العاصفة: قصة شكسبير عن السحر والسلطة والصفح (مترجَم)

«العاصفة – The tempest» هي واحدة من أكثر مسرحيات شكسبير نُضجًا، فتابع القراءة لِاكتشاف أحداثها السحرية وموضوعاتها المتنوّعة.


المسرحية التي كُتبت حوالي سنة 1610 هي واحدة من المسرحيات الأخيرة التي قام شكسبير بتأليفها، حيث تتمحور حول ساحر عجوز كان حاكمًا في السابق، قبل أن يُنفى إلى جزيرة نائية. وحين تعرّض شقيقه الذي اِستولى على منصبه إلى حادثةٍ غرقت فيها سفينته وآل به الحال إلى ضفة الجزيرة حتى لاحت في الأفق أخيرًا لحظة الانتقام منه، غير أنه بمجرّد أن وقعت ابنته وابن الملك في الحب حتى بدأت الأمور تتعقّد أكثر.

بداية مسرحية شكسبير بغرق السفينة

اِفتُتحت المسرحية بعاصفة شديدة أدّت إلى غرق سفينة ألونزو ملك نابولي، وسرعان ما نكتشف أنّ من أحدثها هو بروسبيرو، الساحر الذي صدف أن كان دوقًا. فقبل 12 سنة أطاح به شقيقه أنتونيو وتركه في قارب بعرض البحر ليلقى حتفه، غير أنّ النجاة كُتبت على بروسبيرو وابنته فعاشا في الجزيرة منذ ذلك الحين، ومع ذلك فهما حتى اليوم ليسا الوحيدان اللذان يقطنان فيها، فعندما وصل بروسبيرو إلى الجزيرة اِستعبد ساكنها الأصلي كاليبان، وأرغم الروح آرييل على أن يكون خادمه، أما الآن وبعد أن اِنتهى الحال بألونزو وطاقم سفنيته إلى الجزيرة والذي صدف بأنّ أنتونيو الخائن قد جاء معه فقد بدا أنّ لحظة الانتقام قد حانت أخيرًا.

الحب من النظرة الأولى، والخيانة، والتخلّي عن القوى السحرية

إعلان

قبل أن يتّضح مسار المسرحية، يقوم ملك السفينة الغارقة ورجاله بالتنقّل في الجزيرة، ومن بين عدّة أحداث يلتقي فرديناند ابن الملك بميراندا ابنة بروسبيرو فيقعان في الحب من النظرة الأولى، ولكي يتدارك بروسبيرو تطوّر علاقتهما يقوم بعزل فرديناند عن الآخرين ويجبره على أن يصبح حمّال حطب، لكن سرعان ما يغيّر رأيه ويبارك لهما هذه الزيجة.

في هذه الأثناء، تلوح الخيانة في الأفق، حيث يحيك أنتونيو وبعض من البحارة مكيدة لقتل الملك خلال نومه، غير أنّ بروسبيرو وآرييل يحبطان خطته ويجعلان المتورطين يلوذون بالفرار في خوف، بينما يقود الطريق البعضَ الآخر من البحارة إلى حيث كاليبان الذي يصاب بخيبة من اِستعباده، فيتحالفون معه للتخطيط لثورة ضدّ بروسبيرو.

وبالعودة إلى نهايات مسرحيات شكسبير فقد يتوقّع المرء بأنّ مسرحية العاصفة ستنتهي بإراقة الدماء وجرائم القتل، غير أنه سيتفاجئ بأنه ما من نهاية كهذه ستحصل، فبدلًا من ذلك، يتم فضح مكيدة كاليبان وتدارك حدوثها درءًا لوقوع أيّ مكروه لأحد ما، وإلى جانب أنّ بروسبيروا يلقّن شقيقه درسًا بمساعدة قواه السحرية فهو فوق ذلك يقرّر أن يصفح عنه، ويحرّر آرييل، ويتنازل عن قدراته السحرية.

هل تعدّ مسرحية العاصفة بمثابة وداع شكسبير للمسرح؟

تعتبر مسرحية العاصفة إحدى أكثر أعمال شكسبير نضجًا، حيث يؤوّل  العديد من الأشخاص نهايتها على أنها وداع الكاتب المسرحي للمسرح، ففي النهاية يقوم بروسبيرو بالتخلّي عن قواه السحرية واِختتام مونولوجه الأخير بهذه الكلمات: «ليطلق غفرانك سراح روحي». وبالنظر إلى أنّ شكسبير قد اِعتزل المسرح بعد فترة وجيزة فليس بالأمر المفاجئ أن يعتبر الكثيرون المونولوج الأخير بأنه الخطاب الرمزي لاعتزاله.

