العقلانية الساخنة: متى يفقد العقل عقله؟
لا يُعد تاريخ الصراع بين عالم العقل وعالم العاطفة تاريخًا حديثًا، بل يمكننا العودة قرونًا طويلة إلى الوراء لنشاهد هذا الصراع بين العالمين قائمًا؛ من له الأفضلية؟ ومن ينبغي عليه أن يقود الآخر؟ وكأنها حرب منذ القدم بين عدوين. فبالعودة إلى فلاسفة الإغريق القدماء، سنجد هذا الازدواج بين العالمين حاضرًا بقوة بوصفه تناقضًا بين قوتين، يقف العقل والعقلانية والحكمة في جانب، وفي الجانب المضاد تقف العاطفة والتسرع واللامعقولية.
يقدم لنا “أفلاطون” في ذلك العصر، تصورًا لطبيعة النفس البشرية خلال بنائه لمدينته الفاضلة؛ حيث تتكون النفس عنده من ثلاثة جوانب أو عناصر: أولًا العنصر “العاقل” وهو ما يميز الإنسان عن بقية الكائنات أي قدرته على التفكير، والعنصر “الروحي أو العاطفي” وهو الجانب المرتبط بالحماسة والشجاعة والمحفزات الانفعالية الأخرى، وأخيرًا العنصر “الشهواني” المرتبط بالرغبات والشهوات الجسدية. وبطبيعة الحال يمكننا توقع العنصر أو الجانب الذي سيعطي له “أفلاطون” الأفضلية واليد العليا في نظريته تلك؛ فليس سوى العنصر العقلاني هو الذي ينبغي عليه أن يحتل قمة التسلسل الهرمي لهذه العناصر التي تتكون منها النفس ومن ثمّ يسود عليها ويتحكم فيها.
هذا التصور الثلاثي لطبيعة النفس كما صاغه “أفلاطون”، هو تأكيد على وجود هذا الصراع والازدواج المتناقض داخل الإنسان بين العقل والعاطفة. ففي محاورة فايدروس، يقدم تشبيه شهير يوضح من خلاله طبيعة هذا الصراع بين عناصر أو قوى النفس الثلاثة؛ حيث يشبه العنصر العقلاني بسائق عربة يجرها حصانين، أحدهما طيب وسلس لا يحتاج إلى السوط وإنما يخضع لصوت العقل فقط وهذا هو العنصر الروحي، أما الآخر فهو حصان جامح عنيف والذي يعبر عن العنصر الشهواني ويحتاج من السائق أن يسيطر عليه ويكبح جماحه. وهكذا يأتي التصور الكلاسيكي الذي يضع العقل بوصفه حارسًا ومرشدًا يحتل مركز الصدارة والذي تخضع له كافة العواطف والانفعالات والأهواء.
كانت تلك هي الصورة التقليدية التي سادت وألقت بظلالها على العصور التالية، وسنجد صداها لدى “ديكارت” في بدايات العصر الحديث عبر قسمة ثنائية أخرى تعطي للعقل طبيعة منفصلة وقائمة بذاتها، تؤكد هذه الصورة على أن كل ما هو عاطفي أو انفعالي يُعد بمثابة عقبة أمام العقلانية والحكمة؛ فعلى حد تعبير “شكسبير” وهو يصيح على لسان هاملت “أرِنِي رجلًا لا تَستَعبدُه العاطفة المَشبوبة وسأُنزله في سوداء القلب وأعماقِ فؤادي” وكأن النموذج المثالي للإنسان في ذهن هاملت هو ذلك الشخص الذي يكون قادرًا على التخلص من عاطفته وأهوائه دون الخضوع لها.
