الـ K-POP: السلاح الكوري الفتّاك لغزو العالم
في الوقت الذي طوّرت فيه كوريا الشمالية من قدراتها التسليحية لاسيّما النووية، كانت كوريا الجنوبية قد غزت العالم بالفعل بسلاحٍ فتّاك لم يستطِع أحدٌ إيقافه، وربما لم يرغب أحد في ذلك، بل على العكس فقد دعمه العالم بأسره، وكان ذلك السلاح هو “الكيبوب”. والكيبوب هو مصطلح يُطلق على فرق موسيقية كورية جنوبية، وصلت بموسيقاها إلى عنان السماء وغزت قلوب ملايين المتابعين والعشاق في العالم.
1- ميلاد الكيبوب
في إحدى ليالي عام 1992 ظهر ثلاثة رجال كفرقة (boy band) في بث تليفزيوني حي للمواهب، قدّموا شيئًا جديدًا؛ كلمات كورية، لكن بموسيقى البوب الأوروبي، الهيب هوب الأمريكي، والراب، كانوا يرقصون في تناغم، نالوا استحسان جمهور الاستديو في حين لم يعجبوا المحكمين الذين منحوهم أقل نسبة تصويت في تلك اللية، وبعد أيام قليلة صعدت أغنيتهم إلى القمة وتربعت هناك لمدة 17 أسبوعًا، في تلك الليلة حطّمت سيو تاي جي والأولاد (Seo Taeji and Boys) القوالب الجامدة، ووُلد الكيبوب.
2-طريق الـكيبوب إلى القمة
ظهرت فرق أخرى بعد (Seo Taeji and Boys) مثل: HOT و Diva و Shinhwa، ومن هنا بدأ الكيبوب في الانتشار خارج كوريا فاكتسح بلاد آسيا (اليابان والصين وتايوان والهند وتايلاند)، ومن عام 2008 بدأ تمدد نفوذه لخارج آسيا، وساعدهم على ذلك استخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي العالمية مثل فيس بوك وتويتر ويوتيوب وغيرها، بعكس باقي الفرق الصينية واليابانية التي اكتفت بوسائل التواصل المحلية فقط، وبحلول عام 2010 بدأ كل من أوروبا والشرق الأوسط وأوقيانوسيا (أستراليا ونيوزيلندا) في الوقوع في براثن الكيبوب.
لم تقف ظاهرة الكيبوب عند كونها مجرد فرق غنائية، بل أصبحت صناعة قوية ومكثفة تنتج موسيقى عالية الجودة ومقاطع فيديو مذهلة بصريًا، وأصبحت هي الصناعة الأهم في كوريا الجنوبية، وقامت على أكتافها صناعات أخرى كثيرة مثل مستحضرات التجميل وعمليات التجميل والسياحة وغيرها، كما أصبح العديد من عشاق الكيبوب حول العالم مهتمين باللغة الكورية، ما أحدث ارتفاعًا كبيرًا في عدد الطلاب الأجانب في كوريا الجنوبية.
3- حياة بائسة لوجوه باسمة
ولكن كيف تعمل هذه الصناعة؟ أولئك النجوم المشرقون الباسمون اللامعون الذين نراهم ونعجب بهم بشدة، كيف يصلون إلينا في نهاية المطاف؟ أولئك الشباب الذي نقل كوريا للعالم، كيف تتم صناعته؟
إن الأمر ليس سهلًا أبدًا، وحياتهم ليست بإشراق ابتسامتهم على الإطلاق؛ فهم يخضعون لظروفٍ صعبة لفتراتٍ طويلة، فتقوم شركات الترفيه الكورية الجنوبية بتجنيد أعضائها وهم في سنٍ صغير قد يصل لـ10 أو 14 سنة، ثم تُلحقهم بمدارس متخصصة في الغناء والرقص ودروس اللغة، يخضعون لسنواتٍ من التدريب الصارم قبل تصنيفهم في مجموعات وترسيمهم ليكونوا قادرين على الظهور لأول مرة، وطوال هذه السنوات قد يبقوا في منازلهم مع الالتزم بنظام الوكالة، أو يُلحقوا بمساكن الطلبة.
إنهم يستيقظون في الخامسة صباحًا ليتدربوا، ثم يأخذوا فصول تصميم رقصات أو دروس صوتية، ويكون لكل شخصٍ منهم جدولٌ زمني طبقًا لدوره في المجموعة، ثم يذهبون إلى المدرسة حتى حوالي الساعة 3 مساءً، ويعودون إلى وكالتهم الترفيهية حيث يقومون بإجراء المزيد من الدروس حتى الساعة 11 مساءً، وينامون لمدة خمس ساعات، ويفعلون ذلك مرةً أخرى، وفي بعض الأحيان قد تقل ساعات نومهم إلى ساعتين فقط، فبمجرد ترسيم أحدهم وحصوله على الأداء العلني الأول فإن ساعات نومه وراحته تنخفض.