مسرحية تدور في فلك السلطة والمسؤولية والصفح

العاصفة هي واحدة من أكثر أعمال شكسبير عمقًا، وهذا ليس بالمفاجئ بما أنّ شكسبير قد كتبها عند نهاية مساره الطويل في المسرح، حيث تتناول العاصفة مواضيعًا مختلفة منها الحب والخيانة والصفح، كما أنها تستكشف العلاقة الموجودة بين السلطة والمسؤولية وتسمح بطرح تساؤلات أخلاقية مختلفة حول الاستعمار وإساءة استخدام السلطة.

السلطة والمسؤولية في مسرحية العاصفة

تستدعي مسرحية العاصفة من إحدى النواحي تساؤلات عن السلطة وما يتبعها من مسؤولية، إذْ يتم الاستيلاء على لقب بروسبيرو كدوقٍ لميلانو من قبل شقيقه بسبب تقصيره في تحمّل المسؤولية التي وضعها منصبه على عاتقه، وعوضًا عن تولّي شؤون القضايا الحياتية قام بروسبيرو بتكريس وقته لدراسة السحر حيث سهّل هذا على غيره أخذ مكانه، وبوسعنا أن نذهب أبعد من هذا ونقول أنّ بروسبيرو قد فقد مكانته في السلّم الاجتماعي لأنه لم يلتزم بواجباته التي ترتّبت عن سلطته.

وفوق هذا تستحضر مسرحية العاصفة تساؤلات أخرى من قبيل أخلاقيات السلطة، فحالما وصل بروسبيرو إلى الجزيرة قام بتسخير قدراته السحرية لاستعباد كاليبان وتحرير روح آرييل، غير أنه لم يمنحه الحرية على الفور، فقد بقي آرييل بعد ذلك خادمًا له لاثني عشر سنة رغم توقه إلى نيل حريته.

الكولونيالية وإساءة استخدام السلطة

عاش شكسبير خلال فترة كانت فيها انجلترا في خضم إنشاء إمبراطوريتها. فبعد أكثر من 200 سنة ستوسّع بريطانيا العظمى نفوذها على سكان العالم بنسبة 23 بالمئة، لتصبح بذلك أعظم إمبراطورية في التاريخ البشري، ولم يكن باستطاعة شكسبير في أيّ حال من الأحوال أن يتنبأ بالنمو الهائل للمقاطعات البريطانية والجرائم الوحشية العديدة التي ستُرتكب كجزء من عملية التوسّع، ومع ذلك فقد أفسحت مسرحية العاصفة المجال لتساؤلات عن الاستعمار، والقضايا الأخلاقية لاستعباد السكان الأصليين -مثلما رأينا مع كاليبان وآرييل-

 

إذا أخضعنا مسرحية العاصفة لنقد ما بعد كولونيالي، سيكون بوسعنا أن نبيّن أنّ بروسبيرو قد استغلّ قدراته السحرية لغرض تملّك الجزيرة وسكانها، وليس من الصعب على أيّ أحد أن يعقد مقارنة بين استيلاء بروسبيرو على الجزيرة واستعباد سكانها وبين الطريقة التي تُسخّر بها بريطانيا أسلحتها المتطوّرة لتحكم بقبضتها على المناطق الأجنبية. فبروسبيرو استخدم قدرته السحرية للاستعباد بدلًا من التحرير، وبهذا، لو نظرنا إلى مسرحية العاصفة بنظرة ما بعد كولونيالية فسوف نستوعب المشاعر الساخطة التي يكنّها كاليبان تّجاه بروسبيرو، فقد تمت معاملة وتعريف كاليبان بوصفه كائنًا أدنى من الانسان، أو وحشًا هجينًا، وهذا ما يعكس الطريقة التي قام بها المستعمرون الأوروبيون بتجريد السكان الأصليين الذين استعمروا أراضيهم من سمتهم الانسانية، ففي النهاية لم يكن بروسبيرو غير مستبدّ أجنبي.

لقد ادعى نقاد ما بعد الكولونيالية بأنّ آرييل وكاليبان يمثّلان ردة فعل محتملة على الحكم الاستعماري، فبينما خطّط كاليبان ضدّ سيده لثورة باءت بالفشل، اِستمرّ آرييل في لعب دوره كخادم ذليل لبروسبيرو على أمل أن يعتقه هذا الأخير في النهاية.