وبالرغم من سيادة هذا التصور التقليدي طوال قرون عديدة، لكننا لن نعدم بعض المحاولات التي تقلب نظرية “أفلاطون” على رأسها تمامًا؛ مثلما فعل الفيلسوف الإنجليزي “دافيد هيوم” في القرن الثامن عشر؛ فحينما يناقش هيوم قضايا الأخلاق والفضيلة، فإنه يؤكد على نقيض الصورة العقلانية التي تم طرحها منذ أفلاطون، فالسلوك الأخلاقي مصدره العاطفة وليس المنطق أو العقل، العاطفة هي التي ترشد الإنسان وتحكم على الأشياء بالحسن أو القبح؛ أما العقل على حد قوله فينبغي أن يكون عبدًا للأهواء أو العاطفة ولا يمكنه أن يؤدي أي دور آخر سوى طاعتها وخدمتها. كيف انتهى إذًا هذا الجدل الفلسفي في القرن العشرين مع ازدهار الدراسات النفسية والعصبية؟
للقلب أسبابه في العلوم العصبية
يحكي لنا عالم الأعصاب “أنطونيو داماسيو” في كتابه الشهير “خطأ ديكارت: العاطفة والعقل والمخ البشري” 1995، عن مريض يُدعى “إليوت” كان قد توجه إلى عيادته لطلب المشورة، بعد أن تم استئصال ورم حميد من أغشية المخ لديه؛ والتي كانت تضغط على الفصين الأماميين للمخ، لم تكن مشكلة إليوت مشكلة عقلية، فلم تتأثر قدراته العقلية واللغوية والحسابية أو ذاكرته وكل ما يخص جوانب التفكير، بعد العملية التي أجراها؛ ومع ذلك فقد انهارت حياته المهنية والشخصية ودخل في أزمات اقتصادية، وانهار زواجه الأول والثاني بالطلاق. لقد فقد شعوره بتحديد الأولويات والموازنة بين شيءٍ وشيء آخر أفضل، ومن ثمّ لم يعد يميز القرارات الحكيمة التي ينبغي عليه أن يتخذها أو التخطيط لمستقبله، ويعترف إليوت بأن ما كان يثير عاطفته فيما سبق لم يعد يحركه الآن.
يستعرض “داماسيو” حالات مشابهة لمرضى يشتركون جميعًا في إصابات حدثت لهم في مقدمة الفص الجبهي للمخ، ومع ذلك لم تتأثر قواهم العقلية بقدر تأثر استجاباتهم الانفعالية؛ والتي تظهر في القرارات التي يتخذونها، وتؤدي بهم إلى العديد من المشاكل كما في حالة إليوت. وإذا كان يُنسب إلى “ديكارت” أنه يرى إمكانية قيام العقل بمهامه ووظائفه في غياب العاطفة وبمعزل عنها، فهنا يأتي “داماسيو” ليعارضه في كتابه؛ فتشخيص حالة إليوت والمرضى المشابهين تشير إلى فشل العقل والعقلانية تمامًا في القيام بأدوارهما، حينما يحدث خلل في الحياة الانفعالية للإنسان، ليصبح العقل أعمى.
تؤكد حالة إليوت، على أن غياب العاطفة سوف يفقد الإنسان قدرته على اتخاذ القرارات وتحديد السلوكيات المناسبة، لا نريد أن نكرر تلك الكيشيهات الكلاسيكية كقول ماركوس أورليوس: الذات الخالية من الانفعالات قلعة وحصن ومنتجع، وكذلك لا نريد أن ننتصر هذه المرة باسم العلوم العصبية، لصالح العاطفة في صراعها القديم مع العقل، فهذا الصراع قد نشأ بشكل أساسي عن طريق منطق زائف في التفكير، يؤكد على خيار واحد فقط ويستبعد الآخر؛ العقل أم العاطفة؟ الواقع أننا في حاجة إلى الاثنين معًا، التحليل العقلي والاستجابات العاطفية في تداخل واشتباك دون وصاية من الآخر.
