الفلافل .. الطبق المثير للجدل في الشرق الأوسط الذي تدَّعي مختلف الشعوب ملكيته
الطبق الرئيسي في الشرق الأوسط والمثير للجدل تمامًا كحال المنطقة حيث تدَّعي مختلف الشعوب ملكيته.
يعتبر الفلافل طبقًا نموذجيًا أصيلًا خاصًا بالشرق الأوسط يُصنع من بذور الفول والحمص أو من كليهما. وهذه الكرات المقلية على حرارة عالية جزءٌ لا يتجزأ من أطباق بلاد الشام سواء تم أكلها وحدها كوجبة سريعة، أو تم تقديمها في خبز مع السلطة ومرقات الطحينية. وستلاحظ وجوده بكثرة في أكشاك الطعام والمطاعم امتدادًا من مدينة عدن لاسطنبول ومن بغداد لبنغازي. لكن إذا سألتَ عن البلد الأصل للفلافل فلن تحصل على نفس الإجابة مرتين!
هذا الطبق مثير للجدل كما هو حال منطقة الشرق الأوسط؛ يحتفي به الاسرائليون كأحد أطباقهم الوطنية و يثيرون بذلك حنق وغضب الفلسطينيين لاعتبارها سرقة لشيء يختص به العرب. وفي نفس الوقت حاول اللبنانيون الاعتراف به كطبقهم الخاص بينما ادعى اليمنيون أنهم هم من اخترعوه. إن هذه ليست مسألة فخر بفن الطهي وإنما في أغلب الأحيان تذهب النقاشات حول أصل الفلافل لتعامل المشكلة باعتبارها خصومات سياسية، خاصَة بين الفلسطينيين والإسرائليين حيث أنٌ ملكية هذا الطبق المميز الشامي تُعتبر وعلى نحو غريب برهانًا على الشرعية والهوية الوطنية؛ لأنه عندما يدعي الطرفان ملكية هذا الطبق فكأنما كل واحد منهما يطالب بالأرض على نحو ما ويرفض الآخر بحجة أنه دخيل ومحتل.
الأصول المصرية لطبق الفلافل
نادرًا ما تتوافق مثل تلك البيانات مع الحقائق، فمع كل الآراء ووجهات النظر فإنه من المرجَّّح أنه تم تطوير وصفة الفلافل في مصر رغم الإشكالية على الوقت والأشخاص الذين شرعوا فيها. بعض الناس يقولون بأن أصل الفلافل يعود للأزمنة القديمة مع أن هذا غالبًا غير صحيح، فلا يوجد هناك أية مراجع تدلل على وجود شيء يشبه الفلافل في مخطوطات الفراعنة، وعلى أي حال فإن زيت الخضار المستخدم لقلي الفلافل كان غاليًا جدًا ولم يكن ليضحى به لطهي شيء بسيط كهذا.
كما لا يبدو أن طائفة المسيحيين المصريين (الأقباط) هم من اخترعوا الفلافل كطعام خالٍ من اللحم لفترة الصوم الكبير، حتى أنه لا يوجد أدنى دليل يثبت هذا خاصةً وأن كلمة فلافل قطعًا ليست كلمة قبطية.
على الأرجح يعتبر الفلافل طبقًا حديثًا نسبيًا فقد بين بول بالطا Paul Balta وفاروق ماردام بيه Farouk Mardam Bey أنه تم ذكر الفلافل في الأدب المصري بعد الاستعمار البريطاني 1882، حيث خمّن كل من بالطا وفاروق بأن الضباط البريطانيين كانوا قد أعجِبوا واعتادوا على كروكيت الخضار المقلي في الهند لذلك طالبوا المصريين بطهي شيء مماثل باستخدام المكونات المحلية المتوافرة.
هذا بالتأكيد ليس قاطعًا لكن لا يمكن دحض احتمالية حدوثه؛ فهناك كثيرٌ من الأطباق الهندية التي تصنع بنفس الطريقة مثل (فادا وبوندا) التي من المحتمل أنها أمدّت الطهاة بالإلهام الضروري لصنع الفلافل. لربما كان من أكثر الآراء المثيرة للاهتمام هو ذاك الذي اقترحه المؤرخ شول ستامبفير Shaul Stampfer حيث كان يهود مدينتي كيرالا وكلكتا الهنديتان يصنعون كرات مقلية من البازيلاء الخضراء المقسومة وسميت تلك الكرات آنذاك ب (باريبو فادا parippu vada أو فيلوري filowri) والتي، كما لاحظ ستامبفير، كانت شبيهة إلى حد كبير بالفلافل.
إن كانت براهيننا الناقصة قابلةً للتصديق، فإن الـفلافل نشأ في مدينة الاسكندرية. ففي الماضي كما هي الآن، تعتبر الاسكندرية ميناء المدينة الأول والمأوى الذي يتركز فيه أكبر عدد من القبائل الأوروبية والبريطانية. في البداية، كان مكون الفـلافل الأساسي هو بذور الفول والتي كانت تنمو بكميات كبيرة بجوار المنطقة بحيث فرضت نفسها كأساس على النظام الغذائي المصري إبان حكم سلالة محمد علي للمنطقة. ثم ما لبثت أن ارتبطت المكونات باسم الطبق مجتمعة حتى أصبح ظاهرًا أنها مصنوعة من بذور الفول حيث اشتق اسم الفلافل من هنا.
