الفصل العنصري في الأماكن العامة(مترجم)
◾ في يناير من عام 2015، تحدث «مانويل فالس- Manuel Valls» ، رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك، عن وجود فصل عنصري إقليمي، اجتماعي، وعرقي، موضحًا أن هناك شريحةً من السكان تعيش حالةَ من الإبعاد نحو أطراف المدن، “الجيتو”. وأضاف “فالس” أن التنقل بين مراكز المدن الكبرى، مثل باريس أو ليون، يكشف مدى تمزق فرنسا الحضرية. أن تحيا في فرنسا يعني أن تواجه في كل يوم الفجوة القائمة مابين واقع الإقصاء والتمييز وبين مبادئ المساواة العالمية التي تجهر بها الأحزاب السياسية. لقد أُدرجَ “إعلان حقوق الإنسان والمواطن” لعام 1789 والذي ينص على أن:”يولد البشر ويظلون أحراراً ومتساوين في الحقوق”، ضمن الدستور الفرنسي؛ ومن ثم، من الناحية النظرية، فإن جميع القوانين تخضع لمبدأ المساواة هذا.
وقد قامت الجمهورية الفرنسية على أساس حركتين تاريخيتين أساسيتين: الثورة الفرنسية والتي نبع منها “وهم المساواة”، والاستعمار الذي، وياللمفارقة، إتخذ من مفهوم “عالمية الثورة” ذريعة لتبريره. وهكذا كانت فرنسا، ولاتزال، جمهورية إستعمارية تحمل بين جوانبها ذلك التناقض المتمثل في التمييز بين فرنسا الأوروبية «Metropolitan France» والأراضي المستعمرة. في فرنسا الأوروبية كفل القانون، من حيث المبدأ، المساواة الجمهورية. بينما كان عدم المساواة هو الواقع السائد في المستعمرات الفرنسية، و لاسيما وفقًا لقانون “السكان الأصليين” والذي يميز بين المواطنين الفرنسيين والرعايا في تلك المستعمرات، و غالبيتهم من المسلمين. وبرغم إلغاء ذلك القانون، إلا أن عدم المساواة ظل قائما يتبدى بشكل واضح من خلال معاملة الأقليات في فرنسا.
بعد إنهاء الإستعمار وإنتقال القوى العاملة من المستعمرات السابقة إلى فرنسا، وجدت البلاد نفسها أمام مفارقة تتمثل في كيفية الحفاظ على “وهم المساواة” على أرض فرنسا الأوروبية في معاملة أشخاص بات بإمكانهم الآن المطالبة بالجنسية الفرنسية. هنا قامت الدولة بإعادة إنتاج نوع آخر من الإستعمار في محيطها الداخلي، يتمثل في التمييز بين مركز الحضر و أطرافه. وهكذا، يتجمع المهاجرون المتعاقبون ليحيوا على أطراف المدن في مجمعات سكنية كبيرة.
ونظراً لتعذر “شرعنة” عدم المساواة بشكل قانوني، فإنها يتم تطبيقها على المستوى العملي تحت مظلة القوانين العامة السائدة في الدولة. إذ تتجلى أوجه عدم المساواة في التنظيم والمراقبة الشُرَطية للفضاء العام الفرنسي، حيث يتم إقصاء الأشخاص القادمين من أطراف المراكز الحضرية عن تلك المراكز. يقول أحد الشباب الذين نشأوا في ضواحي باريس لأبوين جزائريين: “أعلم أنني سأخضع للتفتيش بمجرد الذهاب إلى هناك”. ويؤكد هذا الشاب أن قدمه لم تطأ قط أي من متاحف باريس. والحق أن تلك الشهادة ليست بالمفاجئة على الإطلاق، خاصة إذا أخذنا بعين الإعتبار حقيقة أن الشباب الذين يتم تصنيفهم على أنهم من السود أو من العرب عادةً مايكونوا أكثر عرضة لفحص الهوية عشرين مرة عن غيرهم.
