الخلية الماكرة ودهاء عقل الإنسان (ج1)
من الواضح أنّ الإنسان في تواجده على سطح الكوكب المليء بالحياة، يصادف تحديّات عدّة تجعله يبني عزيمة وإرادة لخوضها بأكمل وجه، وبالتحضير المطلوب، كما أنّ فضول عقله يجبره أحيانًا على الخوض في هذه التحدّيات كي يتذوّق في النهاية عسل الفوز.ولو أخذنا هذه البداية وقمنا بتحويلها إلى منهج يعرض الصورة من زواية أخرى، فهمنا أن المقصود بعسل الفوز ما هو إلا تعبير مجازي لمكافأة يصل إليها هذا الإنسان، مكافأة تسمى ”العلم” . أما المقصود بالتحدّيات، فهنا يمكننا تفريع الكلمة إلى فرعين:
التحدّي الإجباريّ: والذي هو عبارة عن مشكل يصارع الإنسان ويجعله مضطرا إلى الإستجابة والبحث عن حل و إجابة له.
التحدّي الإختياري: فقد نعتبره سؤالًا، أو إشكالاً يشغل العقل، وينمّي فضوله، فيختار العقل الخوض فيه من أجل تلبية غريزة التفكّر.
لكن بما أننا ننفي التحيّز أو خاصّيّة الاستقطاب، فيمكننا استخلاص شيء مهم، ألا وهو الآتي:
أيّ تحدٍّ متواجد الآن هو نسبي بالنسبة للمحورين، بتعبير آخر، قد تكون كفة المحور الأول الإجباري أكثر ثقلا من كفة المحور الإختياري، لكنهما متواجدان معًا، وعلى سبيل المثال، تواجد مرض معين، يعد تحدٍّ إجباري بنسبة كبيرة والخوض فيه من واجبات العالم، لكن عندما يفوز العقل البشري بالتحدي ويلقى الحل لهذا المرض، فإنه بذلك قد نال مكافأة وأيضًا قام بتلبية غريزته في التفكّر، وهنا فقد أحسّ العقل بأنّه لم يخض التحدّي الإجباريّ فقط، رغم أنّ ذلك من واجبات الطبيب العملية، لكن التوفّق في علاج مريض قدم إليه، يولّد لديه شعورًا بأن التحدي إنّما كان اختياريًا من أجل فهم مسبّبات الداء أكثر وعلاجه بوسيلة فعالة
وفتح بذلك أبوابًا أخرى تحفز غرائز علماء الجيل القادم، وهذا سر عدم الكمالية في الإنسان، لأنّ كلّ حلّ يجده إنّما هو مجرّد حلّ نسبي يعالج المشكلة بأكثر دقّة ممكنة مقارنةً بالحلّ السابق، إضافةً لطرح جوانب مشكلة آخرى “وهذا موضوع فلسفي طويل، من واجبنا إدراكه”، كما أن موضوع التحدي الإجباري بالنسبة لإشكالية المرض، تتضح عندما يقوم الطبيب المختصّ الحرّ بعلاج “اختياري” للمريض، لكن أخلاقه تجبره على القيام بذلك، وبالتالي تغلب الكفة الثانية على الأولى، مذكرين بذلك أنّ الطبيب عند كلّ حالة يصادفها تجعله طبيعته البشرية يعتبرها تحدٍّ بمحوريه الأول والثاني، لتكون هذه الحالة سببًا في حصوله على إجابات تعتبر نوعًا آخر من المكافآت، مع إنشاء أسئلة يضعها في آخر بحثه كي يأخذ الطالب الواجب وينطلق بمسيرته.
طرْحُنا لهذه المقدّمة قد يكون طرحًا يتّسم بالفلسفة إلى حدٍّ ما، لكنّها كانت مقدّمة ضرورية كي نمضي معًا لفهم المغزى من العنوان وكذا ربط المقدمة بالقادم، وتحصيل فكرة متوازنة بالموضوع. ففي عصرنا الحالي يتواجد تحدٍّ، وهو عبارة عن حالة خلل حيوي، وبما أنّ التحدّي يعني تواجد متنافسين، ففي هذه الحالة، يكون العقل البشري هو المنافس، وتكون الخلية السرطانية هي الخصم، والمختبر هو ساحة التدرب المعتمدة .
