الفلسفة معركة ضد الخرافة وتَحرُّر من الوعي الشقي/ لـ سمير بلكفيف

علينا أن نتساءل منذ البدء كيف يمكن للفلسفة التي وُلدت إغريقية، أن تكون كونية بما فيه الكفاية؟ كيف يمكن لأسبابها السوسيوثقافية والمحلية أن تنتج من المفاهيم والآليات ما هو عالمي وكوني؟ كيف تراهن الثقافة اليوم على إعادة قراءة الفلاسفة اليونان الأوائل؟ وكيف تكون الفلسفة في ذاتها مشروعا غير مكتمل لا تزال تستلهم من الإغريق؟ وما الذي دفع بالفيلسوف الألماني المعاصر “مارتن هيدغر” إلى تأكيد أن جسر الفلسفة الحقيقي هو ما يربط بين ضفتي الفكر اليوناني والألماني؟

لقد وُلِدت الفلسفة إغريقية في الدلالة والمصطلح، ذلك أن الفضل يعود -في معرفة تاريخ ميلادها- إلى كسوف حدث ذات يوم من أيام سنة 585 (ق.م)، فبينما كان الفرس والميديون يتقاتلون في ساحة المعركة في آسيا الصغرى، فجأة حلّ الظلام ونزل الليل، وإذ رفع المتحاربون أنظارهم إلى السماء، فاكتشفوا منظرا مدهشا، لقد غابت الشمس في وضح النهار! فهل هي إشارة من الآلهة لوقف القتال؟ أوقف الجيشان الحرب وتفرقوا، والحال أن هناك شخصا قد توقّع هذا الكسوف: إنه “طاليس”، وهو عالم ومهندس ورياضي، يُروى أنه نجح في حساب ارتفاع الهرم الكبير في مصر في بضع دقائق بطريقة عبقرية، حيث قام برشق عصا في الرمل ثم قام بحساب ظلّها، فكان طول الظّل نصف طول العصا، وفي الوقت نفسه حسب ظّل الهرم، ولم يكن أمامه حينئذ سوى مضاعفة طول الظّل ليجد طول ارتفاع الهرم (جان فرانسوا دورتيي، فلسفات عصرنا، ترجمة، ابراهيم صحراوي).

وإذا كنا نفهم من هذا أن الفلسفة صناعة إغريقية بالدرجة الأولى أو هي يونانية التنظير والتجريد، فإن نتائجها قد خدمت الإنسانية والثقافة العالمية، ولا أدلّ على ذلك من المصطلحات والمفاهيم التي تحضر بقوة في عالم اليوم، وهي تحمل في تضاعيفها روحا يونانية أصيلة، شأنها في ذلك شأن مصطلح “الديمقراطية” الذي يعني فيم يعنيه “حكم الشعب”، لذلك ينبغي لنا أن نتساءل في لغة استنكارية: كيف لنا أن نرفض الفلسفة وهي تمدّنا بأجهز التقنيات والآليات لتدبير علاقة الذات بالذات، وعلاقة الذات بالآخر؟ ثم ماذا حدث في العقل العربي الإسلامي حتى صار مخياله الاجتماعي حريصا كل الحرص على درء التفلسف؟ وثد ذهب تاريخيا إلى إلصاق كل التهم (الزندقة، الكفر، الإلحاد…) بالعاملين عليها؟

يبدو أن المسألة أعقد بكثير مما يظن المرء، إنها اشتباك تاريخي بشخصيات الماضي، وبمواقف حدثت ولا زالت تنتج الحدث، وإذ يبدو أن رهان الواقع اليوم هو رهان تاريخي بالأمس، وهو ما يلزم الباحثين ضرورة الاشتغال على الماضي، والتصالح معه، وإنصاف ضحاياه المتفلسفة، لا زالت محنة إبن رشد والتوحيدي والحلاج تتكرر في كل مثقف عربي، ولا زالت آلام الخلاص تتكرر في كل شخصية جريئة (ناصر حامد أبو زيد، محمد أركون، أدونيس، …إلخ)، إن التصالح مع التاريخ وإنصاف ما يجب إنصافه، هو شرط مهم لإعادة إنتاج عصر جديد.