“أن تحيا في فرنسا يعني أن تواجه -بشكل يومي- الفجوة بين واقع الإقصاء والتمييز، ومبادئ المساواة العالمية التي ترددها الأحزاب السياسية”
ويمكن للسلطات المحلية كذلك كسر مبدأ المساواة من خلال إستخدام مايسمى “حق الشفعة الحضري” والذي يمنحها الأولوية في شراء الممتلكات. وهناك العديد من الحالات التي تم فيها الحيلولة دون توطين العائلات التي ينظر إليها على أنها “أجنبية” في عديد من القرى بإستخدام ذلك الحق. وهو ذات العائق الذي اصطدمت به عدد من المنظمات الإسلامية حين أعربت عن رغبتها في شراء مبنى لتحويله إلى دار للعبادة.
إن إستبعاد قسم من المجتمع الفرنسي من المجال العام المادي والرمزي قد بات مكرساً في القانون الفرنسي؛ ففي عام 2004 تم تمرير قانون يقضي بحظر إرتداء الطلاب أي رموز أو ملابس تظهر إنتمائهم الديني في المدارس. ثم في عام 2010 تم إصدار قانون يحظر إخفاء الوجه في الأماكن العامة. في هذا القانون، تضافرت كل من النسوية والجمهورية والعلمانية والعنصرية بقدر ماتتعارض. وبعد مناقشات إعلامية وسياسية لاتنتهي حول مسألة دخول النساء المحجبات إلى الشواطئ وحمامات السباحة وأماكن العمل، اقترحت «مارين لوبان- Marine Le Pen» حظر إرتداء الحجاب في الأماكن العامة، وذلك خلال حملتها الإنتخابية في ذلك العام. و بالطبع فإن هذا القانون لا يستهدف المسلمين بشكل علني -فهذا ليس دستورياً- ومع ذلك فقد اتضح من المناقشات البرلمانية والإعلامية للقانون أن هذه الفئة تحديداً كانت هي المستهدفة بالفعل.
عقب إغتيال «صامويل باتي- Samuel Paty»* في أكتوبر 2020، تم تقديم مايسمى ب “قانون مكافحة الإنفصالية” -مشروع قانون لتعزيز المبادئ الجمهورية- والذي يهدف إلى مكافحة تطرف المجتمعات الدينية، وبصورة أكثر تحديداً مجتمعات الإسلام الأصولي. والآن، بعد عامين من حالة الطوارئ، يسهم ذلك القانون في زيادة سلطات الحكومة. حيث بموجبه تمكنت السلطات من حظر الإجتماعات العامة وإغلاق العديد من الأماكن العامة بصفة مؤقتة، وتوقيف الأفراد ومصادرة بعض العناصر الخاصة، والسماح بإجراء التفتيشات، وفرض الإقامة الجبرية، وتنظيم إقامة المظاهرات.
وهكذا، تأثرت خمسة قوانين كبرى للحريات -حرية الصحافة، التعليم الإلزامي الإبتدائي، حرية تكوين والإنضمام للجمعيات، الفصل بين الكنيسة والدولة، وحرية ممارسة العبادات- بهذا القانون، أو على الأقل تعرضت للتعديل بسببه؛ وبناءً عليه، بات محظورا على موظفي بعض الشركات المرتبطة بعقود مع الدولة إبداء آراءهم، و لاسيما آرائهم الدينية.
أخيراً، لقد تم تمرير هذه القوانين على الرغم مما تحمله من خطورة كسرها للعقد الإجتماعي الفرنسي وتحطيمها لوهم “عالمية المباديء الجمهورية” الضروري. وهنا تتجلى المفارقة الكبرى المتمثلة في أن هذا التمزيق لمبدأ المساواة قد تم تحديداً بإسم “الدفاع عن عالمية المباديء الجمهورية والعلمانية”، وجاءت تلك القوانين حاملةً في طياتها تبعات قاتلة للحريات سيمتد تأثيرها على كافة المواطنين.
* صامويل باتي Samuel Paty: معلم التاريخ والجغرافيا والتربية المدنية، والذي قتل على خلفية عرضه بعض من الصور الكاريكتورية التي كانت صحيفة "شارلي إبدو" الفرنسية قد نشرتها عن النبي محمد. وكان باتي قد عرض تلك الصور في سياق درس عن الحريات كان يقوم بتدريسه ضمن مادة التربية المدنية والأخلاقية، فقام لاجئ شيشاني بقتله وقطع عنقه في ال16 من أكتوبر 2020.