الدين كأفيون للشعوب: الدين والاقتصاد من منظور كارل ماركس
حاول الفيلسوف الألمانيُّ كارل ماركس “Karl Marx” معالجةَ الدين من منظور علميٍّ وموضوعيٍّ. ولعلَّنا نعُدُّ تحليلَه للدين ونقده إياه عندما قال أنَّه (أفيون للشعوب)، من أكثر الجمل شهرةً واقتباسا من قِبَلِ المُؤمن والمُلْحِد على حدٍّ سواء. وللأسف، معظم هؤلاء المُقْتَبِسين لا يفهمون مُرادَ ماركس “Marx” تمامًا! ولعلَّ سبب ذلك: عدم الفهم الكامل لنظريَّات ماركس “Marx” العامَّة في المجتمع والاقتصاد.
الدينُ من منظور طبيعانِيٍّ
يهتم كثيرون -على نطاق واسع من المجالات- بتفسير الدين؛ أصله، وتطوُّره، وحتَّى بقائه في المجتمع الحديث. قبل القرن الثامن عشر، كانتْ أغلب الإجابات المطروحة تنحصر في لغة اللاهوت والدين؛ تفترضُ حقَّانيَّةَ الوحي المسيحي، ومن ثمَّ كان الدين يُعَالَج ابتداء من تلك النُّقطة. لكن، خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر تطوَّرَت مقاربةٌ طبيعانيَّةٌ للدين إلى حد كبير.
في الحقيقة، لا يقول ماركس “Marx” الكثير حول الدين مباشرة؛ فَقَلَّمَا يتناول الدين بصورة نَسَقِيَّة في كتاباتِه كلِّها، على الرغم من أنَّه في كتبه، وخطبه، وكراريسه يُضْفِي لَمَساتِه [الفلسفيَّة] علي الدين مِرارًا. يعودُ سببُ ذلك ببساطة إلى أنَّ نقده لأشكال الدين جزء واحد من نظريته العامَّة حول المجتمع؛ لذا يتطلّب الأمر منا -إن أردنا فهمَ نقده للدين- أن نفهم أولًا نقدَه للمجتمع نفسِه بوجه عامٍّ.
إنَّ الدينَ -من وِجهة نظر ماركس “Marx”- تعبير عن الواقع الماديّ، والحَيْف الاقتصاديّ؛ وبالتَّالي فإنَّ مشكلات الدين في نهاية المطاف، هي نفسها مشكلات المجتمع. وليس الدين هو المرضُ ذاته، ولكنَّه مجرَّد عَرَض من أعراضه. يستخدمه المستبدُّون من أجلِ حَمْلِ الناس على الإحساس بشعور أفضل حيالَ الأسى الذي يعاينونَه؛ بسبب كونهم فقراء ومُسْتَغَلِّين. هذا أصلُ كلامه عن الدين عندما أخبر أنَّه أفيون للشعوب، وكما سنرى؛ فإنَّ آراءَه أكثر تعقيدا مما يتمُّ تصويرُه عادةً.
إنه لمن الضروريِّ حتى نفهم النقد الماركسي للدين فضلا عن نظرياته الاقتصادية، أن نعرف قليلا عن مَنْشَئِه، وخلفيَّتِه الفلسفيَّة، وكيف توصَّل إلى بعضِ مُعْتَقَداتِه المُتَعَلِّقَة بالثَّقافةِ والمُجْتَمَع.
يُشَكِّل الاقتصادُ عند ماركس العِمَادَ الذي يتأسَّسُ عليه أصلُ الحياة والتاريخ الإنساني برُمَّتِه، وهو الأساس الذي ينبني عليه تقسيمُ العمل، والصِّراع الطَّبَقيُّ، وكلُّ مؤسَّسَة اجتماعية يُطْلَب منها المُحافظة على الوضعَ الراهن كما هو. ولا تُشَكِّلُ هذه المؤسسات غيرَ البنية الفوقية التي تقوم على أساس الاقتصاد، وتعتمد كُلِّيَّةً على الحقائق الماديَّة والاقتصادية ليس إلا. ولا يمكن فهمُ كلِّ هذه المؤسَّسات الحاضرة بشكل يومي في حيواتنا -في الزواج، والكنيسة، والحكومة، والفنون، إلخ…- إلا عن طريق دراستها في ضوء القُوى الاقتصادية.
