اسْتِكشاف الفَنّ الغرائبيّ في كتاب “الفنون الجميلة اليابانية”
الخَطّ هو الإنسان نفسه. فالرسَّامون ذوو الطِبَاع اللطيفة يميلون إلى رَسْم خطوطٍ لطيفة، بينما هؤلاء من ذوي الطِبَاع الصارمة فيميلون إلى رَسْم الخُطُوط القوية.
توكوزو ساغارا
تَنْحَسِر الفُنُون في مجتمعاتنا إلى مرتبةٍ تتراجع وراء جميع اهتمامات الفرد التي تتعلَّق على الأغلب بالقيم الاستهلاكيَّة وملاحقة متطلَّبات الحياة الماديَّة والروتينيَّات التي تنهش وقته، وتتخفَّى وراء تركيزه بصورةٍ غير عادلة على السينما العالميَّة، وفَنّ المانغا وما يتبعه. هاتان الصناعتان الضخمتان اللتان صارتا الباب الواسع والأول الذي يمكن فيه للأشخاص أن يدخلوا منه لأجل الاستمتاع بها واكتساب بعض المعارف حول ما تقدِّمه من ثقافاتٍ وحكاياتٍ وآفاقٍ جديدة متناسين بقية الفُنُون الأخرى، حتى بالكاد نجد من ينشغل بفَنّ التشكيل والنحت العربيّ مع الغربيّ. أما الفنون اليابانية الجميلة فهي لا تفوز بأيّ شيءٍ اذا جاز القول، فيتم تقريبًا تجاهلها أو الجهل بها نتيجة شُحّ المصادر والمراجع التي تدرسها، مع ضعف حركة الترجمة العربيَّة في هذا الميدان.
لكن ها هو كتاب “الفنون الجميلة اليابانية” يخرج إلينا بترجمة الدكتور “حمدي مهران”، الذي أصدرته دار “قناديل” العراقيَّة سنة 2020 في أوَّل طبعة له، يحاول من خلاله بترجمةٍ مُتْقَنة ومفهومة إزالة الحجاب الذي يفصلنا عن هذا الجزء من عالَم الفَنّ وتعريفنا به.
يأتي الكتاب في 208 صفحةً لا غير، يَضُم فيها ثَّرْوَته المعرفيَّة في مجاله رغم صِغَر حجمه، وهو مزوَّد بأكثر من سبعين صورةً ملوَّنة للوحاتٍ ونماذجٍ فنيَّة لإثْراء محتواه وفهم الوصف والآراء المُتضمَّنة داخله حولها. كما أنَّ المترجم لم يبخل علينا المترجم بشرح بعض المصطلحات والمفاهيم الخاصة بالثقافة اليابانيَّة أو الآسيويَّة وغيرها.
والكتاب الذي قام بتأليفه “توكوزو ساغارا” الأستاذ المتخصّص بتاريخ الفَنّ هو من ضمن “سلسلة مطبوعات السائح” وهو مُوجَّه للسيَّاح الأجانب والغربيّين المهتمين بموضوعه، غير أنَّه في الحقيقة منجزٌ أدبيّ ونقديّ ينبغي على كلّ شخصٍ الاطلاع عليه ووضعه في قائمة القراءات المهمة، ويمكن أن يكون الدليل الأوَّل للناطقين باللغة العربيَّة للتعرُّف على هذه الفُنُون حتى لو لم ينتهج الكاتب طريقة تأريخه، أي استعراضه من الجذور بشكلٍ تسلسلي والتفصيل فيه وتمثيله على أساسٍ أنَّه مدخل.
اللا واقعيَّة:
سنجد في الكتاب أمثلة وشروحًا حول هذه الخاصيَّة التي تتميَّز بها الفُنُون التشكيليَّة اليابانيَّة، سواء تعلِّقت برسم المناظر الطبيعية التي تأخذ لنفسها الحصة الأكبر أم الشخصيات المقدَّسة المعروفة في التاريخ الدينيّ لهذا الشعب، كذلك عامة البشر أو المشاهير في المسرح وهذا ما تختص به المطبوعات الملوَّنة.
