السلوكُ النكوصيُّ في التحليل النفسي

‏«النكوص النفسي هو الرجوع إلى أبنية سيكولوجية أقدم عهدًا، نتيجة جذبٍ تُمارسهُ إزاءها ذكرياتٌ حاضرةٌ ذات قوة حسية كبيرة؛ الأمر الذي يُحيي مرحلة نفسية سابقة طُمست انفعالاتها وصُرفت بسلوكياتٍ بدائية تتخذ منحى تقهقريًّا»

ما لا يعي الإنسانُ وجوده في أية لحظة مخزون في وعاءٍ مستقر في أعماق النفس، والأعماق مصطلح يقابل مصطلح اللاشعور في التحليل النفسي، ومن هنا كانت الأمور المنسية أو المكبوتة أمورًا غير معدومة؛ بل مُترسِّبة داخلنا ومستقرة هناك. فاللاشعور موجود وإن كنَّا لا نعيه ولا نستطيع أن نرفعه دائمًا إلى مستوى الشعور لكنَّه محفوظ في مستويات دنيا من وعاء النفس، بدليل القدرة على الوصول إليه عندما نشاء، أو عندما تقتضي الحاجة إليه. وتطفو مكامنُ اللاشعور في حالات التثبيت والنكوص النفسي. إن هذا الجزء غير المشعور بهِ له من الفاعلية ما ينجم عنه ظهور الأعراض المرضية النفسية.

النكوص
سيغموند فرويد أب التحليل النفسي

يعد النكوص من أكثر الحيل الدفاعية ظهورًا في الأمراض النفسية والعقلية، وإن كان في الأمراض العقلية يتجلى في ردود أفعال شديدة مع وجود الصراخ إضافة إلى الغيرة الشديدة والغضب والأفعال غير المقبولة، إذ يعاني المريض فقدانَ الاتصال بالواقع والنكوص إلى مواقف طفلية مبكرة، والضعف في قدرة (الأنا) على التكيف؛ لذا عد من أهم مظاهر المرض العقلي (الذهان) هو السلوك النكوصي الذي لا يُلائم المرحلة العمرية التي وصل إليها الفرد، فعلاقته بالواقع تصبح مضطربة وقدرته على تكوين علاقات مع الآخرين محدودة، كذلك يصبح نموُّه العاطفي مضطربًا وتفكيره بدائيًّا.

بعيدًا عن حالات النكوص التي تأتي مرافقة للذهان؛ ما جذر المشكلة الأساسيّ والرغبة الأكثر جذبًا للسلوك النكوصي عند الأسوياء؟ إن كان الإنسان ناضجًا حركيًّا وعقليًّا وانفعاليًّا ووجدانيًّا، فما الذي يدفع المرء لتحقيق إشباعه عن طريق الارتداد النكوصي، والرجوع والتقهقر إلى مرحلة أولية سبق له أن تجاوزها كي يتشبَّث بلذة طفلية ولو هُنيهة من الزمن هروبًا وتجنبًا؟

يعدُّ كلٌّ من التثبيت والنكوص من أكبر المطبات التي تُهدِّد استقرار الحياة الجنسية في رحلتها التطورية، و“التثبيت” في علم النفس يشير إلى التركيز المستمر على مرحلة نفسية سابقة؛ أي إنَّ الفرد لا ينمو نفسيًّا إلى ما بعد المرحلة التي تعرضت للتثبيت. في هذه الآلية تتوقف بعض نزعات الليبيدو (الطاقة الجنسية) وتتعلق بمرحلة ما من تاريخ الإنسان الجنساني النفسي. في حين تباشر بقية النزعات رحلتها التطورية ولا تلتفت وراءها وهي في حالة متدهورة، وفي الارتداد أو النكوص تعترض المكونات الجنسية عثرات تؤخر تطورها ولا تجد أمامها إلا الرجوع إلى مراحل سابقة كانت قد مرت عليها.

يوضح فرويد العلاقة بينهما قائلًا:
”لو أنَّ قافلة تخلف منها في الطريق نفرٌ كثيرون فاستقروا في مراكز معينة منه، في حين مضى الباقون فاصطدموا في سيرهم بعدو لا قبل لهم به، أو انهزموا أمامه، فطبيعي أن يولوا الأدبار. وكلما كثر عدد المتخلفين؛ زاد الاحتمال في هزيمة المتقدمين“.

كما هو معلوم في التحليل النفسي أن مراحل التطور الجنسي الطفلي للفرد تشمل المرحلة الفموية والشرجية والقضيبية ويمكن لنقاط الإشباع الغريزي أن تتعلق في أي مرحلة منها. اعتقد فرويد أن التثبيتات يمكن أن تنجم إذا تركت مرحلة معينة انطباعًا مهيمنًا على شخصية الفرد. فالتثبيت في المرحلة القضيبية ينتج شخصيات بالغة مفرطة في العبث وعدوانية جنسيًّا. أما في المرحلة الفموية فقد يتجلى التثبيت في التدخين والشرب المفرط وإدخال أدوات في الفم تعبيرًا عن محاولات لاواعية لاسترداد سلوكيات طفلية.

إعلان

يهتم التحليل النفسي بطفولة الإنسان، لأن في خبراتها الجنسية يجد الليبيدو مراكزَ التثبيت التي يرتد إليها، فالصلة النفسية بين العصابي والطفل لها أهمية كبيرة بحيث لا يمكن شفاء العصابي من غير إحياءٍ لها، ولهذا حَظِيَ الطفل باهتمام كبير في أبحاث التحليل النفسي.

من المؤكد أن التفكير الفرويدي قد أثر كثيرًا في علم النفس المرضيِّ وعلم نفس الدافعية والشخصية وحتى علم النفس المقارن. وعلى الرغم من ذلك لم تلقى مبادئُ التحليل النفسي قَبولًا شاملًا قط، وهذا يعود في معظمهِ إلى إنها تعول على دليل عيادي/سريري غير يقيني، دليل يكاد يكون دومًا عرضةً لشتى التأويلات.

ومن المحتمل جدًّا أن يكون ذلك أحد الأسباب التي دعت إلى وجود عديد من مُشتقات التحليل النفسي المتنافرة.
من العسير أن نفرد أي مُساهمة بعينها في التحليل النفسي على أنها الأهم، إلا أن ما يبرز من بينها لأهميته التوكيد على العمليات العقلية اللاشعورية، ودور الدافعية الجنسية، ومفهوم النمو النفسي والجنساني عند الطفل، وفكرة آليات الدفاع النفسي الدينامي من مثل الكبت والإسقاط والتصعيد والاستبطان والتثبيت والنكوص.. إلخ
ويسعى علم النفس الحديث إلى تفحص عديد من أفكار سيجموند فرويد ومَن جاؤوا بعده بُغية دمج ما تيسَّر منها في متنِ المعرفة السيكولوجية.

المصادر:

1. النكوص والتثبيت/ ليونا أ.تايلور

2. محاظرات تمهيدية/ سيغموند فرويد

3. الموجز في التحليل النفسي/ سيغموند فرويد

4. مبادئ التحليل النفسي/ محمد فؤاد جلال

5. مدخل إلى علم النفس، الجزء الأول/ تأليف: آن تايلور، وليد يسلوسلاكن، روي ديفز،جيمس.ت.ريزون، روبرت تومسون، أندرو.م. كولمان.

إعلان

اترك تعليقا