وليس الدينُ عند ماركس غيرَ مؤسَّسة ضمن تلك المؤسَّسَات الاجتماعيَّة القائمة على الحقائق الماديَّة والاقتصادية في مجتمع بعينِه. وليس للدين تاريخٌ مستقلٌّ إلا كبديل عن كونه نتاجَ القوى المنتجة لا غير. وكما يقول ماركس: ” ليس العالَم الديني إلا انعكاسا للعالم الواقعي”.
إنَّنا قدر ما نجد تحليلَ ماركس ونقدَه وَجيهًا ومثيرا للاهتمام، قدرَ ما نلاحظ عدم خلوِّه من المشكلات؛ التَّاريخيَّة، والاقتصادية. وبسبب هذه المشكلات، لا يُمكن لنا أنْ نُمَرِّر أفكارَه دون نَقْد. ورغم أنَّ في حوزته بعض الأشياء الهامَّة حول طبيعة الدِّين، إلا أننا لا يُمكننا قبول آرائه كقولٍ فَصْلٍ في هذه المسألة.
حياة كارل ماركس
وُلِدَ كارل ماركس في الخامس من مايو، عام 1818، في مدينة ترير “Trier” الألمانيَّة من أسرة يهوديَّة ،ولكنَّها تَحَوَّلَتْ بعد ذلك إلى البروتستانتية عام 1824؛ حتى تنجُوَ من الاضطهاد، والقوانين المُعادية للسَّاميَّة، وهذا سبب ضمن أسباب أخرى جعلتْ ماركس يرفض الدين في مرحلة مبكِّرة من شبابه، بل أعلن إلحاده بلغة لا خفاء فيها.
درسَ ماركس الفلسفة في جامعة بون ” Bonn”، ثُمَّ في جامعة برلين “Berlin” بعد ذلك، حيثُ وقع تحتَ هيمنة هيجل “Hegel” الذي كان لفلسفتِه تأثير قاهِر على تفكير ماركس الخاصِّ، بل وعلى نظرياتِه اللاحقة. كان هيجل “Hegel” فيلسوفا صعبَ الفهم، ولكن، من المُمْكِن طرْح رؤية تقريبيَّة لفلسفته من أجل خِدمة مُرادِنا هنا. هيجل “Hegel” فيلسوف مثالي، وطبقا لرؤيته؛ فإنَّ العقليَّات (الأفكار، المفاهيم) تمثِّلُ شيئا جوهريًّا في العالم، لا المادَّة. وليستِ الأشياء الماديَّةُ إلا تعبيرًا عن الأفكار؛ ما هو مُحايِث على وجه الخصوص؛ (الروح العالميَّة “Universal Spirit”)، أو (الفكرة المطلقة “Absolute Idea”).
الهيجليون الشَّباب “Young Hegelians“
انضمَّ ماركس إلى (الهيجليون الشباب “Young Hegelians”) مع برونو باور “Bruno Bauer” وآخرين، واللذين لم يكونوا مُجَرَّدَ تلاميذ، ولكنهم كانوا ناقدين لهيجل “Hegel” أيضا. ورغم أنَّهم وافقوا على أنَّ ثنائيَّة العقل والمادة تُمَثِّلُ جوهرَ القضايا الفلسفيَّة؛ إلا أنَّهم جادلوا عن المادَّة قائلين بجوهريَّتِها، وأنَّ الأفكار -ببساطة- ما هي إلا تعبيرات للحتميَّة الماديَّة. شكَّلتْ فكرةُ أنَّ القوى الماديَّة تُمَثِّلُ في العالَم ما هو حقيقيّ في جوهره -وليس هذا للأفكار والمفاهيم- الأساسَ الذي اعتمدتْ عليه أفكارُ ماركس “Marx” بعد ذلك.
لاحقا، تطورتْ فكرتان هامتَان تستحقَّان الذِّكرَ هنا؛ الأولى: أنَّ الحقائق الاقتصاديَّة هي العامل المُوَجِّهُ للسلوك البشريِّ كلِّه. أما الفكرة الثانية؛ فهي أنَّ التاريخ الإنسانيَّ كلَّه نوع من الصِّراعِ الطبقي بين مَنْ يملك ومَن لا يملك إلا العمل من أجلِ البقاء حيًّا. هذا هو السِّياق الذي تَتَطَوَّر فيه كلُّ المؤسَّسات الاجتماعيَّة للإنسان، بما في ذلك الدين.