إنَّ اللَّوْحَات اليابانيَّة سواء كما عرفناها في الكتاب من لَّوْحَات الحبر الأسود والمطبوعات الملوَّنة أو اللفائف المصوَّرة التي تسرد لنا قصصًا عبر الرسم، تُنفَّذ بتقنياتٍ تختلف عن تقنيات الفُنُون الغربيَّة، فهي تتجاهل عِدَّة أسس بالغة الأهمية في أوساط فنيَّة غير اليابان، مثل المنظور والتظليل وتوَّخي الدِقَّة في النِسب والمسافات داخل العمل، وسنكتشف فيها فضلًا عن ذلك المساحات الفارغة التي تعج بالصمت والحكمة، والخطوط النهائيَّة التي تطوّق الهيئة البشريَّة أو الأشكال الطبيعيَّة، كذلك الابتعاد أحيانًا عن التلوين الصادق الذي يوحي بالشفافيَّة والحقيقة. إنَّ الفَنَّان هنا لا يقوم بعزل نفسه ولا ينحّي ذاته عن عمله الفَنيّ، بل يغمره بخياله وعاطفته التي تقوم بتشكيله، كما أنه يشوّه الواقع بطريقةٍ جميلة حتى يرضي ذوق وخيال المُشاهِد وجمهور فَنّه.
وفي ضوء ما سبق يكتب أستاذ الفَنّ في كتابه حينما يتحدَّث عن المنظور الغائب: “لماذا لا يوجد منظور في الصور اليابانيَّة؟ فربما تكون الإجابة الوحيدة الممكنة هي أن الرسَّاميين قد سَبَحوا بخيالهم حتى وصلوا إلى مرحلة النشوة”.
إنَّ الواقعيَّة شيءٌ أشبه بالملل والرتابة والبُعد عن جوهر الفَنّ الحقيقي، ولذلك فالإنسان اليابانيّ لا يمكنه في أيّ حالٍ من الأحوال التفاهم معه.
هذه الغرابة في الرسم بهذه البقاع هي ما تميِّز هذا الفَنّ، كما أنَّه يختلف عن النحت الذي هو أكثر شبهًا بالواقع من الرسم رغم وجود بعض الاستثناءات، وهو هنا فَنّ يسلِّط الضوء على الصور الدينيَّة أكثر.
الفَنّ والإيمان:
لا يشير الكتاب إلى جزء يختص بالدين في اليابان، كما أنَّه لا يتحدَّث بالتفصيل عن تلك الروح الدينيَّة التي تقوم بإخراج الأعمال الفنيَّة إلى الوجود للتعبُّد بها واستعمالها في الطقوس، أو إظهار العالَم مثلما تراه المعتقدات، فهذا شيء معلوم لمحبي الفَنّ، وإنَّما نجد ذلك بشكلٍ عفويٍّ في صفحاته، ومثلما يرتبط الفَنّ بالمجتمع ويمكنه أن يكون تمظهرًا من تمظهراته فهو كذلك مع الأديان، لكن ما نقصده هنا هو أنَّه من خلال قراءتنا لمؤلَّف الكاتب توكوزو فسوف نعرف أنَّ الفنون الجميلة اليابانية لا تأخذ من الدين بشخصياته الجليلة ومواضيعه الروحانيَّة موضوعات لها فحسب، بل إنَّ العديد من الفنَّانين أنفسهم هم في الحقيقة رُهْبَان وكَهَنَة، وهذا ما نجده مثلًا في مدرسة “هوكوغا” التي كان من روادها الأوائل رُهْبَان في بوذيَّة الزن على سبيل المثال.
إنَّ النورانيَّة التي تُلقَى على اللَّوْحات وما تحويه من صور رجال مقدَّسين أو آلِهَة وشخصيات في المخيال الجمعي، من خلال هؤلاء الفنَّانين يعتَبر أصدق تجلّي لهذا الفَنّ الذي يختلط مع المعتقد حتى ليبدوان شيئًا واحدًا، فاللَّوْحَة لم ينجزها حرفي أو فَنَّان للكنيسة والسُّلْطَة الكهنوتيَّة، وإنَّما هي من عمل هذا الكاهن نفسه. وإنَّ “ما تعلَّمه الرسَّامين هو أن يعبِّروا بالرسم من خلال تخيُّل جوانب “دارما” ورِقة من التي نجحوا في استيعابها”.
أضِف إلى ذلك أنَّن بوسعنا ملاحظة عَلاقة التصوير الفَنيّ بالشِّعر فيما نجده في لَوْحَات الحبر الأسود بمدرسة نانغا، التي بإمكانها أن تحتوي على أشعارٍ متوافقة مع الموضوع، ناهيك عن الشُّعراء الذين لا يلقون القصائد فقط وإنّما يرسمون، وقد كان أساس المدرسة آنفة الذِّكر مجموعة من الأدباء.
إنها الرؤيَّة الشعريَّة التي نجدها في اللَّوْحَات والأعمال الفنيَّة من رُهْبَانٍ ومؤمنين أو مُثَقَّفين وكتَّاب، حيث لم يكتفوا فحسب بالتأمُّل والاتصال بالعالَم الفوقي الحقيقيّ أو الكتابة وضم المزيد من المعارف لعقولهم ونفوسهم، فهم جسَّدوا ذلك من خلال أيديهم التي كانت تخطّ وترسم وتلوِّن.