انطلاقًا من الاسكندرية، أخذ الفلافل ينتشر في جميع أنحاء مصر محققًا بذلك شعبية واسعة حتى أنه أصبح يدعى في أقاصي الجنوب ب “الطعمية” أي “قضمة من الطعام”. وبعد أن انتشر في أنحاء مصر، بدأ هذا الطبق بالهجرة لأماكن أخرى. بعد الحرب العالمية الأولى، كان الطبق قد وصل لبنان. وفي عام 1933 افتتح مصطفى شهيون محلًا للفلافل الخاص به ببيروت وبذات الوقت انتقل صنعه إلى ساحل البحر الأحمر تجاه اليمن، ثم شمال البحر الأبيض المتوسط لتركيا وغربًا إلى ليبيا.
كل تلك البلاد التي تبنت الفلافل في أحضانها جعلت من نفسها المنطقة التي ولدت هذا الطبق واخترعته. لقد أبقت كل المدن الحاضنة للفلافل مكوناته الأساسية كما هي إلا أن كل منها أعملت تغييرًا طفيفًا على بعض المكونات الثانوية لتتناسب مع أذواق شعوبها أو لتعكس استقرار الزراعة المحلية. ففي مدينة مرسي مطروح المصري إحلال بذور الخزامى والقليل من لحم البقر محل بذور الفول، أما في بلاد الشام فإنهم يستخدمون الحمص عوضًا عن الفول.
هل الفلافل طبق اسرائيلي؟
وصل الفلافل أيضًا المجتمعات اليهودية في فلسطين حيث كانت علاقتهم مع الفلافل أكثر تعقيدًا. لقد تبنى القاطنون الأوائل halutzim والسكان الأصليين الفـلافل بسرعة دون تردد. فرغم ترعرعهم لأمد طويل مع جيرانهم المسلمين وانخراطهم في ثقافتهم إلا أنهم لم يبالوا آنذاك لكون هذا الطبق طعامًا عربيًا أم لا ، فقد عملوا على إدخاله ضمن أطباقهم فقط، فهم على أي حال يملكون أنواع لا تحصى من الطعام. كانت جاذبية الطبق طاغيةً ليس لأنه لذيذ أو مشبع بل لأنه بسيط أيضًا، فبالإمكان شراء مكوناته بسهولة أو زراعتها وإنمائها دون أدنى صعوبة، كما أن هذه الكرات البسيطة مريحة عند الأكل لكنها لا تهرس بسهولة، وكأي طبق رائع، يمكن تقديم الفلافل باردًا أو ساخنًا.
إن اليهود القادمين لفلسطين من غرب أوروبا خاصة فترة موجة علياء الخامسة (1929-93) كانوا أكثر عدائية وكانوا شكاكين بكل ما يعتبر عربيًا وتعلقوا بإصرار بأطبقاهم مع إنكار الفلافل كطبق عربي وادعوا بأنه طبق أجنبي غير واضح الأصول.
وصفات من كتاب طبخ المؤرخ: الفلافل أيام الحرب
ما زال الفلافل بعيدًا عن كونه طبقًا يهوديًا وطنيًا حتى إعلان اسرائيل دولة مستقلة عام 1948 وقد تم ذكره بشكل متكرر ضمن الوصفات الجديرة بالمديح لميزاتها الصحية والغذائية في الصحف اليومية اليهودية مثل جريدة هارتز Haaretz لكن شهرته وشعبيته كانت ناقصةً. ثم شهدت شعبية الفلافل نقطة تحول كبيرة في إسرائيل بعد حدوث تطوريَن اثنين عليه.
التطور الأول كان من خلال إعلان بدء حالة التقنين حين أصبحت الحكومة غير قادرة على التكيف مع الأعداد الهائلة المتدفقة من المهاجرين نتيجة لنقص المال والغذاء، فبالتالي قامت بفرض برنامج صارم في ظل ظروف التقشف التي كانت تقاسيها البلاد (Tzena’) عام 1949. تم تقنين الأغذية الهامة وتوزيعها مثل السكر والسمن وتم الحد من استخدام اللحوم. كل هذا أدى لزيادة شعبية الفلافل فقد كان مصدرًا للبروتين وكانت مكوناته كلها في المتناول حتى عند أفقر العائلات. ورغم أن البعض استمر بمعاملة الفلافل كمستورد أجنبي إلا أن عدد كبير من كتب فن الطهي بدأت بوضع وصفات مميزة له.
