذا العالم الذي هو في حد ذاته محاكاة لعالم المُثُل الحقيقي، وكان يمقت في الوقت نفسه تصوير نماذج وشخصيات شريرة تمارس أفعالًا غير أخلاقية أو سيئة أمام الجمهور لِما قد يخلق ذلك من أثر سيء فيهم. لكنّ أرسطو الذي لم يختلف مع أفلاطون في كون الفنون محاكاة، رأى أن البشرية تميل بطبيعتها إلى محاكاة الطبيعة، يحب الإنسان أن ينسج الحكايات حتى لو كان ذلك لغرض الاستمتاع. ثم يعقب ذلك بقوله: “إن التراجيديا شكلٌ من الفن الذي يحاكي أفعالًا نبيلة يقوم بها أشخاص نبيلون، أما أثرها على المشاهدين فهو في جعلهم يعيشون حالة من التطَهُّر العاطفي catharsis، كما لو أنه نوعٌ من الفن الذي يغسل مشاعرهم وأرواحهم”.
وعند ذكر أفلاطون وعالمه المثالي لا مناص من القول أن التأمل في صور الأشياء كما هي في عالم المثل هو نشاط مرتبط بشكل أو بآخر بالفن، بمعنى أنّ محاولات الإنسان للتحرر من زيف هذا العالم المادي المحسوس تتمثل في قدرته على تأمل الأشياء في صورتها المثالية التي اعتبرها أفلاطون حقيقية، بل والأساس الذي يسبق وجود الأشياء في عالم الظواهر.
إن المساحة التي يوفرها الفن لإعمال الخيال والفكر تبدو شاسعة ولا تقف عند حد، والحرية التي قد لا يحصل الإنسان عليها في عالم الواقع تمتد في عالم الفن إلى ما لانهاية. هذه القدرة على التحرر من القيود هو ما يجعل الإنسان يعود مرارًا وتكرارًا إلى تلك العوالم الخيالية الشاسعة حتى مع إدراكه لبعدها عن الواقع المباشر، وكما يرى كانط “ليس الفن في جوهره سوى عملية الإنتاج الحر للجمال”، أي أن ما يحرك الإنسان نابع من إرادته الحرة، أو هو نتاج تأملاته وأفكاره.
يصف الشاعر الإنجليزي كولريج وهو من رواد المدرسة الرومانسية في الشعر الانجليزي، في قصيدته “قبلاي خان” صنفين من الطبيعة؛ أحدهما صنعته يد بشرية وهي قبةٌ شاسعةٌ امتلأت بالحدائق والأشجار والروائح، ويضعها مقابل الطبيعة “البرية” التي تبدو مكانًا موحشًا لا يد للإنسان فيها ولا سلطان، بل إنه يشعر بالخوف والرهبة من هذه الطبيعة التي يخضع لإرادتها، ولعل هذا ما يدفعه باتجاه خلق شكلٍ آخر من الطبيعة يكون قادرًا فيه على ممارسة إرادته بحُرّيةٍ تامة.