اليابان والعالَم:
لا نجد في كتاب الفنون الجميلة اليابانية تلك العصبيَّة والتَمَرْكُز على الذَّات والقوميات التي ألفناها في بعض المؤلَّفات التي تختص بأي مجالٍ، سواء انخرطت في الفَنّ أم تاريخ حضارة ما. أو المزاعم والدعاوي المليئة بالرتوش التي تُكتَب حول أصول حضارتهم وعلاقاتهم بالحضارت المجاورة، أو محاولات إثبات تأثيرها على مجالاتٍ في أماكن أخرى من غير الاعتراف بالعكس ما يعني التأثُّر.
لقد تأثَّر الفَنّ اليابانيّ في المقام الأول بالصين واستلهم من فُنُونه وشخوصه في الحُقب القديمة، وهو أمر بديهي بل حتمي نتيجة التقارُب الجغرافيّ والتاريخيّ بينهما، وهذا ما أوضحه الكاتب في أكثر من نقطة. و نجد أنَّ الهند حاضرة في هذا التأثير برسوماتها الجدارية على سبيل المثال مع بلاد فارس، ويضع الكاتب إحدى فرضياته التي يستنتج فيها بأنَّ الفَنّ اليابانيّ قد احتك بالمصريّ، وهو أمر مثير للإعجاب لكلّ من اعتاد على مُشاهدة أو دراسة الصور الجداريَّة الموجودة بالمعابد المصريَّة أو غيرها من الرسومات التي على البردي، بحيث هي كذلك بها مسحة من اللا واقعيَّة وغياب بعض الخصائص التي تمنح للعمل شبهًا بالواقع.
كما أنَّ تأثيرات جديدة دخلت إلى اليابان بسبب معرفتهم بالمجتمعات الغربيَّة وانفتاحهم على العالَم في الفترة الحديثة، الشيء الذي مهَّد للواقعيين، وهي مدرسة أو مذهب يتبنى المنظور وقواعد الرسم الأوروبيّ.
أما عند عكس هذه المعادلة فسوف نجد التأثير اليابانيّ الأكثر شهرة في الانطباعيّين الفرنسيّين، والانطباعيَّة مدرسة فنيَّة تعتمد على رسم انطباع الحواس وتركض وراء الضوء الذي هو أساس الشكل واللون.
وإلى جانب هذا التأثير الخارجيّ، نوَّد الإشارة إلى تأثير الحِسّ الجماليّ في مظاهر المجتمع كلها، فلم يَغُضّ الكتاب النظر عن الفُنُون التي تخلَّلت الحياة اليوميَّة في هذا البلد من مثل ما نشاهده من رسمٍ أو طُرُزٍ على ملابسهم التقليديَّة أو أغراضهم المنزليَّة المزيَّنة والمعمولة بأسلوبٍ فَنّيٍّ تجاريٍّ بديع.
من خلال هذا الكتاب سنعرف أنَّ الفَنَّان اليابانيّ هو فَنَّان حداثيّ طليعيّ أكثر من عصره، كما أنَّ صدره واسع وحواسه منفتحة أكثر عندما يبدأ بإنجاز فَنّه ويمنحه شكلًا، ورغم أنه مُخلِصٌ للتقاليد الفَنيَّة وتراث الأجداد، إلا أنّ هذه التقاليد نفسها استثنائيَّة متحرِّكة ومتعدِّدة لا تجمد في مكان، كما أنّها مغايرة للتقاليد التي ألفناها في أراضٍ أخرى كأوروبا.
والفَنَّان في اليابان لا يرضي فقط المُشاهِد والمقتني للَّوْحَاته، بل كذلك ذوقه وأناه الداخليَّة التي ترغب بإخراج صورة تتوافق مع مزاجه وروحه، وسوف نكتشف عنده عودة إلى عالَم البساطة البدائيّ الذي يرسم الأشياء من دون اللجوء إلى العلم الذي يمسك بخيوط الفَنّ رغم أنه حاضرٌ بشكلٍ ما. إنه فَنٌّ عفويٌّ مع بعض التلاعُب به للضرورة.
في النهاية نُشدِّد على هذا الكتاب الذي سوف يكون تجربة ممتعة ومفيدة لمتذوّقي الفَنّ، وإضافة جديدة إلى مكتبة القارئ الذي لديه الفضول للتعرُّف على التُراث البصريّ لبلد آسيويٍ ثري الثقافة، رغم قِلَّة الدراسات العربيَّة والترجمات عنها.