بعد أن تخرَّجَ ماركس “Marx” من جامعتِه، انتقل إلى جامعةِ بون “Bonn” آملًا أنْ يصبح أستاذا جامعيًّا، ولكن بسبب الخلاف القائم حول فلسفات هيجل “Hegel” فَقَدَ لودفيج “Ludwig Feuerbach” كرسيَّه عام 1832، ولم يُسْمَحْ له بالعودة إلى الجامعة عام 1836 مرة أخرى. تخلَّى ماركس “Marx” عن فكرة العمل الأكاديمي. وفي عام 1841، منعتِ الحكومةُ الأستاذَ الشابَّ برونو باور “Bruno Bauer” من إلقاء محاضراته كذلك في جامعة بون “Bonn”. وفي وقتٍ مبكِّر من عام 1842، أسَّسَ راديكاليُّو راينلاند “Rhineland” (كولونيا “Cologne”) -مِمَّن كانوا على علاقة بيساريِّي الهيجليِّين “Left Hegelians”- جريدةً مُعَارِضَةً للحكومة البروسيَّة، أسْمَوْها (the Rheinische Zeitung). ودُعِيَ ماركس “Marx” وبرونو “Bruno”؛ ليكونا مُسَاهِمَيْنِ رئيسيَّيْنِ فيها، وفي أكتوبر 1842 أصبح ماركس “Marx” رئيسَ تحريرِها، وانتقل من بون “Bonn” إلى كولونيا “Cologne”. وكادتِ الصحافة أن تكون المهنةَ الرئيسيَّة لماركس “Marx” معظمَ حياتِه.
لقاؤه بفريدريك إنجلز “Friedrich Engels“
اضطر ماركس “Marx” أنْ ينتقِلَ إلى لندن عام 1849، بعد فشل عَدَدٍ من الحركات الثَّوْرِيَّة في القارَّة. ومن الجدير بالذِّكر أنْ نقول أنَّ ماركس “Marx” لم يكن يعمل وحده مُعْظَمَ حياتِه، بل حَظِيَ بمساعدة فريدريك إنجلز “Friedrich Engels” الذي عمل وحده على تطوير نظريَّة مُشَابِهَة جدا عن الحتميَّة الاقتصاديَّة. لقد كانا عقلًا واحدا، يعملان معًا بشكل استثنائيٍّ، وبينما كان ماركس “Marx” فيلسوفًا أفضل، كان إنجلز “Engels” مُحَاوِرًا أفضل. وعلى الرغم من أنَّ هذه الأفكار تقع تحت مُسَمَّى “الماركسيَّة”؛ فعلينا دائما أن نتذكَّر أنَّ ماركس “Marx” لم يَتَوَصَّلْ إليها وحده تمامًا. كذلك كان إنجلز “Engels” مُهِمًّا لماركس “Marx” من النَّاحية الماديَّة؛ فقد كان الفقرُ يُلقي بأحماله فوق كاهلي ماركس “Marx” وعائلتِه. وبدون مساعدة إنجلز “Engels” المتفانية وغير المشروطة، لم يكن لماركس “Marx” أن يُكمِل كتابةَ كثيرٍ من أعماله الرئيسة، بل ربما أكَلَه الجوعُ وسوءُ التَّغذية.
كان ماركس “Marx” يكتب ويدرس باستمرار، ولكنْ بسبب اعتلال صحته لم يستطع إكمالَ الجزئين الأخيرين من (رأس المال)، واللذين ألَّفَهُما إنجلز “Engels” لاحقًا؛ اعتمادًا على ملاحظات ماركس “Marx”. تُوُفِّيَتْ زوجة ماركس “Marx” في الثاني من ديسمبر عام 1881، وفي الرابع عشر من مارس، عام 1883، رحل ماركس “Marx” عن عالمِنا بسلام، وهو جالس على كُرسيِّه. ودفن بجانب زوجه في مقبرة هايجيت “Highgate Cemetery” بلندن.
الدين من منظور ماركس “Marx“
يرى ماركس “Marx” أنَّ الدين مثله مثل أيِّ مؤسَّسَة اجتماعيَّة أخرى في اعتماده على الحقائق الماديَّة والاقتصاديَّة في مجتمع بعينه. ليس للدين إذن تاريخ مستقلٌّ، بل هو نِتَاجُ القوى المُنْتِجَة. وكما يقول ماركس “Marx”: “ليس العالَم الديني إلا انعكاسا للعالم الواقعي”.
