العلية من وجهة نظر ديفيد هيوم

ديفيد هيوم هو فيلسوف اسكتلندي يعتبر من مؤسسي المذهب التجريبي، ولما كان استدلاله قائمًا على التجربة والحواس أو تلك الأشياء المترتبة مباشرة على إدراكات الحواس فإنه لا يخرج عن هذا الإطار. وبناء عليه فإنه يصرح برفض قانون العلية والمعلولية.

يقول د.محمد الخاني: العلية مفهوم محوري في كل أعمال هيوم، وربما خضعت للبحث والدراسة أكثر من أي موضوع آخر عالجه هذا الفيلسوف الاسكتلندي، يعتقد هيوم أن كل محتوى الذهن يتأتى عن طريق التجربة. يسمي هيوم محتويات الذهن إدراكات، ويقسم الإدراكات إلى انطباعات وتصورات.

الانطباعات هى معطيات التجربة المباشرة دون واسطة، والتصورات هي الأشكال الباهتة للانطباعات. يعتقد هيوم أن كل معرفة الإنسان لها جذور في الانطباعات. كل تصور مسبوق بانطباع، أي أننا نكتسب دائمًا انطباعًا، ثم تبقى صورة عنه في أذهاننا تسمى التصور أو أننا نصنع من تصوراتنا البسيطة أو المركبة تصورات جديدة هي على كل حال مسبوقة بالانطباع. وليست كل التصورات المصنوعة من قبلنا مسبوقة بانطباع مطابق لها، ومثال ذلك تصور الحصان المجنح، لكنها على كل حال مصنوعة من تصورات أخرى، كل واحد منها مسبوق بانطباع.

انطباعتنا على نحوين: بعضها حصيلة الارتباط المباشر لحواسنا بالأمور الواقعية (الواقعيات أو الوقائع)، وهي انطباعات الحس أو الانطباعات الحسية، وبعضها الآخر نابع من تصور ما. فمثلًا إذا كان تصورنا للبرد يفرز فينا انطباعًا جديدًا مثل الاشمئزاز أو الانزعاج، يسمي هيوم هذا الانطباع الجديد انطباعًا انعاكسيًا أو تأمليًا، ويعتبر حصيلة التأمل في تصور البرد أو انعكاسًا لتأمل البرد. يختلف الانطباع الانعكاسي عن الانطباع الحسي في أن تصورًا كان واسطة لتحققه وظهوره، بينما يحصل الانطباع الحسي دون أي واسطة من تصور.

حيث إن ديفيد هيوم يحيل كل معارفنا إلى التجربة والانطباع فهو يعد تصورات من قبيل الجوهر مفتقرة للمعنى لأن مثل هذه التصورات غير مسبوقة بأيّ انطباع لذلك يعتقد أنه ينبغي الشطب على مثل هذه التصورات ورفضها واعتبارها خالية من المعنى.

إعلان

يذهب هيوم بمقتضى هذه النزعة التجريبية الشاملة إلى أنه ينبغي البحث عن انطباع لتصور العلية، وإلا كان تصور العلية كتصور الجوهر تصورًا وهميًا. من هنا نراه أولًا يبحث عن انطباع في سوابق التصورات المتعلقة بالعلل الخاصة، ولكنه لا يجد شيئًا مشتركًا بين كل الأشياء التي نسميها عللًا ليعتبره تصورًا للعلية، لذلك يستنتج أن تصور العلية ينبغي أن يكون ناتجًا عن علاقة بين الأشياء وقد أخذ بنظر الاعتبار عدة علاقات يسردها أثناء تعريفاته للعلية.

في أحد تعريفاته للعلية يشير إلى علاقة التوالي التي يعتقد أنها شيء ممكن المشاهدة والتجريب، ويتسنى إرجاعه إلى انطباع معين. والتعريف المشار إليه على النحو التالي: العلة عبارة عن شيء متقدم على شيء آخر ومجاور له وكل الأشياء المشابهة للشيء المتقدم متقدمة ومجاورة للأشياء المشابهة للشيء الثاني.

ويرى ديفيد هيوم أن ثمة في التعاريف المذكورة مكونًا أساسيًا أُغفل في تصور العلية. هو يدرك أننا متى اعتبرنا شيئًا علة لشيء آخر أقمنا بينهما علاقة ضرورية، بينما لا يوجد في التعاريف المذكورة ضرورة بين جانبي العلاقة العلية. لذلك يسارع في تعريف آخر لا يتطابق كثيرًا مع رؤيته الحسية.

يقول هذا التعريف الآخر: العلة شيء يأتي بعد شيء آخر (بحيث لو لم يكن الشيء الأول ما كان الشيء الثاني على الإطلاق)، وفي هذا التعريف هناك افتراض لعلاقة ضرورية بين الشيء الأول والثاني أي بين العلة والمعلول. ويبدو أن إرجاع تصور مثل الضرورة إلى انطباع يبدو صعبًا أو متعذرًا. ولمعالجة هذا الغموض يسوق هيوم مقدمة تمهيدية ليطرح تعريفًا آخر فيقول أولًا: (متى ما ظهرت علة فإنها تنقل ذهننا عن طريق نقلة تعودية إلى تصور المعلول. إننا نجرب مثل هذا الانتقال التعودي) وبوسعنا عن طريق تغيير في التعريف أن نطرح الضرورة الموجودة في التعريف السابق بشكل يمكن إرجاعه إلى تجربة من التجارب وبالتالي ستكون مسبوقة  بانطباع. إذًا (العلة شيء يأتي في أثره شيء آخر، وظهوره ينقل الفكرة دومًا إلى ذلك الشيء الآخر).