أما التطور الثاني فقد حدث حين ولجت أعداد ضخمة من اليهود الآتين من اليمن وتركيا وشمال افريقيا, ففي عام 1949 بلغ عدد الواصلين لإسرائلين 100,690 ألف شخص من تلك المناطق بما نسبته 41% من المجموع الكلي للمهاجرين في ذلك العام وأعلى من نسبة العام الذي قبله حيث كانت 12% بعدد 12,517 مهاجر، وبما أنهم جربوا الفلافل في تلك البلدان فقد صنعوه في إسرائيل دون الشعور بالغرابة حياله.
كان لهذا التحول أثرًا فوريًا ليس لأنه نجح بإقناع المتدينين الشكاكين منهم بأنه طعام مناسب لليهود ولكن لأنه ساهم أيضًا بإلغاء ارتباط الفلافل بالشعوب العربية وحدهم، حيث شجعت الحكومة الاسرائيلية هذا الأمر بكل سرور. وبعد انتهاء الحرب العربية الاسرائيلية (1948-49) تم بذل جهود حثيثة لإنماء وتعزيز الهوية الوطنية الاسرائيلية وتمييز ثقافتها وأطباقها وفصلها عن البلدان المجاورة. فحينما كان اليمنيون يفتتحون العديد من محال الفلافل هناك فقد عملت الحكومة الإسرائيلية على ترويج فكرة أن وصفة الفلافل لم تكن متسمدة من مصر لوحدها بل أيضًا من اليمن. إنها لكذبة واهنة، لكنها بالنهاية وفت بالغرض المطلوب!
إسرائيل وما بعدها
اكتسب الفلافل شهرة واسعة فقبل مدة طويلة أصبح معروفًا ومرتبطًا بقوة بدولة اسرائيل المزعومة حتى أنه كتبت فيه بعض الأغاني التي يعد أشهرها أغنية “ونحن لدينا فلافل” Dan Almagor’s Ve-Lanu Yesh Falafel والتي تم اطلاقها عام 1958 على لسان المغني الشهير Nissim Garame. وتدّعي هذه الأغنية بصراحة ووضوح أنّ الفلافل خاص بإسرائيل حيث تستهل ب: ” كل دول العالم لها طبق وطني يعرفه الجميع”
كل الأطفال يعروفون أن المعكرونة إيطالية
وأن النمساويين في فيينا لديهم الشنيتزل اللذيذ
والفرنسيون يأكلون الضفادع
أما نحن فلدينا فلافل فلافل فلافل
هدية لأبي
وحتى أمي تشتريه هنا
وسنشتري للجدة العجوز نصف وجبة فلافل
واليوم حتى الحماوات سيحصلن على فلافل فلافل
والكثير الكثير من الحار معه
وقبل انتهاء عام 1961 اكتملت عملية التأميم وتم التعميم أن الفلافل هو أفضل الأطباق الاسرائيلية إطلاقًا فأصبح يقدم بفخر برحلات الطيران الطويلة الخاصة بشركة إل عال الاسرائيلية الوطنية للطيران. أما طباخو المطبخ الراقي فكانوا يقومون بتجهيز أطباق مميزة للدخول بمسابقات الطهو العالمية لتخييب وإحباط الفلسطينيين.
وفي تلك الفترة بدأ الفلافل بالانتشار على نطاق أوسع حين تدفقت أعداد كبيرة من المهاجرين العرب والأتراك ونقلوا شهرته لأوروبا، فقد قام الأتراك بمد جذورهم في ألمانيا مما جعل الـفلافل يتمتع بشهرة واسعة. في البداية، كان المهاجرين وحدهم من يتناولون هذا الطبق ولكن في بداية السبعينيات أصبحت المطاعم التركية متاحة لعدد كبير من الألمان مما شكل تغييرًا كليًا جديدًا على وصفة الفلافل هناك.
ومن المثير للعجب أنه وصلت الفلافل الولايات المتحدة رغم أن تطوره كان بطيئًا نوعًا ما. لقد بقي الفـلافل خلال فترة الستينات والسبعينيات خاص بالمجتمعات المهاجرة، ولكن في آخر عقدين من القرن العشرين أصبحت فئات أكثر تفضله؛ فالعديد من محبيه اعتبروه شيئًا غريبًا وخارجًا عن المألوف. ومع مرور الوقت واختلاط الثقافات واضمحلال الانقسام الاجتماعي تم التخلص من هذه الارتباطات وأصبح الفلافل العماد الرئيسي للطبق الأمريكي حتى ليصعب تخيل الأوقات التي لم يكن فيها موجودًا.
مدهش حقًا! فبالرغم أنّ الفلافل سيبقى قضية جدلية في الشرق الأوسط إلا أن مصيره في أوساط أخرى من العالم يبين بأنه يستطيع التغلب على الخلافات، ورغم كل النقاشات حول أصل الـفلافل ولمن ينتمي فإن الشيء المهم هنا أن الجميع يستطيع تقاسمه والاستمتاع به؛ فلطالما وضعنا هذه الفكرة في أذهاننا ربما يكون الفلافل سببًا في توحيدنا بدلًا من تفريقنا.