يرى ماركس “Marx” أنَّه لا يُمْكِن فهمُ الدين بمعزل عن الأنظمة الاجتماعيَّة الأخرى، والبُنَى الاقتصاديَّة للمجتمع. يعتمد الدين في حقيقتِه على الاقتصاد ليس إلا، الأمر الذي يمكن القولُ معه أنَّ العقائد الدينيَّة الموجودة لا يرتبط بعضها ببعض. هذا التفسير الوظيفيُّ للدين يعني أنَّ فهمَ الدين يتعلَّق مباشرةً بفهم الغايةِ الاجتماعيَّة التي يخدمها، لا فهم فحوى المعتقدات الدينية نفسها.
إن الدين إذن وَهْمٌ في رأي ماركس “Marx”؛ وَهْمٌ من خلاله يستمدُّ المجتمعُ أسبابَه وأعذارَه من أجل الاستمرار في بقائه دون تَغَيُّر. وكما أنَّ الرأسماليَّة تقطف ثمار أعمالِنا، وتحرمنا من قيمتِه؛ فإنَّ الدينَ يستولي على أسمى مبادئِنا وتَطَلُّعَاتِنا، ومن ثَمَّ يحرمنا منها، خالعًا على كائنٍ غَيْبِيٍّ ومجهول، يسمِّيه الله تلك المبادىء والتطلُّعات.
نَقِمَ ماركس “Marx” على الدين لأسباب ثلاثة:
أولًا: لأنَّه ليس معقولًا؛ فهو وَهَمٌ في أصله، وعبادةٌ للمَظَاهِر؛ يأبى الاعترافَ بالواقع المُضْمَرِ فيها.
ثانيًا: ينفي الدينُ عن الإنسان كلَّ ما يمكن أن يكون به كريمًا؛ فيجعله ذليلًا، وأكثر قابليَّةً لقبول الوضع الراهن كما هو. تبنَّى ماركس “Marx” كلمات البطل اليونانيِّ بروميثيوس “Prometheus” شعارًا له في مقدمة أطروحته للدكتوراه. يقول بروميثيوس “Prometheus” مُتَحَدِّيًا الآلهةَ إحراقَ جميعِ البشر: “أنا أبغض جميع الآلهة“، إضافةً إلى أنَّ الآلهةَ “لا تُقِرُّ الوعيَ الذاتيَّ للإنسان على أنَّه أعلى الألوهيَّة”.
ثالثًا: الدين نوع من النِّفاق. رغم أنَّه ربما يدعو إلى مبادئ قويمة، إلا أنَّه يُحابي المُضطهِدين. دعا يسوع إلى مساعدة الفقراء، ولكن، تحالفتِ الكنيسة المسيحة مع الدولة الرومانيَّة الظَّالِمَة، بل شاركتْ في استعباد الشعوب لقرون. وأخذتِ الكنيسةُ الكاثولوكيَّة تدعو النَّاس إلى الجنَّة، ولكنَّها في النِّهاية تَحَصَّلَتْ على كلِّ ما يُمكن الحصول عليه من الممتلكات والقوة.
رأى مارتن لوثر “Martin Luther” إمكانيَّة كلِّ إنسان التَّعاطِي مع الكتاب المُقَدَّس وفهمه، ولكنَّه انحاز في الوقتِ نفسه إلى الحكام الأرستقراطيِّينَ في مواجهةِ الفلَّاحين الذين وقفوا ضِدَّ الظلم الاجتماعي والاقتصادي. يرى ماركس “Marx” أنَّ تلك الصورة الجديدة للمسيحيَّة؛ أعني البروتستانتية، ليستْ إلا نِتَاج قوى اقتصاديَّة جديدة للرأسماليَّة المُبَكِّرَة. إنَّ الحقائق الاقتصاديَّة الجديدة تتطلَّب بُنًى فوقيَّة من الدِّين يمكن من خلالها أن تُسَوَّغ وأن يُدَافَعَ عنها.
قلبُ عالَمٍ لا قلبَ له
وردتْ جملةُ ماركس “Marx” الشَّهيرة عن الدين في كتابه (نقد فلسفة الحقّ عند هيجل)، يقول:
والتعاسة الدينيَّة ليستْ إلا تعبيرًا عن تعاسةِ الواقع، واحتجاجًا على التَّعاسة الواقعيَّة. الدين زفرة مخلوق مسحوق، قلبُ عالَم لا قلب له، إنَّه روحُ حالةٍ اجتماعيَّةٍ لا روحَ لها، إنَّه أفيون الشعوب.