الاستجابة العاطفية وصناعة القرار
لقد سادت فكرة القسمة الثنائية بين العقل والعاطفة، على الأبحاث العلمية في علم النفس، فكان العلماء يدرسون الجوانب المعرفية cognitive مثل الذاكرة والانتباه والإدراك الحسي واتخاذ القرارات، بشكل منفصل عن العواطف والانفعالات والتي تمثل عقبة في طريق هذه الجوانب المعرفية أو العقلانية، ولكن تطور الدراسات التي اهتمت بكشف الجوانب المعرفية للعاطفة وكذلك تطور الأدوات التكنولوجية كالتصوير الإشعاعي للمخ، كل ذلك أدى إلى صورة علمية مغايرة في القرن العشرين تؤكد على ارتباط العمليات العقلية والمعرفية بالعاطفة، وبالتالي يصبح فصلهم أمرًا مستحيلًا.
تساعدنا العاطفة إذًا على معرفة الأحداث والأشياء التي لها أهمية وقيمة بالنسبة لنا، ولذلك فإنها تعتبر بمثابة مرشد أو مؤشر أولي لاحتياجاتنا وأهدافنا وقيمنا، وتظهر أهمية العاطفة في اتخاذ القرارات عندما تكون الأمور الظاهرة أمامنا مشوشة وغير واضحة لكي نبني عليها بطريقة عقلية ومنطقية أي قرار، ولكي تدرك أهمية العاطفة في صناعة القرارات، تخيل التجربة التالية: بفرض أنك وزير الصحة في بلدك وسمعت عن مرض جديد قد يقتل 600 شخص وينبغي أن تختار واحدًا من الحلول التالية لمواجهة هذا المرض: الحل (أ) هو علاج ينقذ حياة 200 شخص، والحل (ب) هو المخاطرة إما أن يتم إنقاذ الـ 600 شخص جميعًا وإما أنه قد يتسبب في قتل الـ 600 شخص جميعًا، فماذا ستختار؟ سنجد أن أغلب المشاركين في هذه التجربة سوف يختارون الحل (أ).
تخيل الآن مرة أخرى العروض المطروحة بعد إعادة صياغتها كالآتي: الحل (أ) هو علاج سوف يقتل 400 شخص، أما الحل (ب) هو علاج قد ينقذ حياة الـ600 شخص ولكن هناك احتمال أن يقتلهم جميًعا، فماذا تختار؟ أغلب الناس هذه المرة سوف يختارون الحل (ب) على الرغم من أن العرضين المطروحين متطابقين تمامًا، أي هما نفس العرضين، ولكن الاختلاف الوحيد في تغيير الألفاظ. ففي العرض الأول تم تقديم مميزات الحل (أ) أي إنقاذ 200 مريض، وفي العرض الثاني أكد على أن 400 شخص سوف يموتون في حالة نفس الحل (أ)، وهنا كان الحل (ب) غير يقيني، فالناس دائمًا تتجنب الحلول غير المؤكدة وخصوصًا إذا كان هناك ضمان بأن 200 شخص سوف يُنقذون، ولكنهم أيضًا يفضلون تجنب الخسارة المؤكدة، أي قتل 400 شخص، إذا كان هناك خيار آخر، حتى إن كان غير مؤكد.
وبالرغم من أهمية العاطفة كمرشد أو محرك مساهم في اتخاذ القرارات، فعلينا أن ننتبه إلى تلك المواقف التي نتخذ فيها قرارات ستؤثر علينا بشكل طويل المدى؛ شهور أو سنين قادمة، فنحتاج حينها إلى تأجيل تلك القرارات إذا كانت مشحونة بأجواء انفعالية وعاطفية شديدة، ويمكن مراقبة الاستجابات أو ردود الأفعال العاطفية التي تحدث لنا خلال اتخاذ قرارات معينة، هل نشعر مع هذا القرار بالإحباط أم بالقلق مثلًا، ومن ثمّ نستخدم تلك الاستجابات كمؤشر ودليل إلى الأشياء الأكثر قيمة بالنسبة لنا.