ويقول في “رسالة في الطبيعة البشرية”: “العلة عبارة عن شيء متقدم على شيء آخر ومجاور له يتصل به بحيث يضطر الذهن بتصوره لأحدهما أن يصنع تصورًا للآخر وبانطباع أحدهما أن يصنع تصورًا أكثر حيوية للآخر”

ويريد ديفيد هيوم من جهة تثبيت علاقة الضرورة باعتبارها أهم مكون في تصور العلية، لأن هذه العلاقة توفر الأساس اللازم  لاستنتاج العلة والمعلول أو المعلول من العلة، ومن جهة ثانية كان يرى أن الاشياء ليس فيها أي خصوصية اسمها الضرورة يمكن مشاهدتها تجريبيًا، لذلك يضطر لتقديم إيضاح تجريبي لطريقة استخراج تصور (علاقة الضرورة) من التجربة، ومن هنا ينبغي التفتيش بين الانطباعات الأولية والأساسية، لكن طبعًا يكتشف بعد ذلك أنه لا يمكن استخراج تصور علاقة الضرورة بشكل مباشر من الرابطة الدائمة بين الأشياء، وإنما ينبغي القيام بذلك على نحو غير مباشر، وبعبارة أخرى لا يمكن أن  نستخلص تصور الضرورة على نحو مباشر إلا من انطباع داخلي وهو الانطباع الانعكاسي”

الاستدلال العلي

ما هو الاستنتاج العلي؟

الاستدلال أو الاستنتاج العلي هو منهج تجريبي للحكم حول قضايا تتعلق بالأمور الواقعية. يستخدم هذا الاستدلال فيما يخص وجود أشياء خارجية غير انتزاعية وصفاتها واقعية، ويقوم على أساس العلاقة العلية بين الأعيان والظواهر.

في الاستدلال العلي، ننتقل بالاعتماد على العلاقة العلية التي  تتجلى لنا إثر المعاينة المتكررة للاقتران والتعاقب بين شيئين أو أكثر، ننتقل من وجود العلة إلى وجود المعلول أو صفات المعلول، وبالعكس. هذا الانتقال من أحد طرفي العلاقة العلية نحو الطرف الآخر انتقال طبيعي قائم على مبدأ التداعي أو التخاطر. بداية هذا الاستدلال تتمثل في وجود انطباع حسي حاضر أو انطباع موجود في الذاكرة يؤدي عبر النقلة الذهنية إلى تصور شيء آخر.

وكما تم ذكر العلية عند ديفيد هيوم يوجد تعريفان، أحد التعريفين ينظر للعلية كعلاقة فلسفية حيث لا يوجد على طرفي العلاقة العلية أيّة ضرورة بين انطباع أو تصور أحد الطرفين أو تصور الطرف الثاني، أي أن التداعي الضروري الحتمي لا يقع بينهما. والتعريف الآخر ينظر للعلية كعلاقة طبيعية توجد بين  طرفيها علاقة تداعٍ ضرورية، بحيث إن انطباع أو تصور أحد الطرفين يُفضي إلى انطباع أو تصور الطرف الاخر. يقول هيوم نفسه بصراحة: “مع أن العلية علاقة فلسفية تتضمن المجاورة والتوالي والرابطة الدائمية، ولكن لا نستطيع أن نستدل على أساسها أو نستنتج شيئًا منها إلا عندما تكون هذه العلية علاقة طبيعية تخلق بين تصوراتنا.”

ونتائج الاستدلالات العلية تسمى العقائد، وليست العقائد في مرتبة واحدة من حيث القيمة المعرفية. بعضها عقائد قطعية أكيدة وبعضها عقائد احتمالية. قطعية أو احتمالية أي عقيدة وكذلك درجة  احتمال أي عقيدة منوطة برتابة أو لا رتابة المشاهدات السابقة.
ويتبين أن النقلة النفسية التي تحصل في ذهن الإنسان هى ثمرة تجربته في رأي هيوم، اتباع هذه العملية النفسية يمكنه أن يحقق لنا معرفة موثوقة للأمور الواقعية. لذلك فهو يوصي في إنكاره أو اعترافه بوجود أعيان وأحداث خارجية، أن نستخدم منهج الاستنتاج العلي.

ويقول ديفيد هيوم:

1. باستحالة الصدفة وإن ما نعتبر ظاهره صدفة هو ناجم عن جهلنا بعلة تلك الظاهرة.
2. معرفة العلاقات العلية بين الظواهر ممكنة عن طريق التجربة.
3. الضرورة العلية ليست بشيء سوى التداعي اللاإرادي لتصور ظاهرة ما نتيجة حصول انطباع أو تصور ظاهرة أخرى تشاهد دائمًا أو على الأغلب مترابطة مع الظاهرة الأولى.
4. لأن الصلة بين مصاديق العلاقة العلية ليست مضهودة دائمًا، لذا فإن القوانين المعبرة عن العلاقات العلية ليست دائمية كلية دائمًا، بل هى قضايا احتمالية في بعض الأحيان (مراتب العلم والعقيدة: من العلم اليقيني إلى العقيدة الاحتمالية).
5. تصديق الإنسان لمبدأ العلية ليس ثمرة العقل والتجربة، بل ناجم عن الطبيعة البشرية (العادة).
في المقال القادم سنحاول الرد على ادعاءات هيوم الخمس الأخيرة.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: خالد أبو الخير

تدقيق لغوي: ندى حمدي

اترك تعليقا