إن إلغاءَ الدين، من جهة كونه سعادةً زائفةً للشعوب، أمرٌ مطلوب من أجل سعادتهم الحقيقيَّة. ومطلبَ أن يتخلَّى الشَّعب عن الوهم حول وضعه، هو مطلب أن يتخلى عن وضعٍ يحتاج إلى أوهام.
غالبا ما يُسَاء فهمُ هذا القول، ربما بسببِ ندرة استخدام هذا المقطع بتمامه. ولأنَّ ما كُتِب بخطٍّ عريض، هو ما يتمُّ اجتزاؤه عادة. أما باقي النصِّ، فأحيانًا يُسْتَخدم بشكل ليس أمينًا؛ كأن يُقْتَبَسَ مثلا قوله: “الدين زفرة مخلوق مسحوق…” دون ذكر قوله: “قلب عالم لا قلب له”. إنَّه هنا ينقد المجتمع الذي صار بلا قلب أكثر من أي شيء آخر، بل إنَّ فيه ما فيه من التَّصديق الجزئيِّ على الدِّين الذي يحاول أن يُصبح قلبَ العالَم. لم يجعل ماركس “Marx” من الدِّين العدوَّ الأوَّل للعمال والشيوعيِّين، رغم غضبه عليه، وعدم رضاه عنه. ولو كان يعتبره عدوًّا حقيقيًّا لكرَّس له وقتًا أكثر من ذلك.
ما يقولُه ماركس “Marx” هو أنَّ الدين يهدف إلى خلق أوهامٍ خادعة للفقراء. ولأنَّ الحقائق الاقتصادية تحول بينهم وبين العثور على السَّعادة الحقيقيَّة في هذه الحياة، يأتي الدينُ ليخبرهم أنَّ السَّعادة الحقيقيَّة في العالَم الآخر. لم يخلُ قلبُ ماركس “Marx” من التعاطُف كليًّا؛ فالناس يعيشون في تعاسة، ولا يوفِّر لهم الدينُ عزاء حقيقيَّا؛ فمَثَلَهُم كَمَثَلِ المُصابين والجَرْحى، يشعرون براحة زائفة إذا ما تناولوا عقاقير أفيونيَّة.
المشكلة أنَّ المُسَكِّنات الأفيونيَّة تفشل في علاج جروحِ الأجساد نهايةً؛ لأنها تُنسيك آلامَكَ ومعاناتك حتى حين. هذا أمر جيد، فقط إذا ما كنتَ في الوقتِ نفسِه تحاول معالجة الأسباب المُتَوَارِيَة للألم. وبالمِثل، نجد الدين لا يعالِج الأسبابَ الباطنيَّة لآلام الناس ومعاناتهم، بل يساعدهم على نسيان سبب معاناتهم أصلا! ويحملهم على التَّطَلُّع إلى مستقبل خياليٍّ حالةَ هدوء الألم، بدلا من العمل على تغيير الظروف الحاليَّة فورًا. والأسوأ، أنْ يملك الظالمون زمامَ هذا الأمر، ويتولَّوْن إدارتَه، وهم المسؤولون عن هذا الألم والمعاناة من أساسه.
مشكلات في تحليل كارل ماركس “Karl Marx“
ومثلما نجد تحليل ماركس “Marx” ونقده للدين مُتَبَصِّرًا ومثيرًا للاهتمام، نجد أنَّه لا يخلو من المشكلات؛ سواء كانت تاريخيَّة أو اقتصاديَّة. لذا، كان من الصعب قبول أفكاره دون نقد. ورغم أنَّه يملك في حوزته بعض الأشياء الهامَّة حول طبيعة الدِّين، إلا أننا لا يُمكن قبول آرائه كقول فصل في هذه المسألة.