لقد تصور شوبنهاور هذه المسألة من منظور الإرادة والامتثال، أي أن بإمكان الإنسان أن يخرج من أسر عالم الإرادة من خلال التأمل الفني الخالص حيث تصبح الذات المتأملة خارج نطاق الزمان والمكان أي خارج عالم الإرادة بعيدًا عن كل أشكال الألم والملل التي تلون هذه الحياة ليصبح كما قال جويس: “…وحيدًا… خاليًا، سعيدًا وقريبًا من قلب الحياة الجامح”، لا شيء سوى هذه الذات المتأملة وصور الموجودات. وهذا الخلاص كما يبدو مؤقتٌ وليس دائمًا، ويتمثل بالانشغال الخالص في موضوعات فنية وجمالية لا تخضع لقوانين الهوى أو المنفعة أو الإرادة. وحتى نفهم المقصود من هذه الفكرة يمكننا أن نتذكر لبُرهة الشعور الذي يراودنا عندما نستغرق في لوحة فنية جميلة، أو تسحرنا مقطوعة موسيقية وقد يبلغ بنا الافتتان حد السؤال كيف استطاعت هذه الأشياء أن تثير فينا أحاسيس النشوة أو السعادة أو الارتياح؟
والموسيقى بوصفها فنًا تجريديًا تمامًا، يتصل بالأنغام والأصوات التي يمكن للجميع الاستماع إليها والتفاعل معها بل وكما يراها شوبنهاور أنها فن مستقل تمام الاستقلال عن الفنون الأخرى لأنها قادرة على النفاذ إلى أعماق الوجود، ولعل أبلغ مثال على ذلك عندما نجد أنفسنا ونحن نستمع إلى مقطوعة ما نعبر عما نسمعه بالقول: إنّ هذه الموسيقى حزينة أو إنّ تلك المقطوعة مبهجة، فكيف يمكن لهذه الأنغام أن تكتسب صفات الحزن والبهجة إنْ لم تكن هي في الأساس الحزن والبهجة في أكثر أشكالها تجريدًا؟ ولعلّ هذا ما يفسر ولعَ الفلاسفةِ الألمانيين بالموسيقى وكذلك محاولاتهم في التأليف الموسيقي، إنّ الموسيقى قادرةٌ على أن تمنح الإنسانَ الخلاصَ المنشود.
إنّ حب الإنسان ونزوعه المستمر باتجاه خلق عوالم موازية لوجوده ليس بالجديد، بل هو قديم قِدَم الوجود الإنساني، وهذه العوالم تكون “فنية” بقدر ما يضع فيها الإنسان من عقله وفكره وذاته؛ وبقدر ما تكون عملية الخلق تعبيرًا خالصًا عن حريته ورغبته في أن يكون “خلاّقًا” في عالمٍ يذكّرُه في كل حين أنه مسلوبُ الإرادة.
وقد أشار إريك فروم إلى هذا النشاط “الخلاق” و”التلقائي” في كتابه “الهروب من الحرية”، قائلًا: “يستطيع معظمنا أن يلاحظ على الأقل لحظات تلقائيتنا التي هي في الوقت نفسه لحظات السعادة الأصيلة. والنشاط التلقائي هو النشاط الذي يستطيع به الإنسان أن يقهر رعب الوحدة دون التضحية بكامل نفسه”؛ إنّ نزوع الإنسان إلى خلق عوالمه الخاصة يكاد يكون نزوعًا تلقائيًا، وإنّ حبنا للاستماع إلى القصص أو حتى حكايتها ما هو إلا رغبة في أن نمتلك القدرة على خلق حيوات بأنفسنا نشكل شخوصها وأحداثها وخواتيمها بإرادتنا، كما لو أننا القدر نفسه؛ نصوغ حياة هذه الشخصية أو تلك كما نريد ونرغب. إنّ عملية الخَلْق الفني وكذلك التأمل الفني هي ما يتيح هذه القدرة، وهي أيضًا ما يمنحنا فاصلًا مؤقتًا نبتعد فيه عن سطوة الواقع وآلامه. وبعبارة أدقّ كما قال فروم: ” إذا حقق الفرد نفسه بالنشاط التلقائي ومن ثم تعلق بالعالم فإنه يكف عن أن يكون ذرة منعزلة، إنه والعالم يصبحان جزءًا من كل واحد، إنّ له مكانته الحَقّة ومن ثم يختفي شكّهُ فيما يتعلق بنفسه ومعنى الحياة. إنه يدرك نفسه كفرد فعّال وخلّاق ويدرك أن هناك فحسب المعنى الوحيد للحياة: فعل الحياة نفسه.”
ربما نستطيع الآن أن نفهم جيدًا لماذا “تكون الحياة من دون موسيقى مجرد غلطة”، كما قال نيتشه، أو كيف يمكن أن تحركنا لحظة استمتاع فني عابرة للخوض أكثر في الحياة بعد أن منحتنا لمحةً عابرةً من الجمال.