الشعوذة والسحر في مسرحية العاصفة

طوال المسرحية يُسخّر بروسبيرو سحره للسيطرة والتحكّم بغيره من الأشخاص مثل الدمى، وهو يقوم من بين عدّة أمور باستخدام قدراته السحرية لتشكيل عاصفة تلقي بالبحارة إلى الشاطئ، كما أنه يستخدم قدراته بمساعدة الروح آريل ليقود الأحداث حسب مبتغاه ومنع وقوع المكيدة ضدّه وضدّ الملك، وبينما يستغلّ بروسبيرو سحره لمصلحته الخاصة تضعه قدراته في وضع المسؤول عن تبعاتها.

وفي النهاية يمكن تسخير قدارته السحرية لصالح الخير أو الشرّ، غير أنه من الواضح أنّ التقدّم في العمر قد حباه بمستوى أعلى من الحكمة، فبدل السعي خلف الانتقام فهو ببساطة يلقّن شقيقه الخائن درسًا، فلمّا ترك بروسبيرو خلال لحظات معيّنة في المسرحية غضبه وخسّته يتسلّطان على روحه علّمنا قراره الأخير الذي اِتّخذ هدفًا أرقى بأنه يجب علينا أن نوسّع أفق رؤيتنا إلى حدّ ما مثلما نفعل مع قدراتنا.

قضية سيكوراكس: رؤية ما بعد كولونيالية للشعوذة والسحر

حسب المسرحية، كانت الجزيرة تحكمها ساحرة تدعى سيكوراكس، اِعتادت على استخدام قواها لاستعباد العديد من أرواحها، ويقال عن سيكروس أنها امرأة قوية من الجزائر تركت لوحدها في الجزيرة عندما حملت بكاليبان. والحقيقة القائلة بأنّ سحر بروسبيرو واستعباده لآريل اِعتبُر من الناحية الأخلاقية مقبولًا في الوقت الذي نُظر فيه إلى قدرات سيفروس على أنها خطيرة؛ تتيح طرح العديد من التساؤلات حول النسوية والكولونيالية.

لقد عاش شكسبير في عصر كان فيه حرق الساحرات أمرًا شائعًا، مثلما وُجد أيضًا تاريخ طويل لشيطنة الشعائر الدينية والروحانية والممارسات السحرية التي يقوم بها السكان الأصليون للمناطق المستعمرة، وبسبب هذا ادّعى بعض نقاد ما بعد الكولونيالية أنّ سيكروس تمثّل المرأة الأفريقية المقهورة ومحاولات شيطنة أعمال السحر التي يقوم بها المستعمَرون. ولهذا تفسح مسرحية العاصفة المجال لعدة أسئلة حول طريقتنا في رؤية السحر. وقد نتساءل على سبيل المثال عن كيف تكون ممارسات الرجل الأبيض الساحر مقبولة في الوقت الذي يتم اِضفاء طابع الشرّ على الممارسات السحرية التي تقوم بها الساحرة الإفريقية.

الصفح في مسرحية العاصفة

إنّ مسرحية العاصفة حكاية تحفل بالصراعات وحروب السلطة، ومع ذلك فنضج هذه المسرحية تثبته حقيقة أنّها تنتهي بفقدان بروسبيرو رغبته في السعي خلف الانتقام، وتفضيله الصفح عن شقيقه، وتعلّمنا المسرحية بأنّ الانسان الناضج لن يبقى في حاجة إلى معاقبة الأشخاص الذين أساؤوا إليه، ففي النهاية لن نصبح أحرارًا حقًا إلا عندما نصفح عن أولئك الذين أساؤوا إلينا.

مسرحية العاصفة لشكسبير في القرن الواحد والعشرين وما بعده

لقد تم اقتباس مسرحية العاصفة وعرضها على الشاشة عدّة مرات كحال الكثير من مسرحيات شكسبير، ففي الفيلم المقتبس عنها الذي عرض سنة 2010، قامت «هيلين ميرن – Helen Mirren» بأداء دور بروسبيرو، كما توجد أيضًا نسخة أوبرا قام بتلحينها «توماس أديس – Thomas Adè»، بينما أنجز «رودولف نورييف -Rudolf Nureyev» عرض بالي لعمل شكسبير السحري، ويبقى لنا أن نرى كيف سيقوم الجيل المستقبلي من مخرجين وممثلين بتأدية هذا العمل متعدّد الأبعاد. وعلى أيّ حال، ومع دخولنا عصر الذكاء الاصطناعي فالأسئلة التي تثيرها مسرحية العاصفة حول السلطة والمسؤولية تبدو موفّقة أكثر من أيّ وقت مضى.


الكاتبة: « أجنس تيريزا أوبراور – Agnes Theresa Oberauer»

المقال الأصلي

إعلان

اترك تعليقا