أولا، لم يبذل ماركس “Marx” وقتًا كافيًا للبحث عن الدين في عمومه، وبدلا من ذلك، تركَّز بحثُه على الدين الذي يَأْلَفُه أكثر، وهو الدين المسيحيُّ. كانتْ تعليقاتُه المُتَعَلِّقَة بالأديان الأخرى تدور حول الاعتقادات المتشابهة كالإله القادر على كل شيء، وحياة النعيم الأخروية؛ مما جعلها لا تنطبق جذريًّا على الأديان المُخْتَلِفَة. على سبيل المثال، كانتِ الجنَّة قديمًا عند اليونان والرومان حَصْرًا على الأبطال، بينما كان عوامُّ النَّاس يتطلَّعُون بالكاد إلى ظلالِ وجودهم الأرضيِّ. لعلَّه كان متأثرًا في هذا الأمر بهيجل “Hegel”، الذي كان يعتقد عُلُوَّ المسيحيَّة على الأديان كافَّة؛ لذا فإنَّ كلَّ ما يُمكنُ أن يُقال فيما يتعلَّق بها، ينطبق تلقائيًّا على الأديان الأدنى، لكن، لم يكن هذا التَّصَوُّر صحيحًا.
أمَّا المشكلة الثانية، فهي ادِّعاؤه أنَّ الدِّينَ محكومٌ كلِّيًّا بالحقائق الماديَّة والاقتصاديَّة. لا يتعلَّق الأمر بعدم وجودِ شيء أساسيٍّ آخر يمكن له أن يؤثِّر في الدين، ولكن، لا يمكن للتأثير كذلك أن يكون عكسيًّا؛ أعني أنْ يؤثِّر الدينُ في الواقع المادي والاقتصاديِّ. ليس هذا صحيحًا؛ فلو كان ماركس “Marx” مُحِقًّا لظهرتِ الرأسماليَّة في البلاد، قبل ظهور البروتستانتية؛ لأنَّها النِّظام الدينيُّ الذي خلقتْه الرأسماليَّة، ولكنَّنا نجد خلافَ هذا. بدأ الإصلاح الدينيُّ في ألمانيا في القرن السادس عشر، وكانَ لا يزال ذا طابع إقطاعيٍّ، ولم تظهر الرأسماليَّة الحقيقيَّة إلا في القرن التاسع عشر. هذا ما جعل ماكس فيبر “Max Weber” أن يُنَظِّرَ قائلا أنَّ الأمر انتهى بالمؤسَّسات الدينيَّة إلى خَلْقِ واقع اقتصاديٍّ جديد. وحتى لو كان فيبر “Weber” مُخْطِئًا، نرى أنَّه في الإمكان معارضة ماركس “Marx” بأدلَّة تاريخيَّة واضحة.
أما عن المشكلة الأخيرة؛ فهي اقتصادية أكثر من كونها دينيَّة، ولكن، بما أنَّ ماركس “Marx” قد جعلَ الاقتصادَ أساسًا تقوم عليه جميعُ انتقاداته للمجتمع، فإنَّ أيَّ مشكلة في تحليله الاقتصاديِّ ستنعكس بالضَّرورة على آرائه الأخرى. يركِّز ماركس على مفهوم القيمة، ولا يرى للقيمة وجودًا إلا من خلال العمل البشري، لا الآلات. هناك عيبان يعتريان هذا التصوُّر.
الخللان المُتَعَلِّقان بقياس القيمَة ومكانتها
أولا: لو كان ماركس “Marx” مُحِقًّا، فمعنى هذا أنَّ الصناعة القائمة على العمالة البشريَّة ستُنْتِجُ قيمة فائضة (وبالتَّالي ربحا أكبر) أكثر من تلك الصناعة التي تعتمد على الآلات أكثر من العمالة البشريَّة. إنَّ الحقيقة تناقض هذا التصور تمامًا. وفي أفضل الأحوال، عائد الاستثمار لا يختلف كثيرا سواء تَمَّ العملُ عن طريق الإنسانِ أو الآلات، بل في أحيان كثيرة، تُحَقِّق الآلةُ ربحا أكبر مما يحقِّقه الإنسان.
ثانيا: التجربة الشَّائِعَة تقول أنَّ قيمة الشيء المُنْتَج لا تكمن فيما يضعه العامل فيه، ولكن في التقدير الذَّاتيِّ لمُشْتَرٍ مُحْتَمَل. نظريًّا، للعامِل أنْ يعمل على قطعة جميلة من الخشب الخام، ولكن، بعد ساعات من العمل، لعلَّه يُنْتِجُ تمثالًا منحوتًا غاية في القُبْحِ والشَّنَاعة. لو كان ماركس “Marx” مُحِقًّا في أنَّ القيمة لا تأتي إلا من العامِل، إذن يكون هذا التمثال المنحوت من الخشب أعلى قيمة من الخشب الخام. ولكن، ليس هذا صحيحًا بالضرورة. ليس للأشياء قيمة في ذاتها إلا ما يرغب النَّاس في شرائه نهايةً؛ فبعضهم ربما يدفع أكثر مقابل شراء الخشب الخام، والبعض الآخر يدفع أكثر من أجل النَّحت القبيح.
