كيف أحدثت البراجماتية نقلة نوعية في تاريخ الفلسفة؟

كثيرًا ما نسمع عن الفلسفة البراجماتية، وكيف أنها فلسفة أمريكية خالصة، وكيف أنها تختلف كثيرًا عن الفلسفات الأوروبية السابقة لها، ولكن لا أعتقد أننا نعرف ما كان للفلسفة البراجماتية من تأثير عميق و«جذري» نوعًا ما على تاريخ الفلسفة كله، وكيف تعد هذه الفلسفة نقلة نوعية حقًا في تاريخ الفلسفة، لهذا سنحاول اكتشاف ذلك معًا في هذا المقال.

كانت الفلسفة الغربية منذ أول تاريخها القديم، من اليونان القديمة حتى رسل وفتجنشتاين وغيرهم، كانت دائمًا تدور حول مفهموم الحقيقة، وما إذا كنا نستطيع الوصول إليها، وكيف يمكننا ذلك، وما هي الحقيقة، وغيرها من الأسئلة التي كانت تتمحور حولها الفلسفة الغربية، وتعددت طرق الإجابة عن هذا السؤال، فأصبح هناك تياران رئيسيان هما المادي والمثالي، وكل من التيارين حاول الإجابة عن هذا السؤال بطريقته، فالمادي يقول إن إصل المعرفة هي الحواس، وأن لا شيء يقع خارج العالم المحسوس، في حين يقول المثالي بأن العقل هو أساس المعرفة، وأن هذا العالم المحسوس ظاهر لشيء باطن، وأن العالم مختلف عن الطريقة التي تظهره الحواس بها لنا.

فظلت الإجابة عن سؤال الحقيقة محصورة بين هذين التيارين طيلة قرون عديدة، إلى أن ظهر فلاسفة توفيقين مثل “إيمانويل كانط” في القرن الثامن عشر، الذي حاول التوفيق بين التيارين، والذي قال بضرورة العقل والحواس معًا للمعرفة، ولكنه قال بأن ما هو خارج العالم المادي هو غير معروف ولا يمكن معرفته: «لكن إذا تخيلنا أن باستطاعتنا أن نعرف الحقيقة كما هي في ذاتها فإننا عندئذ نخدع أنفسنا ونضللها. ومن هنا كان لا بد للمعرفة أن تلتزم بعالم التجربة، لأنها لا تستطيع أن تتجاوزه، ولا تستطيع أن تنفذ إلى الحقيقة الداخلية الخفية للعالم». فبهذا كانت تلك إجابة “كانط” على هذا السؤال.

اقرأ أيضًا: العقلانية والدين عند كانط
ولكن الفلسفة البراجماتية لم تكن امتدادًا لهذه المحاولات للإجابة عن هذا السؤال، وإنما غيرت السؤال نفسه، فسألت سؤالًا آخر تمامًا وهو: ما الذي يترتب على الحقيقة؟ أي بغض النظر إذا كانت هذه هي الحقيقة أو تلك، فما الذي يترتب على ذلك؟ فأصبح السؤال الآن عن «نتائج الشيء» وبذلك تحول وجه الفكر إلى العمل والمستقبل كما يقول ويل ديورانت.
فبهذا كانت الفلسفة البراجماتية نقلة نوعية حقًا في تاريخ الفلسفة، إذ إنها لم تأتِ بإجابات جديدة عن السؤال القديم نفسه، ولم تخترع طريقة جديدة للإجابة أيضًا على السؤال ذاته كما فعل “ديكارت” مثلًا أو «هوسرل»أو «الوضعية المنطقية»، وإنما سألت سؤالًا جديدًا تمامًا.

فأصبح الآن المهم بالنسبة للبراجماتيين هو ما الذي يمكن أن نستفيده من الشيء، بغض النظر إذا كنا نعرف حقيقته أم لا، مثلما يستعمل الحداد مثلًا مطرقة ما، فإنه لا يعرف بالضرورة مكوناتها أو كيفية صنعها أو ما شابه، وإنما يكفيه أنها تؤدي الغرض المطلوب منها وتنجز العمل الذي أحضرها لأجله.

إعلان

وقال «بيرس» عن المعنى “لكي نجد معنى للفكرة ينبغي أن نفحص النتائج العملية الناجمة عن هذه الفكرة. فبدون هذا فإن النزاع حول معنى الفكرة لا ينتهي ولا يؤدي إلى فائدة”. فنجد أن البراجماتية اهتمت بالنتائج العملية المترتبة على فكرة ما، ولم تعر اهتمامًا كبيرًا بصدق أو كذب تلك الفكرة، أو ما إذا كانت “حقيقية” أم لا، فلم تسأل البراجماتية سؤال الحقيقة، وإنما سألت ما الذي يترتب عليها وفي ماذا تجدي أو تنفع.

وهكذا، نصل إلى أن الفلسفة البراجماتية أحدثت نقلة “نوعية” حقًا في تاريخ الفلسفة, وفي تاريخ السؤال الفلسفي, فبرغم ما قد يوجه إلى البراجماتية من انتقادات -كغيرها من الفلسفات- إلا أنها استطاعت بالفعل أن تغير مسار التفكير الفلسفي تغييرًا غير مسبوق، ورغم أنها ابتعدت عن السؤال الأثير للفلسفة خاصةً والعقل البشري عامةً، ألا وهو ما الحقيقة؟ إلا أنها قد عوضت ذلك بلفت نظر المفكرين والفلاسفة إلى الحياة العملية للإنسان, وعدم الاكتفاء بالتحليق في سماء الميتافزيقا، والإبستمولوجيا، بعيدًا عن واقع الإنسان المعاش. وأيضًا بتجديدها السؤال الفلسفي قد ساهمت الفلسفة البراجماتية كثيرًا في تاريخ الفكر الفلسفي مساهمة لا يمكن أن نغفلها.


نرشح لك: الفلسفة الرُّواقية

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد عادل

تدقيق لغوي: اسماء إسماعيل

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا