الصراع الطبقي: تأصيل المفهوم
إن كل التجمعات البشرية تتركب من طبقات اجتماعية يمكن تنظيمها تصاعديًا، تنطلق من أسفل قاعدة الهرم المجتمعي حيث تقبع الطبقة الدنيا أو السفلى (الطبقة الفقيرة ماديًا)، ثم الطبقة المتوسطة التي تتميز بالاعتدال المادي بين الغنى والفقر، ووصولًا إلى الطبقة التي تتصدر قمة الهرم وهي الطبقة الغنية، طبقة الرفاه المادي والتي تمثل غالبًا الأقلية في المجتمعات البشرية. يكون هذا التصنيف القائم على المعيار المادي فقط هو السائد عمومًا.
يرى العديد أن هذه الطبقات تعيش صراعًا تاريخيًا فيما بينها وخاصة في المجتمعات التي لا تتألف سوى من طبقتين: طبقة غنية تمثل أقلية، وطبقة فقيرة تتركب من العمال والخدم والفلاحين والحرفيين وعامة الشعب وتمثل الأغلبية، وهذا الصراع يؤثر بشكل كبير في طبيعة النظام الحاكم وشكله في الدولة، ويؤثر في العلاقات الاجتماعية بين الأفراد وفي النشاط الاقتصادي، ويصل حد التأثير في مفاهيم الأخلاق والوعي العام داخل المجتمع. نلتمس أول بوادر التلميح لأهمية الصراع الطبقي داخل المجتمع منذ الإغريق وتحديدًا في الفلسفة السياسية للمعلم الأول أرسطو.
أرسطو: الديمقراطية وحكم الأغلبية
لم يحد أرسطو عن درب أستاذه أفلاطون في نقد وبيان مساوئ النظام الديمقراطي، النظام السائد والمنتصب في اليونان القديمة، النظام القائم على حكم الشعب وسلطة الأغلبية. يفرّق أرسطو بين ما يسميه “الجمهورية” وبين الديموقراطية. يعتبر المعلم الأول أن الجمهورية كنظام تمثل الشكل الجيد والمثالي لحكم الأغلبية والجموع، حيث تعمل لأجل المصلحة العامة لجميع الناس بمختلف طبقاتهم، لكن من جهة أخرى يعتبر أرسطو أن “الديموقراطية” هي الوجه البشع والسيئ لحكم الأغلبية، فهذه الأغلبية التي تتمثل في الفقراء والطبقة الدنيا عمومًا هي من ستحكم وتوظف حكمها هذا في السيطرة على الطبقة الغنية وافتكاك ثرواتها وإقصائها.
ويرى أرسطو أن الديموقراطية ما هي إلا حرب الطبقة الفقيرة على الطبقة الثرية، وبهذا ينشأ في رحم النظام الديمقراطي نوع من الصراع الطبقي. ولو أن أرسطو لم يوظف هذا المصطلح ولم يؤطره إلّا أنه كان من الأوائل الذين أشاروا إليه، ولاحظ وجوده داخل المجتمع الأثيني القائم على النظام الديمقراطي. ويعد النظام المثالي للحكم لدى أرسطو هو الأرستقراطية وهي نظام حكم طبقة من الأقلية المرفّهة ماديًا والمرتفعة ثقافيًا القادرة على الارتقاء بعامة الشعب على جميع المستويات عندما تعمل لأجل المصلحة العامة، ولا توظف سلطتها لتجميع المال واستغلال الطبقات الفقيرة.
رغم ملاحظة أرسطو للصراع الطبقي في المجتمع، فإنه لا يعتبر أول من قام بتنظيره وبلورته كمفهوم سيظهر لاحقًا في القرن التاسع عشر على يد مجموعة من الفلاسفة والمفكرين الفرنسيين لعل أبرزهم هو فرانسوا غيزو.
فلسفة فرانسوا غيزو
كان هذا الأخير أول من وظف مفهوم الصراع الطبقي، هذا الصراع القائم بين مجموعة كبيرة من الفقراء والعمال ضد مجموعة صغيرة من الأغنياء والمترفين، كان غيزو يشدد على مدى خطورة ما يمكن أن يفرزه هذا الصراع من استبداد الطبقة الفقيرة بالحكم وإيمانهم بـ”المساواتية” التي لا تعتبر الفوارق الاجتماعية والثقافية والمادية بين الأفراد والطبقات، وأبدى تخوفه من تغلغل هذه الأفكار من قبل الطبقة الفقيرة واستبدادهم بالمدنية؛ لذلك كان غيزو يدعو بكل استماتة إلى “حصر حق التصويت” على المتملكين دافعي الضرائب، واعتبر أن تعديل القانون الانتخابي ضرورة ملحّة لتفادي ما سيفرزه الصراع الطبقي من استبداد الطبقة الفقيرة للمدنية باعتبارها من تمثّل الأغلبية والعدد الأكبر داخل المجتمع.
منذ فرونسوا غيزو تبنى العديد من الفلاسفة مفهوم الصراع الطبقي -لا يسعنا المرور بهم جميعًا-، لكن أهم من استنقى هذا المفهوم وطوّره وأبرز جميع جوانبه هو بلا شك الفيلسوف الألماني والمنظر الاقتصادي كارل ماركس، هذا الفيلسوف الذي جعل من الصراع الطبقي هو الأساس الوحيد والمحرك الأول لحركة التاريخ.