أغلبنا اليوم لديه رصيد من المعرفة حول الخلية السرطانية، وبما أننا سندرس المكر الذي يتبعه هذا النوع من الخلايا، فوجب إذا أن نفهم و نوضح الإجابات المتوفرة حول تعريف الخلية السرطانية ، فنذهب بعد ذلك في توضيح المعايير التي اتخذناها كي نصف تصرفات هذا النوع من الخلايا بالمكر.
تخضع الخلية لمجموعة من الآليات التي تجعلها في تنظيم معيّن، هذه الآليات المضبوطة تتبع معايير زمنية واستقلابية محددة تبقيها في حالتها العادية. فكل خلية فيها توقيت مضبوط للقيام بالانقسام المباشر، الذي ينتج خليتين بنتين مطابقتين للخلية الأم، كما أن عدد الانقسامات التي تحدث يتماشى مع وتيرة الميكانيزمات التي تعمل بها الأنسجة، وقد تحدث بعض الأخطاء أثناء ذلك فتضطر الخلية لإصلاحه بسرعة عبر الميكانيزمات المعدّلة للخطأ، وفي بعض الأحيان يكون ذلك الخطأ مؤثر أو ذو طبيعة غير عادية، فتندفع الخلية نحو التدمير الذاتي، تنافيا لتفاقم قادم ومحتمل. إذن فخواص الخلية العادية واضحة تمامًا: الانقسامات المحدودة، الموت المبرمج أثناء حدوث الأخطاء، إضافة لخاصية الشيخوخة.
والخلية التي تتمرد على هذه الخواص، سواء تدريجيًا أو بشكل مفاجيء تصبح خلية سرطانية في نهاية المطاف، أي خلية كانت تنتمي لمجموعة تنقسم بانتظام وحدود، تموت في داعي الضرورة، تشيخ في مراحلها الأخيرة، إلى أن تحولت لهيئة تتكاثر بسرعة أكبر وبعدد لا محدود من المرات، وكذلك قيامها بإلغاء الوظيفة الخاصة التي كانت تعمل فيها فتصبح أقل تخصصًا من الخلايا العادية، وأكثر اختلافا بسبب ازدياد عدد الأخطاء في DNA.
إذن فلو سألَنا أحدٌ ما عن ماهية الخلية وصفاتها، ماعلينا إلا قول أنها خلية تتكاثر بشكل غير محدود، ليس لها عمر محدد تموت عندما ينتهي، غير متخصصة، ومختلفة في الحمض النووي.
بعدما تبدأ الخلية السرطانية بالتكاثر، تبدأ الظواهر والأعراض بالظهور، فلو افترضنا تواجد حالة معينة كانت في الزمن أ حالة متعافية دون تواجد أية آثار داخلية تدل على تحول للخلية السرطانية، لكن عندما تبدأ تراكمات ”عدة” للأسباب التي تساعد على هذا التحول وتوافقها مع المحيط، العادات، والوراثة، يأتي الزمن ب الذي يؤشر على النتيجة الأخيرة، فنحن نعلم أن تحضير المتفاعلات والظروف في الزمن 1 سيؤدي لتواجد نسبة كبيرة من النواتج بالزمن 2، وازدياد النسبة في الزمن 3 إذا ما رفعنا تركيز المتفاعلات وجهزنا ظروف أكثر ملاءمةً ( حرارة، ضغط)، ويعتبر هذا المنطق نفسه بالنسبة لظهور الخلايا السرطانية (النواتج) في الزمن ب، وتكاثر عددها و امتداد استعمارها في الزمن ج إذا ما استمرّت الحالة بالتعاطي للأسباب ( المتفاعلات).
في هذا الجزء سندرس بشكل مختصر مكر الخلية السرطانية في الزمن ب، كيف تبدأ الخلية السرطانية بتخطيطها الماكر ضد منافسها الأول؟
وضّحتِ المقدّمة من هو منافس الخلية السرطانية في التحدي بكلا محوريه، ألا وهو العالم الباحث ذو العقل، لكنها منافسة تبدأ في الزمن ج، أما منافسها في الزمن ب، فهو الجسم بنفسه الذي تطغى عليه (في حالة هزيمته) و تسيطر عليه، وهنا نتوجه نحو طريقة مكرها .
