التعايش مع الأوقات المجنونة: بدايات جديدة

نعيشُ أيَّامًا مجنونة لا نستطيع أن نهوّن على بعضنا بالتّلامس؛ فالسَّلام باليد أصبح مقلقًا، والأحضان والقبلات أصبحت من الممنوعات، لنعيش أيامًا تتشابه مع بعضها البعض، رتيبة، ومن كان معتادًا على الخروج إلى العمل أو بشكلٍ عام أصبح سجين الحجرات.

أمّا من كان مضطرًا للخروج والعمل أصابته حالة من القلق والوسوسة، ومن مكث بالبيت تراوده أيضًا مشاعر التَّوتر والقلق والخوف من الغد، وأصبح الجميع يتعامل عن بُعْد؛ حفاظًا على التّباعد الاجتماعيّ، تلك العبارة المتكرّرة والجديدة في حياتنا. وازدادت المشكلات النَّفسية، وظهرت أعراض اعتقد أنّّها جديدة، لذا أمسى من الجدير أن تُدْرس أمراضٌ نفسيةٌ وحالاتٌ نفسيةٌ مستجدّة، فالأطفال معزولون لا يلعبون، والكبار خائفون ومضطربون في خِضَمِّ أسلوب حياة جديد، سيطرت عليه التقنية، فأصبحنا تحت رحمة الموبايل والإنترنت والكمبيوتر، وأمست كل هذه الأجهزة الذكيّة -أو الغبيّة أحيانًا- تتحكّم في أمْنِنَا وأمانِنَا.

هل نستطيع أن نواكب كلّ هذه المتغيّرات؟ هل ستتبدّد إنسانيتنا وعلاقاتنا الاجتماعيّة؟ هل سنعيش إلى الأبد كالمساجين؟ هل يمكننا التكيّف مع سيطرة الأجهزة الذكيّة على حياتنا وتحركاتنا؟ هل يمكننا أن نقاوم هذا الوحش الكاسر الّذي يجرّدنا من أبسط قيمنا وأجملها -الحب والتراحم والتقارب-؟

سأحاول أن أجيب عن هذه الأسئلة، وأوضِّح الدّور الخطير الذي يلعبه ما يعرف في علم النفس بـ “العلاج المعرفيّ السلوكيّ” أو (Cognitive Behavioural Therapy).

سأحاول أن أتناول أهمّ المحاور لهذا المجال المؤثّر والملهم لأيامنا هذه، فإذا تعرّفنا على المبادئ الرئيسة لهذا النوع من العلاج، يمكننا تجنّب الذهاب إلى الطبيب أو المعالج والتّخفيف عن أنفسنا بالمعرفة والإدراك. هيَّا بنا نتعرَّف على هذا التوجّه الجديد في العلاج النفسي بشكل مُبسَّط قابلٍ للتطبيق في حياتنا اليوميّة، خاصةً في ظل اللّامعقول الذي نعيشه.

إعلان

إنّ العلاج المعرفيّ السلوكيّ بشكلٍ مختصر؛ هو القدرة على تغيير سلوكياتنا وأفكارنا السلبية بمواجهة هذه الأفكار النابعة عن معتقداتنا أو موروثاتنا، وهي تدريب واعٍ للعقل على استخدام شتّى أساليب المواجهة، وبالتالي نستطيع أن نسيطر على ردود أفعالنا وسلوكياتنا السلبية، أي أنّه تدريب للعقل على التحليل والسيطرة على فكرنا وخواطرنا، وبذلك نتعامل بشكل أكثر نضجًا وهدوءًا ونحن نمرُّ بأحداث ضاغطة أو مثيرة للسلبية. فإذا أدركنا أنّ كلّ مشاعرنا وانفعالاتنا السلبية من توتّر وخوف نابعة عن فكرة سلبية تراودنا، واستطعنا أن نغيّر من هذه الفكرة، سننجح في تغيير شعورنا وبالتالي ردود أفعالنا إلى سلوك أكثر إيجابية.

ونحن حاليًا في أمَسِّ الحاجة لتغيير أفكارنا وتبديلها، والتّأقلم على أسلوب حياه جديدة، ويجب أن نفكّر خارج الصندوق بدلًا من البكاء على اللَّبن المسكوب؛ فأوّل فكرة التي عادةً ما تسيّطر على الكثيرين، هي اعتبار المنزل بمثابة سجنٍ أو قفصٍ، فإذا تعمّقنا في هذه الفكرة وحللناها سويًّا، يمكننا تحويلها إلى فكرة أكثر إيجابية، فالمنزل النظيف هو السكن والملاذ، ويمكن أن يتحوَّل إلى جنة صغيرة بفضل إضافة لمسات جمالية والنظر إليه بأنه المكان الذي يوفر الشعور بالأمن والأمان، وأنّ المكوث بالمنزل ليس حكمًا بالسجن، وإنّما فرصة للراحة والتأمُّل، فرصة لمراجعة النفس، فرصة لقضاء وقت أطول وألطف مع الأسرة. أمّا العمل من المنزل –لمن تتوفر له هذه الإمكانية– فهو ميزة وليس عيبًا، فبدلًا من إضاعة الوقت في اختيار الملابس للخروج وارتدائها، وبدلًا من إضاعة الوقت والنفقات في المواصلات، يمكن للمرء منّا أن يؤدّي عمله بين جنبات راحة منزله، ووسط أسرته الصغيرة، بالإضافة إلى ذلك فإنّك ستجد نفسك مضطرًا لتطوير نفسك وتنمية مهاراتك ومواكبة عصر الكورونا، فتنمية المهارات الخاصّة بالأجهزة الذكية تفتح أبوابها من منزلك إلى رحابة آفاق جديدة.