يمكن أن نحصر معيقات التفلسف في الثقافة العربية الإسلامية من عدة أوجه ومستويات، تعمل إجمالا على تعطيل وتأخير فعل التفلسف، وهذه المستويات تتفاعل فيما بينها باعتبار أن الثقافة عملية تفاعلية أو هي الكل المركب، لذلك فإن تفاعلها يقود إلى ظهور مستوى آخر يتشكل هو الآخر بصفته بنية لا شعورية تاريخية تستهجن التفلسف، فيغدو التفكير الفلسفي أمرا مرفوضا ومستهجنا بطريقة قبلية أولية، قبل حتى إلتقاء التلميذ بالدرس الفلسفي، وتلك المستويات يمكن أن نتطرق إليها فيما يلي:

إعلان

1- المستوى السوسيوثقافي: على مستوى الثقافة العامة فإن الفلسفة لا تحظى بالمكانة اللائقة، إنها فعل مستهجن ومادة صعبة، ناهيك عن اعتبارها تزاحم الدين في مسائل الألوهية والعقيدة، وهذا خطأ فادح، تغلغل في تاريخية الثقافة العربية الإسلامية منذ القديم، لذلك فإن المهمة تكون مضاعفة على مستوى المدارس والهيئات الجامعية التي يجب أن تقوم بعملية إعادة تهيئة الأرضية المناسبة على مستوى عقول النشء، لأنهم يأتون مزودين بأفكار خاطئة ومضللة، ويستمرون في الأخذ بها.

2- المستوى الإبستمولوجي والبيداغوجي: هو الجانب المرتبط بتعليم مادة الفلسفة، بمناهجها ودروسها، سواء في المرحلة الثانوية، ذلك أنها أول مرحلة يباشر فيها التمليذ علاقته بمادة الفلسفة، وهنا تقع المسؤولية الكبيرة والخطرة على عاتق أستاذ مادة الفلسفة، للأسف نجده لا يعطي للمادة حقها، والحق هنا لا نقصد به الحجم الساعي أو الشرح المعرفي والمنهجي الذي غالبا ما يكون حشوا وتكرارا، ولكن نقصد به الحق النفسي للمادة، أليست الفلسفة هي المادة الوحيدة التي تحمل في تضاعيف دلالتها كلمة “الحب” “فيلو”، هل قدر الحب هو اللا حب؟ إن المسألة نفسية أكثر منها تعليمية، إن سقراط جمع قلوب تلاميذه خارج أسوار أيّ مدرسة أو جامعة، ومع ذلك فهي ليست درسا في الحب وحده، بل هي حب التفكير في الفكر، حيث نكاد نطلق عليها ضرب من التفكير الذاتي، إن الفلسفة -فيما يقول لوك فيري- تقوم على مبادئ ثلاثة: التفكير، البرهنة، النقد، والفكرة المركزية التي يدور حولها تعليم هذه المادة هي عرض الفلسفة على أنها ضرب من التفكير أو طريقة في التفكير موجهة لمساعدة الشباب على الوصول إلى نوع من الاستقلالية الفكرية، وتمكينهم من الوصول إلى التفكير بأنفسهم، وهنا نتقاطع فكريا مع أهم فيلسوفين في تاريخ الفلسفة، الأول يوناني، وهو “سقراط” الذي حرصت فلسفته على إصلاح عقول الشباب وتحريرها، لذلك كانت تهمته السوسيوثقافية هي النقيض “إفساد عقول الشباب”، وأما الثاني، هو الفيلسوف الألماني “كانط”، حينما أكد أن مهمته ليست تقديم دروس في تاريخ الفلسفة، ولكن مساعدة الشباب على عملية التفلسف الذاتي، لذلك أجدني وفق هذا المنظور الكانطي التنويري أتساءل في ثقافتنا التعليمية السؤال التالي:

هل تقديم دروس في الفلسفة يعدّ فلسفة؟ ماذا لو أضفنا الوصفة التالية لتلك الدروس، وتساءلنا: هل تقديم دروس خصوصية في الفلسفة يعدّ فلسفة؟ لا أبدا، بل بالعكس هو تعميق للرؤية الشعبوية المغلوطة (ضد التفلسف)، إنَّ ذلك يجعل من الفلسفة وسيلة أو أداة للنجاح، والربح السريع شأنها في ذلك شأن محلات الأكل الخفيف والسريع، وهو الأمر الذي يدمّر فعل التفلسف في حدّ ذاته، مثما يدمّر التديّن الدين، ويُدمّر شَرَهُ السعادة الفضيلة والأخلاقية.

3– المستوى اللا شعوري التاريخي: هي تلك الصيرورة المفاهيمية المغلوطة على دور وأهمية الفلسفة في البناء الحضاري والإنساني، كيف يمكننا أن نتميّز عن الأقوام المتوحشين؟ هل بالعلم والتكنولوجيا؟ طبعا لا يمكن ذلك، يمكن لكل المجتمعات أن تمتلك التكنولوجيا وأن تشتري أسلحة الدمار الشامل، وأن تبني ناطحات السحاب بنماذج وهندسات مطابقة، وأن تشتري الكتب والمكتبات، لكن ليس بمقدوها أن تشتري الفلسفة، وإذا كان العالم قرية كونية، فذلك لأنه قرية صغيرة بفعل أضواء “طوماس إيديسون”، وبواسطة ألياف كهرو-بصرية، ولكنه عوالم مجهولة إذا ما طبّقنا معيار التفلسف، إنها عوالم لم تتحاور بعد، وعصور لم تلتق بعد، وأماكن قصية لم تُكتشف بعد، وإذا كنا نلتقي بالعالم الغربي تكنولوجيا، إلا أن المسافة الفلسفية والثقافية لا زالت متباعدة بقرون فلسفية، بحيث لا يمكن إنصافها تاريخيا وحضاريا، وكأنما الحضارة والثقافة -وفق تلك الرؤية المغلوطة- يتم بناؤها بالعلم فقط، غير أن “العلم لا يفكر” وفق ما يؤكده “هيدغر”، إن تلك الصيرورة التاريخية واللا شعورية التي تزدرئ فعل التفلسف، لها من التاريخانية ما يسمح باستمرارها واطّراداها، لأنها ببساطة لم تتعرض لقطيعة سوسيوثقافية مضادة، ولم تهتدِ بعدُ لتأسيس فلسفي أصيل من شأنه أن يجتثها من جذورها، إذ بقيت محاولات التفلسف مجرد بنيات فوقية، تصنعها الأحداث والظروف، وليس العكس، فإذا كان أهم حدث تاريخي وفكري وسياسي وحقوقي عرفته أوروبا متمثلا في الثورة الفرنسية (1789)، فإن الكثير من الدارسين أكدوا أنه “لو تأخر ميلاد “روسو” لتأخرت الثورة الفرنسية”، بتعير آخر إن حالة العطالة الحضارية التي نعيشها من بين أسبابها الرئيسية تأخر ميلاد فلسفة عربية أصيلة.

لا يمكن للفلسفة أن تعيش في بيئات دوغمائية (وثوقية، يقينية) تُنتج الحقائق والبديهات دونما أن تُكلّف نفسها عناء البحث والتفكير والقراءة، ألم نلاحظ أن العالم من حولنا يتقدم عمليا وتكنولجيا وفكريا وأدبيا وحتى أخلاقيا (إنسانيا)، لكنه لم يتجرأ على امتلاك الحقيقة.

ولا نتكلم هنا على المشاريع ما بعد الكولونيالية الجديدة، ومختلف السياسيات الحكومية الغربية التي أدخلت العالم في حرب الكل ضد الكل، وإنما نتكلم عن المجتمعات الغربية في حياتها العادية ومعاشها اليومي، إن الفلسفة لها أيضا عواملها وشروطها البيئية التي تدفع بها دفعا، ومن ثمة فإنه يبدو أن المطالبة بانوجاد فيلسوف عربي يعدّ أمرا مستحيلا اليوم في ظل هذه الظروف أو هو مستحيل الوجود وفق عبارة الراحل جورج طرابيشي.

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: رنا داود

اترك تعليقا