فلسفة كارل ماركس
ينطلق ماركس من فكرة الجدل الهيغلي الذي يعتبر أن التاريخ هو صراع الأفكار، و يقوم على ثلاثة مفاهيم: الطريحة، والنقيضة، والجميعة. يرى هيغل أن التاريخ هو صراع أفكار، وأن هذا الصراع والوعي هو ما يحدد المادة والوجود، إذ تنشأ فكرة معينة يسميها هيغل بالطريحة، تظهر فكرة مناقضة لها يسميها بالنقيضة، ويحصل ذلك الصراع بين الطريحة والنقيضة فتنشأ فكرة جديدة عنهما تسمى الجميعة التي هي بدورها ستتحول إلى طريحة جديدة وتظهر نقيضة أخرى لها فتنشأ فكرة جمعية جديدة، وهكذا دواليك. يوافق ماركس من حيث المبدأ على فكرة الجدل بل يتبناها ويجعل منها أساسًا لفلسفته، لكنه يرفض القول بصراع الأفكار وأن الوعي هو من يحدد المادة، فيقوم ماركس بقلب الوعي الهيغلي وينطلق من قول إن المادة هي من تحدد الوعي وليس العكس، إذ إن ماركس ينطلق من الأرض نحو السماء، ويقول صراحةً أن وجودنا المادي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي هو ما يحدد أفكارنا ووعينا وليس العكس.
وتبعًا لهذا فإن الصراع الطبقي بين الطبقة الكادحة من العمال والفلاحين والطبقة الغنية من البرجوازيين ورؤوس الأموال هي المحرك الأول للتاريخ، فالتاريخ نعم يسير وفق حركة جدلية تقوم على التناقض، لكن محركها الأساسي هو صراع الطبقات. نظرًا لأوضاع أوروبا في القرن التاسع عشر بعد الثورة الصناعية واقتحام الآلة حياة البشر التي ساهمت في تدهور الطبقة الكادحة وتفشي البطالة ومظاهر الفقر والبؤس؛ كان ماركس يرى أن الطبقة البرجوازية هي السبب الأول في هذه المأساة على حد تعبيره وأنها توظف كل جهودها سعيًا لمزيد من استغلال الطبقة الكادحة وإخضاعها وتخديرها بشتى الوسائل لضمان عدم ثورتها ضد الطبقة البرجوازية، فكل ما ينتجه التاريخ من أحداث وأفكار توظفه البرجوازية للسيطرة على الفقراء والكادحين.
فالدين أفيون الشعوب وهو وسيلة الأغنياء لتخدير الفقراء ومنعهم من الثورة والقبول بتردي أوضاعهم المادية ووعدهم بالجزاء في ما بعد الحياة، والدولة تحكمها الطبقة الغنية وهي تحت سيطرتهم وسيأتي اليوم الذي لا بد أن تزول فيه الدولة. الأخلاق السائدة نتاج الصراع الطبقي، فالمنزلة الاجتماعية هي من تحدد معايير الأخلاق السائدة فيها وتختلف هذه المعايير طبعًا من طبقة لأخرى، كل هذا وغيره من تنظير ماركس لمفهوم الصراع الطبقي.
الرأسمالية لا تزال صامدة!
وتنبّأ أخيرًا هذا الفيلسوف بزوال النظام الرأسمالي الذي تقوم عليه الطبقة البرجوازية الغنية؛ نظرًا لمساهمته في توسيع الفجوة بين الفقراء والأثرياء، وأنه كنظام يحمل العديد من المساوئ التي ستكون سببًا في زواله. لئن تنبأ ماركس بزوال النظام الرأسمالي والمرور إلى المجتمع الشيوعي حيث تغيب الملكية الخاصة ويحصل التوزيع العادل للثروات وتضعف الفجوة بين الطبقات إلى أن تزول تمامًا ويزول معه الصراع الطبقي، فإن تنبؤات ماركس كانت خاطئة، حيث إن النظام الرأسمالي لا يزال يحافظ على نفسه كنظام صلب وناجع ومنتشر في جميع أرجاء العالم، بل حتى الدول التي اعتمدت الطرح الماركسي تخلت عنه وعادت لتبنّي الرأسمالية، ربما كذلك خفي على ماركس دور النقابات العمالية في العالم في الدفاع عن العمال والكادحين وتقليص الفوارق بين الفقراء والأغنياء والمفارقة أننا نجد هذا في أكبر الدول الرأسمالية في العالم التي تكرس لعمالها أهم حقوقهم وتحميها وفق ما يقتضيه القانون.
هذا لا ينفي أن ماركس أهم من نظّر للصراع الطبقي، فسواء وافقنا على أنه المحرك الأساسي لحركة التاريخ أم لا، فلا يمكن الإنكار أن الصراع الطبقي حقيقة لا يمكن لنا التغاضي عنها والتاريخ ينبؤنا بأهم المحطات التي نشهد فيها أوجهًا للصراع الطبقي، كالصراع بين طبقة الأسياد والعبيد في مجتمعات الرق والعبودية، أو الصراع بين العامة وملّاك الأراضي في المجتمعات الإقطاعية، وظهور الصراع بين النبلاء والعامة عقب الثورة الفرنسية، وأخيرًا صراع البرجوازيين والكادحين في المجتمعات الرأسمالية الحديثة، فهذه كلها صراعات طبقية قائمة على أسس مادية اقتصادية.
الختام
وأخيرًا لا بد من الإشارة إلى أن التاريخ يذكر أنواعًا أخرى من الصراعات على غرار الصراع الطبقي، كالإشارة إلى الصراع الديني سواء بين أديان على تنوعها أو بين طوائف داخل دين واحد، صراعات عرقية، وأخرى قائمة على أساس الجنس بين الرجل و المرأة، كل هذا وغيره ساهم كذلك في حركة التاريخ ولم يجعل من الصراع الطبقي المحرك الوحيد لحركة التاريخ.