انتظار المارشميلو الثاني والمتعة المؤجلة
ثمة تجربة شهيرة أجراها عالم النفس “والتر ميشيل” وزملاءه في أوائل السبعينات من القرن الماضي بجامعة ستانفورد؛ والمعروفة باسم (اختبار المارشميلو) تساعدنا تلك التجربة على توضيح الاستجابات الانفعالية قصيرة المدى، وكذلك التحكم العقلاني في الانفعال على المدى البعيد، تقوم التجربة على وضع مجموعة من الأطفال في غرفة خالية من أي مظاهر اللهو، كل منهم بشكل فردي، ويجلسون على مقعد أمامهم قطعة من حلوى المارشميلو، يتم تخيير الأطفال بين أمرين: الاختيار الأول أن يأكلوا قطعة المارشميلو الآن دون انتظار، والاختيار الثاني أن ينتظروا 15 دقيقة حتى يعود المشرف إلى الغرفة وحينها يتم إعطاءهم قطعة مارشميلو ثانية كمكافأة لهم يأكلونها مع الأولى، بعض الأطفال استطاع أن يتحكم في نفسه وينتظر هذا الوقت، والبعض الآخر قام بأكلها بمجرد خروج المشرف من الغرفة.
تم تتبع حياة هؤلاء الأطفال المشاركين في التجربة لاحقًا وعلى مدار سنوات طويلة، وكانت النتيجة أن الأطفال الذين تناولوا المارشميلو سريعًا دون انتظار ظهرت لديهم مشكلات سلوكية كثيرة، وفي مقابل ذلك كان الأطفال الذين تمكنوا من ضبط النفس وانتظار المارشميلو الثاني، قد أظهرو نجاحًا وتقدمًا في حياتهم الدراسية وفعالية أكبر في إدارة شؤون حياتهم. يشير هذا النوع من ضبط النفس إلى ما يعرف باسم الإشباع المؤجل أو المتعة المؤجلة في مقابل الإشباع الآني السريع؛ وهو قدرة العقل على التحكم في الانفعالات والعواطف خلال اتخاذ القرارات، وبالرغم من وجود انتقادات ومراجعات لهذه التجربة فهذا لن يقلل من أهمية تأملها والتفكير في أطروحتها التي تقدمها.
وبالعودة مرة أخرى إلى أفلاطون، فماذا لو أن الحكيم اليوناني القديم أعاد كتابة مدينته الفاضلة اليوم؟ آخذًا في حسبانه تلك الأبحاث النفسية والعصبية المعاصرة، فماذا سيكون التشبيه الذي سيستخدمه هذه المرة؟ هل سيحتفظ بالعربة التي يجرُّها حصانين ويقودها العقل؟ وإذا كان على الإنسان أن يدرك نقطة التوازن أو التكافؤ بين التحليل العقلي وبين الاستجابات العاطفية -من خلال العمل المشترك وليس الوصاية- فهل ننتظر إذًا من القلب أن يتعقل في استجاباته الساخنة؟ وهل ننتظر من العقل أن ينبض في قراراته الباردة؟ وبأي معنىً سننتظر المارشميلو الثاني؟ ألا يمكن للمارشميلو الأول أن يكون أكثر قيمةً للبعض أحيانًا؟ وربما لا يمكن تعويضه إذا تجمدت العاطفة تحت سيطرة العقلانية الباردة؟
المصادر: أفلاطون: الجمهورية. ترجمة فؤاد زكريا. محاورة فايدروس لأفلاطون أو عن الجمال. ترجمة وتقديم أميرة حلمي مطر. شكسبير: هاملت. ترجمة محمد عناني. الهيئة العامة للكتاب 2004 صـ210 Hume on the Emotions Antonio Damasio (1995). Descartes' Error: Emotion, Reason and the Human Brain. دافيد ساندر: سطوة العواطف. ترجمة طلعت مطر. رؤية للنشر 2017 The Marshmallow Experiment - Instant Gratification Does the “Marshmallow Test" Really Predict Success?