الصعيد في بوح نسائه .. الكتابة خارج مقهى ريش
الثالث من ديسمبر عام 2017، الذكرى الرابعة لوفاة شاعر الغلابة أحمد فؤاد نجم، هل نكتب عنه في ذكراه، أم نكتب لمن سخر شعره لأجلهم؟!
أعتقد الخيار الثاني سيرضي الفاجومي أكثر …
***
قبل 50 عامًا كتب نجم: “يعيش المثقف على مقهى ريش/ محفلط مزفلط كتير الكلام/ عديم الممارسة/ عدو الزحام/ بكام كلمة فاضية/ وكام اصطلاح/ يفبرك حلول المشاكل قوام”.
تنتمي سلمى أنور مؤلفة الكتاب المميز ” الصعيد في بوح نسائه ” – نظريًا- إلى المحفلطين بتعبير نجم، كونها خريجة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، إضافة إلى عملها كباحثة أكاديمية تنتمي لغتها – في المفترض- إلى اللغة ذات الاصطلاحات الأصعب، إلا أنها تفاجئك بلغة سلسة، وسرد بسيط، مقرب إلى النفس، يتجاوز كل الأحكام النظرية المسبقة، ليضعك أمام حقيقة وحيدة، هذا الكتاب ينتمي للناس، ويخرج من رحم الأرض.
تلقي “أنور” بنفسها في التجربة، تخوض الزحام، وتتيح لنساء الصعيد الأكثر تهميشًا فرصة للتعبير عن الذات والمكان، عبر حكايات بديعة وممتعة، تتجاوز كونها مجرد بوح نسائي، وترسم بجلاء صورة لمجتمع مجهول، ولمصر أخرى غير تلك التي نعيشها يوميًا، وإذا كان الزميل محمد أبو الغيط قد قدم في مقاله البديع “يا مجتمع الـ15% نقدم لكم: مصر” إحصاءات ومعلومات مهمة عن العوالم المختلفة للمصريين، فإن سلمى تقدم في كتابها المآساة مجسدة في صورة حية، من لحم ودم، ومن غير وسائط رقمية أو أعداد إحصائية.
تقسم المؤلفة كتابها إلى قسمين يضم الأول “حكايات النساء في مجالس النساء”، في حين يضم الثاني “حكايات الصعيد التي لا يملكها أحد”، وخلال رحلتك عبر الحكايات تصطدم بالكثير من الفقر، والقهر، والتهميش، تجد نفسك مع “الغلابة في طي النجوع”، تجالس النساء وتسمع منهم ربما للمرة الأولى خليطًا من الحقائق والأساطير يصل بك في الأخير إلى تقدير حقيقي لأزمة المرأة المصرية، دون متاجرة، أو تشنج، أو استرزاق من وراء النشاط النسوي.
ومن بوابة المرأة، تلتقي أزمة الصعيد رجالًا ونساءً، بل وما يتجاوز الصعيد إلى ما هو أعظم، يطرح الكتاب تساؤلات كبرى حول اتصال المجتمع المصري ببعضه، وقدرته على معرفة ذاته، والتواصل بين طبقاته، يشير إلى التباين الثقافي الكبير بين المصريين، ويستدعي إلى الذهن عددًا من القضايا والنقاشات القديمة، ويعيدها إلى الساحة مرة أخرى، دون أن يحيد عن طبيعة الحكي، ودون أن تحتاج مؤلفته للحديث عن كل هذه القضايا، هي فقط تحكي، وتترك هذا الاستدعاء إلى الوعي الذاتي، وقدرة القارئ على تشبيك الأفكار، وعليه فإن الكتاب يملك مستويين للقراءة، الأول لا يتجاوز كونه مجرد حكايات مجمعة، وممتعة، لدرجة تكفي لوضع الكتاب – إذا ما توفرت له الدعاية اللازمة- على قوائم الأعلى مبيعًا استفادة من الأجواء الغرائبية المشوقة التي أحاطت بالكثير من الحكايات، والثاني يستدعي الكثير من القضايا الاجتماعية والاقتصادية ويعيد طرحها بصوت أعلى من كل مرة طرحت فيها، ذلك أنه طرح مجمع في سياق واحد.
على سبيل المثال يستدعي الفقر “الوحيش” في الصعيد، وحكايات الهجرة إلى القاهرة، والخليج، آراء الراحل جمال حمدان حول ضرورة تعزيز اللامركزية الإدارية و تحويل مشاريع تطوير القاهرة لدعم الأقاليم ما يؤدي لإعادة التوازن بين المركز “الرأس الضخم” وبين الاطراف “الجسد الكسيح”، لمكافحة الفقر، وتقليل معدلات الهجرة حيث فرص العيش الوحيدة.
وتستدعي حكايات الزواج المبكر، والضرب، والغصب، أزمة “البنات المخطوبين في المهد لسرير الجواري”، لتستصرخ المجتمع الغافل، وتفتح جراح نقص الموارد، والجهل، إضافة إلى قضايا الثأر والعادات الاجتماعية والموروثات وغيرها.
وإذا كانت المؤلفة لم تحد عن طريقتها في نقل الحكايات التي جمعتها أثناء الرحلة، واستخدمت أصواتًا خافتة ومناسبة لتوصيل رسائلها المهمة، فإن صوتها كان أعلى قليلًا حين تكلمت عن مسألة حفظ الموروث، ومحاولة “فهم هذا الإقليم القديم، الذي تجري عليه التغيرات ببطء شديد كأنه يسقط خارج حسابات الزمن”.
وجملة القول أننا أمام كتاب من ذلك النوع الذي يجعلك تفكر، من دون أن يؤثر التفكير على استمتاعك بالمحتوى، وتواصلك مع الحكايات، كتاب تستحق مؤلفته سلمى أنور الإشادة على ما بذلته من جهد، ويستحق ناشره عاطف عبيد، ودار بتانة الكثير من الثناء على الانتصار للجودة، وأخذ شيء كبير من المخاطرة كون حكايات الكتاب منشورة منذ 2015 على موقع مصريات، والكتاب تجميع وتنقيح لها، ورغم أن مادة الكتاب متوافرة على الانترنت، إلا أنه يستحق بلا شك كل جنيه يدفع ثمنًا لاقتنائه، والاحتفاظ به، كونه واحدًا من أهم الكتب التي صدرت في الآونة الأخيرة، ولأنه كتب -على غير الغالب- خارج مقهى ريش.
في حالة أعجبك المقال، ربما ستعجبك مقالات أخرى، نرشح لك:
باب الحديد .. لماذا حطم الجمهور السينما يوم عرضه؟
رواية العمى .. الجانب المظلم للنفس البشرية
الثيوقراطية و المرأة : قراءة في رواية الخادمة لمارجريت اتوود