إنّ نظريةَ ماركس “Marx” في قيمة العمل بجانب مفهوم فائض القيمة، والنظر إليهما على أنَّهما أصل استغلال الرأسماليّة، يُعَدَّان حجرَ الأساس الذي تقوم عليه أفكاره الأخرى. وبدونهما، لا يستقيم بحالٍ نعيُه الأخلاقيُّ على الرأسمالية، بل ويأخذ ما تبقَّى من فلسفته في الانهيار. لهذا، يصعبُ الدفاع عن تحليله للدين أو تطبيقه، على الأقلِّ في صورتِه التَّبسيطيَّة التي قدَّمها.
تفانى الماركسيُّون في محاولة تفنيد هذه الانتقاد، بل ومراجعة آراء ماركس “Marx”؛ ليُحصِّنُوا أنفسَهم من المشكلات التي ذكرناها، ولكنَّهم لم ينجحوا أبدًا في ذلك (لا شكَّ أنَّهم يختلفون معنا في ذلك، وإلا ما ظلوا على ماركسيَّتِهم).
النَّظر إلى ما وراء عيوب ماركس “Marx“
لسنا محصورين -لحسن الحظ- في صياغات ماركس “Marx” التَّبْسِيطِيَّة. ولا نضطر أنْ نُقيِّدَ أنفسَنا بفكرة اعتماد الدين في وجوده على الواقع الاقتصادي لا غير؛ مما يؤدِّينا إلى القول بعدم ارتباط العقائد الدينية الموجودة بعضها ببعض. يُمْكِنُنا بدلا من ذلك إدراك أنَّ هناك مُؤَثِّرات اجتماعيَّة عديدة على الدين، من ضمنها الواقع الاقصتادي والمادي للمجتمع. وبالمثل، يمكن للدين التأثير على النظام الاقتصادي للمجتمع أيضا.
بغضِّ النظر عن صِحَّة استنتاجاتنا ودقَّتِها عن أفكار ماركس “Marx” حول الدين، فإنَّه علينا أن ندرك أنَّه قدم لنا خدمة لا تُقَدَّر بثمن عندما أجبر الناس على النظر بُعمق في الشَّبكة الاجتماعيَّة التي يَحْدُثُ الدين في إطارها دائمًا. وبسبب اشتغاله الفلسفي، أصبحتْ دراسة الدين مستحيلة دون النظر في علاقاته مع القوى الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة المُخْتَلِفة. إنَّه لم يَعُد في الإمكان الفصل بين حياة الإنسان الروحية وحياته المادِّيَّة.
وجهة نظر خطِّيَّة للتاريخ
إن العامل الأساسيَّ الذي يحرك التاريخ الإنساني من وجهة نظر ماركس “Marx” هو الاقتصاد. يرى أنَّ الإنسان -ومنذ بداياته الأولى- لا يندفع بسبب الأفكار العظيمة، لكن، بسبب تعلُّقَاتِه الماديَّة؛ كحاجته إلى الطعام من أجل البقاء حيًّا. تلك هي الفكرة الرئيسَة التي ترتكز عليها وجهةُ نظر ماركس “Marx” الماديَّة تُجاه التَّاريخ. في البداية كان الناسُ متَّحِدين، ويعملون معًا، ولم يكنِ الأمر بهذا السُّوء.
لكن، بالتَّدريج، طوَّر الإنسانُ الزراعةَ ومفهومَ المِلْكِيَّة الخاصَّة؛ مِمَّا أدَّى إلى تقسيم العمل، وانفصال الطَّبقات بعضِها عن بعض؛ اعتمادًا على القوة والغِنى. أدى هذا بدوره إلى خَلْقِ حالة من الصراع الاجتماع الذي يحرِّك المُجتمع.
زادتِ الرأسماليَّة الطين بِلَّة، وعملَت على توسيع الفجوة بين الطبقات الغنيَّة والأخرى الكادحة. ولا يمكن بحالٍ منع المواجهة بين هذه الطبقات؛ لأنَّها مدفوعة بقوًى تاريخيَّة تعلو فوق كلِّ أحد. أنتجتِ الرأسمالية أيضًا بؤسًا جديدًا؛ ألا وهو استغلال فائض القيمة.