مهما بلغ نجاح شخصٍ في مجال الكيبوب لا يمكنه التوقف لالتقاط الأنفاس، عليه الاستمرار في الركض، لأن هناك حالة تنافسية شرسة خلقتها الوكالات الفنية المسيطرة على المجال، ففي حالة توقف أحدهم فإن هناك الآلاف من الشباب الصغار الذين وقفوا متحفزين ليأخذوا مكانه.
ليس هذا وفقط، فإن أولئك الأولاد يرتبطون مع وكالاتهم بما عُرف بـ(عقود الرق)، والتي تتراوح مدتها من 10 إلى 13 سنة، كل هذه الضغوط حدَت ببعضهم إلى الانتحار، وكان أشهر حادث انتحار هو انتحار كيم جونغ هيون Jonghyun المغني الرئيسي لفرقة شايني Shinee عام 2017م، والذي خلّف صدمة كبيرة في أوساط الكيبوب، وقد جاء في رسالة رحيله “أنا محطم من الداخل، الاكتئاب يقضمني ببطء، التهمني تمامًا، ولم أستطع أن أتغلب عليه… كوني شخصٌ مشهور، قد يكون ذلك ليس بإرادتي، يقولون لي هذا هو السبب في أنني أجد صعوبة، لماذا اخترت ذلك؟ هذا أمرٌ مضحك”.
4- الكيبوب والتمدد الكوري الجنوبي
اهتمت الحكومة في كوريا الجنوبية بهذه الصناعة -على مدار ما يزيد عن عقدين من الزمن- ووفّرت لها الكثير من الدعم، فمنحتها إعفاءات ضريبية، وقدمت الأموال للأكاديميين لتعزيز شعبية هذا النوع، وعملت سفارتها في الخارج على الترويج لفرق الكيبوب.
اليوم BTS- BLACKPINK- MONSTA X- EXO وغيرهم من فرق الكيبوب قد غزوا العالم شرقًا وغربًا، وساعدوا على بناء قاعدة كبيرة من المعجبين بكوريا الجنوبية وثقافتها يفوق عدد سكان كوريا اليوم.
اليوم تجني كوريا ثمار ما استثمرته في العقدين الماضيين في نشر ثقافتها حول العالم؛ فارتفع عدد مشجعي الهاليو (الموجة الثقافية الكورية الجنوبية، والتي تعتمد على الكيبوب والدراما والسينما والطعام والتايكندو) إلى ما يقرب من 90 مليون شخص حول العالم في عام 2018، بزيادة 22% عن عام 2017، ومن المتوقع أن يصل هذا الرقم إلى 100مليون بحلول عام 2020م، وقد لعبت فرقة BTS دورًا كبيرًا في ذلك؛ فوصل عدد متابعيها على تويتر إلى 18 مليون متابع.
ووصل اثنان من ألبوماتهم إلى المرتبة الأولى في البيلبورد 200 (Billboard200)، وجاؤوا في المركز الثاني بين جميع الفنانين في مبيعات الألبومات في الولايات المتحدة، واقتنصوا جائزة Top Social Artist في حفل توزيع جوائز البيلبورد الموسيقية Billboard في لاس فيغاس، متغلبين على كلٍ من جاستين بيبر وسيلينا جوميز، وأريانا غراندي، وشان مينديز.
اليوم تنتشر أندية الهاليو (محبي الثقافة الكورية) في أكثر من 113 دولة حول العالم، فيوجد في أمريكا الشمالية والجنوبية ما يقرب من 712 نادي هاليو، وفي آسيا 457 نادٍ، وفي أوروبا 534 نادٍ، أما أفريقيا والشرق الأوسط فيها 140 نادٍ.
الملايين من الناس على اختلاف الجنس واللون والعرق والديانة اجتمعوا في هذه الأندية على الحب، على حب الثقافة الكورية الجنوبية، وعلى رأسها أولئك الشباب الصغير الباسم والمفعم بالحيوية الذي يرونه في عالم الكيبوب.
في عالمٍ امتلأ بالدمار والكراهية نتيجة صراعات دول العالم للسيطرة، شقّت كوريا الجنوبية لنفسها مسارًا آخر مكّنها من النجاح في السيطرة على العالم شرقًا وغربًا، ذلك الأمر الذي فشلت القوى العسكرية لأقوى دول العالم من تحقيقه، فاستطاعت أن تسيطر على القلوب وتستميلها تجاه بلادها وثقافتها، وكان ذلك باستخدام سلاحها الذي عملت على تطويره لما يربو على السبعة وعشرين عامًا: الكيبوب.
المصادر: https://blog.inspiremekorea.com/k-music/k-pop-impact-world/ https://www.queensjournal.ca/story/2019-01-14/pop-culture/the-global-influence-of-k-pop/ http://www.bbc.com/culture/story/20190529-how-did-k-pop-conquer-the-world https://www.forbes.com/sites/caitlinkelley/2019/01/11/bts-lead-growth-of-hallyu-90-million-fans-2018/#64c5d61570bc