خطة البحث عن الطاقة:
عند تواجد هذه الخلية وبدء مرحلة التكاثر، والتمرّد على قوانين الجسم التنظيمة، ينطلق التأثير المنبعث من هذا النوع على الخلايا العادية الأخرى، فالخلية تحتاج لمصادر طاقية كي تواصل العيش والتكاثر، وبما أنها أصبحت متمردة، فقد اعتزلت قوانين الحصول على الطاقة مثل الخلايا السليمة، ولا بد لها من طرق لتعويض ذلك، لأنه كيف سيكون ممكنًا الحصول على خلية أخرى دون تواجد طاقة ومواد أولية؟
تلجأ الخلية السرطانية في بعض الحالات لإنتاج مواد مؤكسدة تقوم بإجهاد الخلايا السليمة المجاورة و التأثير سلبا عليها، وغايتها من ذلك الحصول على الغذاء من الخلايا الأخرى إرغامًا، وتقتضي هذه الطريقة استعمال هذا الإجهاد المؤكسد من أجل أن تبدأ ميتوكوندريات الخلايا السليمة بالإضمحلال. فلو حدث ذلك، تصبح الخلايا المجاورة غير قادرة على استهلاك الغلوكوز استهلاكًا كاملًا، بل استهلاكًا جزئيًا يوفّر طاقة ضعيفة، و يجعلها تدفع المواد الناتجة المليئة بالطاقة خارجًا لتصبح هذه الجزيئات عبارة عن ”مستوردات”، وهذه هي النتيجة التي انتظرتها الخلية السرطانية لتستعملها هي، حيث أنه بعد مدة من القيام بهذه الخطة، تبدأ ميتوكوندريات الخلية السرطانية بالتضخم نتيجة عملها المتواصل والمتوفر، بينما تبدأ الخلايا المجاورة بتدمير ميتوكوندرياتها، والالتجاء للتحلل الغليكوزي الذي يعطيها مقدارًا ضئيلاً من الطاقة مقارنةً بالأكسدة الخلوية التي وفّرتها الخليّة السرطانية لنفسها مكرًا بعدما تمرّدت، وهذا ما يسهّل عليها التكاثر أينما ذهبت حتى لو لم يتم تغذيتها بالأوعية الدموية التي تجلب الغذاء.
تدمير الميتوكوندريات يشكل فرقًا كبيرًا، فلو افترضنا أنّ الخلية المتضررة فقدت كل ميتوكوندرياتها ، فما هو الفرق النسبي في انتاجها الطاقة عن طريق استعمال جزيئة غلوكوز واحدة؟
لو اعتمدت الخلية السليمة على الميتوكوندري، فإن جزيئة واحدة من الغلوكوز ستساهم في انتاج 36 جزيئة طاقية ATP، بينما لو اختفى هذا العضيّ الطاقيّ، فإنّ عدد الجزيئات الطاقية ستكون 2، إنه فرق كبير، حيث أن إنتاجية الجزيئات الطاقية في هذه المقارنة انخفضت بحوالي 94٪، وهذا يجعلنا نفكر في مدى شدّة التأثر السلبي الذي تعانيه الخلايا السليمة المتفاعلة مع الخلية السرطانية وكذا مدى استفادة هذه الأخيرة من طريقتها في استيراد الطاقة, وهذا كان مثالا مبسّطًا ، علما أن هذا التأثير لا يقتصر فقط على استعمال الطاقة، بل على نواحي أخرى وبشدة مخلتفة.
في الجزء الثاني من هذا الموضوع ، سنتطرق للحديث عن التمويه الذي تقوم به هذه الخلايا ”الذكية” للحفاظ على تواجدها، ومحاولة الاستمرار في استعمار الجسم، فلولا تسبّبها في موت أناس كثيرين و اعتبارها عدوًّا، لربما كان ممكنا أن ننسج فكرة بذهننا حول ماهيتها وإعطاءها اسم الذات الخلوية الذكية، لكنها ذاتٌ مهدِّدة وماكرة، تواجه وتخدع الجسم والطبيب بخططها المتعددة، وهذه هي الأفكار التي سنبني عليها بشكل مختصر مقال الجزء الثاني.
ملاحظة : التقسيم الذي عرضناه في مراحل الخلية السرطانية إنما هو تقسيم لتوضيح الفكرة وليس التقسيم المستعمل في دراسة مرحلة السرطان وانتشاره من عدمه.
المراحل الأربعة للسرطان: 1
المصادر : 1,2,3,4,5,6,7,8,9,10,11,12