الرأسماليَّة والاستغلال
يرى ماركس “Marx” أنَّ النظام الاقتصاديَّ الأمثلَ هو النظام الذي يشتمل على تبادُلِ قيمة بقيمة أخرى تساويها، حيث يتم تحديد هذه القيمة -ببساطةٍ- بحجم العمل الموضوعِ في المٌنْتَج، بغض النظر عن نوعه. تُعالج الرأسماليَّة الأمرَ بشكل آخر؛ مُتَحَفِّزةً بإرادةِ الربح، ورغبةِ إنتاج تبادُل متفاوتٍ لقيمة أقل بقيمة أخرى أعلى منها، ومن ثَمَّ، يأتي الرِّبح نهايةً عن طريق فائض القيمة التي أنتَجها عُمَّالُ المصانع.
قد يُنتِج العامل من القيمة ما يكفيه هو وأسرته في ساعتين، لكن، ما يحدث هو أنَّه يبقى في عمله اليوم بطوله، وفي وقت ماركس “Marx” ربما كان يعمل 12 أو 14 ساعة. تمثِّل هذه الساعاتُ الزائدةُ فائضَ القيمة التي يُنْتِجُها العامل. إنَّ مدير الشركة لم يبذل أدنى مجهود ليربحها، ومع ذلك يستغلها، ويُبْقِي الفرقَ كربح له.
لذلك، تهدف الشيوعيَّة -في هذا السياق- إلى أمرين: الأول، يُفْتَرَض أنها تحاول شرحَ هذه الحقائق للناس وتوعيتهم. ثانيا، يُفْتَرَض أنَّها تدعو أبناءَ الطبقة الكادحة إلى إعداد أنفسهم للمجابَهة والثَّورة. هذا التركيز على الحركة أكثر من التأملات الفلسفية المجردة نقطةٌ جوهرية في برنامج ماركس “Marx”. وكما كتب في كتابه الشهير (أطروحات حول فيورباخ): “انحصر الفلاسفة في محاولاتِ تفسيرِ العالَم بطرق شتَّى، ومع ذلك، يبقى الهدفُ هو أن نُغيِّرَه”.
المجتمع
إنه الاقتصاد إذن الذي يشكل أساسَ الحياة الإنسانيَّة وتاريخها، وهو ما يخلق تقسيمَ العمل، والصراعَ الطبقي، وكلَّ المؤسسات الاجتماعية التي يُفتَرَض أن تحافظ على الوضع كما هو. وهذه المُؤَسَّسَات الاجتماعيَّة بِناء عُلْوِيٌّ يقوم على الاقتصاد، ولا يقوم إلّا على الحقائق المادِّيَّة والاقتصاديَّة ليس إلا، وبشكلٍ كامل. فليس لنا أنْ نَفْهَمَ حقًّا جميع هذه المؤسَّسَاتِ البارزة في حياتِنا اليوميَّة -كمؤسَّسات الزواج والحكومة والفنون… إلخ- إلا عن طريق دراستِها في ظلالِ القوى الاقتصاديَّة [الفاعلة فيها].
ولقد كان لماركس “Marx” كلمة خاصَّة يصِف بها كلَّ عِمَلٍ يُؤَدِّي إلى تطويرِ هذه المُؤسَّسات، هذه الكلمة هي: الأيدولوجية [المذهب]. فلكَ أنْ تَتَخَيِّلَ هؤلاءِ الَّذين يعملون في مجالات -كتطوير الفن، أو اللاهوت، أو الفلسفة… إلخ- أنَّ أفكارَهم تأتي من تلك الرغبة التي تدفعهم نحو التَّحقُّق بالحقيقة أو الجمال، ولكن لا يصحُّ لهم هذا نهايةً.
ليستِ الأيدولوجية في الواقع إلا نوعا من التعبير عن الاهتمام الطَّبَقِيِّ، والصراع الطَّبَقي أيضا. إنَّها انعكاسات لحاجَةٍ كامِنَة؛ من أجل الإبقاء على الوضع الرَّاهِن، والحفاط على الواقع الاقتصادي كما هو دون تغيير. لعلَّ هذا لا يكون غريبا إذا ما علِمنا أنَّ مالكي القوَّة [السُّلطة] لا تنفكُّ أبدًا عنهم تلك الرغبة في تسويغ سلطتهم؛ للمحافظة عليها.