غفلة الخراف وسكّين الزمن

الحضارة بين الاستهلاك والإنتاج

الغرب

تُبهِرنا أضواء الشاشات، التي ملأت حيواتنا، وتعمي أعيُننا عن أضواء النجوم البعيدة؛ فتحرمنا روعة الدهشة الطفولية التي كنّا نلقى بها السماوات، وتحرمنا التساؤلات العديدة التي تقدح أولى شرارات الفكر والتأمل.

تُستَنزَفُ أوقاتنا وعقولنا في شبكات التواصل الاجتماعي، وفي الألعاب الإلكترونية التي أُغرِقنا بها، ثم ينظر المرء ذات يومٍ، فإذا هو قد جاوز الخمسين أو الستين، وإذا هو مغفّلٌ كبير، قد سرقه سكّين الزمن. وإذا هو قدم عقله وعمره قربانًا على مذبح التقنيات الحديثة.. وهل الإنسانُ شيئًا سوى عقلًا وعمرًا؟ فإذا انسربا من بين يديه، فما عسى جنت يداه ولو حَوَتْ كنوز الدنيا؟!

لقد أغرقَنا الغرب والشرق بتقنياتُهم الحديثة، نتلقفها عنهم خالصة جاهزة دون جهد أو عناء، فأشغلنا الاستهلاك عن الإنتاج. بينما هم قد أشغلهم الإنتاج عن الاستهلاك.

وما أكثر ما يظن الحمقى أنهم قد حازوا الحضارة لمجرد أنهم حازوا منتجاتها، بينما -وفي حقيقة الأمر- ما أشد ما تباعد هذه المنتجات بيننا وبين الحضارة أو حتى فرصة النهوض بحضارة؛ ذلك أن الحضارة، وقبل كل شيء، هي الإنجاز والإنتاج، وهي البراعةُ في الإنجاز والإنتاج. وهي الجهد العلمي الكامن وراء البراعة في الإنجاز والإنتاج.

فلقد أصاب نزار قباني حين قال: “ملخص القضية توجز في عبارة، لقد لبَسنا قشرة الحضارة، والروح جاهلية”. وقد أصاب قباني أيضًا حين قال: “لقد مر عشرون عامًا علينا، ونحن واقفون كأعمدة الكهرباء، نحدق مثل البهاليل صوب السماء، تمر القطارات من قربنا.. تمر الحضارات من فوقنا.. تمر الزلازل من تحتنا.. فلا نتأمل شيئًا ولا نتعلم شيئًا ولا نتذكر شيئا.. ولا نتحمس حين مجيء الربيع، ولا نتأثر حين رحيل الشتاء… فلا الله يرضى المكوث لدينا، ولا الأنبياء!”.

إعلان

بل أكثر من ذلك وأبعد إيغالًا في الصدمة، وأكثر تجسيدًا لحجم ما تعانيه ثقافتنا من مأساة، وأبلغ تصويرًا لاستمراء الكسل، بل الاستعلاء بالكسل، وتبرير الخمول الذي أثقل ثقافتنا. نقول أكثر من كل ذلك أنّا نرى بعضا من أبرز مشايخنا ودعاة الإسلام ووعاظه في العصر الحديث، نراهم يزدرون ما وصل إليه الغرب من تقدم علمي وتقني وصعود إلى القمر وخلافه، زاعمين بذلك أن الغرب لا يجني من وراء ذلك التقدم إلا ما يجنيه الريح من البلاط. وآخرون من أولئك الوعاظ يرون أن الله قد سخر لنا الغرب والشرق تسخيرًا كما سخر لنا الأنعام! يكدون ويجدون في العلم والعمل لا يغمض لهم جفن ولا يهدأ لهم بال، ولا يتوقفون عن إحراز تقدم إلا ليستعدوا لتقدم جديد.

ونحن ها هنا هانئي الحال ناعمي البال لا نخالف عن أمر الكرى إذا ما دعانا، وما علينا بعد ذلك سوى أن نمد أيدينا نأخذ ما حملته إلينا حمير الغرب والشرق من أسفار “التقانة” ما كنّا بالغيها إلا بشق الأنفس.

فلله الحمد في الأولى والآخرة أنه قد سخر لنا هذا الغرب وذاك الشرق تسخيرًا يعفينا مشقة العلم والعمل! وهل من المعقول أن يخرج علينا بعض أولئك الوعاظ من يدعونا لتبني مذهب في الاقتصاد مُفاده أن نخرج إلى حروب “السبي”، نسبي فيها ونأسر نساء ورجال الدول الأخرى ونطلب إلى حكوماتهم في مقابل رد سباياهم وأسراهم فدية يفتدون بها ذويهم؟

قد يحسب البعض أن مثل هذه المذاهب والأقاويل مما لا يستحق أن يُلتَفت له ما دام يتوافر على هذا الحظ من سخافة الرأي والبعد عن القصد، ولكن ما رأيك في أن هذه الأباطيل من الأقاويل ليست مجرد آراء شاذة لا تعدو أن تكون سُخفًا غير قابل للأخذ به؟ كما أنها خطورتها لا تنبع فقط من كونها صادرة عن بعض رجال الدين.. ذلك الدين الذي يعد أحد أهم، إن لم يكن أهم محركات الثقافة العربية الإسلامية على الإطلاق. وإنما خطورتها تنبع من كونها ليست مجرد كلام قابل لأن يؤخذ به أو لا يؤخذ، بل هي تعبير وخلاصة مكثفة عن تركيبة عقلية هي تلك التي يتمتع بها الغالبية الغالبة من أفراد ثقافتنا.

فَسَلْ أي فرد عن رأيه في مثل هذه الآراء الشاذة سالفة الذكر، فإنه غالبا ما سيجيبك على الفور: ما أحمق هذه الآراء! ولكنك لست بحاجة إلى كثير عناء حتى تكتشف أنه ليس سوى تجسيدًا واضحًا مفجعًا لهذه الآراء والأفكار والمذاهب. أوليس بالكاد يسمع منك ويجيبك بزفرة الملل تلك التي يعقبها بالإمساك بحاسوبه النقال حتى يشرع في الحملقة البلهاء فيما تفيض به وسائل التواصل الاجتماعي من نكات ومجاملات وكل ما هو جديد وجدير بأن يأخذنا في دوامات لا نخرج منها إلا لحظة الإفاقة على الحقيقة المروعة التي لا يفيد حينها الانتباه لها: أن أعمارنا وعقولنا قد ذهبت سدى!

يا سادة: إن الإنسان لا يخرج إلى الحضارة إلا إذا ألحّت عليه الحاجة، وهددت بقاءه الظروف، فإذا ما كانت الحاجات يسيرة المنال، استولى التواكل والخمول على الإنسان.

فلقد كان الإنسان البدائي يعيش على ما تجود به الطبيعة من ثمار وصيد، فلما امتنعت عليه هذه الطبيعة، وشحت بما كانت به تجود، وضنّت بما كانت به تفيض، خرج الإنسان من رحم الطبيعة إلى رحاب الحضارة والثقافة. كذلك، فليس مأمول لدينا أن ننهض إلى الحضارة، اللهم إلا بالتفاتنا إلى خطورة ما يحاك لنا من خطورة الخدمات والتقنيات الجاهزة، نحسبها النعمة وهي عين النقمة، ظاهرها الرحمة وباطنها الخراب.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: كريم علي السيد

تدقيق لغوي: رنين السعدي.

تدقيق علمي: نهال أسامة

اترك تعليقا