كما أنّ كلّ من في هذه الفترة مسؤول عن الأخذ بأسباب الوقاية، من تعقيمٍ للمنزل والمَلْبَس والمتعلقات والأيدي، وتجنُّب الأماكن المزدحمة، والسيطرة على رغبة الاختلاط، فلا تُحمِّل حكومتك أو الآخرين المسؤولية وحدهم، إذ يجب أن نبدأ بأنفسنا قبل أن نلوم الآخر. تحمّل مسؤوليتك اتّجاه نفسك واتّجاه الآخرين.

وبدلًا من إحساسك بأنّك محروم من رؤية الأحبَّة والأصدقاء، يمكنك أن تتواصل مع أحبابك من خلال تطبيقات مثل الواتساب والفيسبوك، بينما تحرص على تحصينهم، وتقبِّلهم بالكلمات والصورة، فعلى الرغم من أنّ الإنسان لا يمكن أن يعيش حياة سويّة منعزلًا عن الأهل والأحبَّة، إلّا أن تغيير فكرتك بأنّك منعزِل، واستخدمت وسائل التّواصل الاجتماعيّ بشكل إيجابيّ، سيشعرك بمودّة الأصدقاء وحبِّهم رغم المسافات، ففي هذه الحالة تعتبر التقنية نعمة وليست نقمة، ومن ثم سوف تعمل على التقليل من توترك وشعورك بالإنزواء والعُزلة.

دعونا إذًا نلخِّص أهم المبادئ في العلاج المعرفيّ السلوكيّ الّتي من الممكن أن تساعدنا على اجتياز محنتنا الحاليّة أو المِحَنِ بشكلٍ عام:

أولًا: يجب أن نعلم أنّنا لسنا ضحايا الأحداث ويمكننا تغيير عواقب الحدث، فلعب دور الضحيّة سيزيد من الإحساس بالعجز أو الشعور بالعزلة أو السجن.

ثانيًا: يجب أن نعلم أنّنا لدينا القدرة على التخلُّص من أفكارنا السلبيّة وعاداتنا السيئة، وغير حقيقي من يقول إنَّ الإنسان لا يمكن أن يتطبّع ويخلِق نفسه من جديد، بل يمكن للمرء أن يخلِق فكرًا وعادات جديدة كلّ يوم.

ثالثًا: كلّ إنسان مسؤول عن أفكاره، وبالتالي تصرفاته وردود أفعاله، ويجب أن يتحمَّل وحده مسؤوليّة التصرُّف أو رد الفعل دون البحث عمن يلقي عليه اللّوم.

رابعًا: هناك الآلاف من الأفكار التي تراودنا يوميًا ولا يمكننا أحيانًا أن نسيّطر على الوساوس الخاصّة بالأخبار المتضاربة، بل والمخيفة أحيانًا عن الكورونا، ولكن يمكننا العمل على تقليل التعرُّض للأخبار السلبيّة وانتقاء المصادر والأخبار، وتفادي المعلومات المغلوطة، أيّ أن ننتقي ما نقرأه أو نتابعه عن فيروس الكورونا وتطورات أحداثه.

خامسًا: وأخيرًا وليس آخرًا، ينبغي على كلّ منا أن يغيّر من عاداته اليوميّة وأنماط تفكيره، وتعدُّ هذه القدرة من النِّعَم التي يتمتّع بها الإنسان، فعلى سبيل المثال إن كنت معتادًا على التريّض يوميا أو معتادًا على الذّهاب للرياضة بإحدى النوادي أو قاعات الرياضة، فلا بأس يمكنك أن تستبدل رياضتك هذه بالقيام بنفس الأنشطة بالمنزل، ويمكنك اقتناء جهاز رياضيّ بديل، وإن لم تسعفك أحوالك الماليّة، فهناك كثير من الأنشطة الرياضيّة التي يمكنك القيام بها بلا أجهزة على الإطلاق، المهم هنا أن تفكِّر بطريقة أكثر إيجابيّة، محاولًا الوصول إلى حلول وبدائل ناجحة، ومن ثم استبدال ما اعتدته بغيره من العادات الأكثر مناسبة للظرف والزمان والمكان، فالإنسان هو المسيّطِر والمتحكِّم في تغيير أفكاره وبالتالي تصرفاته، وهذا التفكير سيصل بك إلى الابتكار، أوليست الحاجة أمَّ الاختراع؟ إنّ ترويض العقل وتدريبه على كلّ ما هو إيجابيّ سيمنحك هدوءًا وسعادةً، ويؤمِّن لك تعايشًا لطيفًا مع أوقاتٍ عجيبة ومجنونة.

نرشح لك: التداوي بالطبيعة والعزلة

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: د. نهاد حلمي هليل

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا