الخلل العبقري | لـ علي طلال فاضل
عندما نرى شيئًا مُكتملًا نشعر بأنه تحقق، وجد بكليته، وربما ينتابنا شعور الدهشة و الرّهبة لفترة من الزمن، فها هو اكتمل وأعلن ذاته وهويته بلا أي شائبة أو نقص، ولكن يرافق هذا الشعور شعور آخر بالنهاية وكأنه موت ولد باللحظة التي ولدَ فيها الكمال، تحقق النقيضين في لحظة واحدة، فهو يعلن نفسه كامل و بإعلانه هذا يعلن أنه غير قابل ولا قادر للمواصلة، فاقد للقدرة في ذاته على الابتكار والتطور وكأنه انتهى، مات، وبانتهائه يُصَرِّح علنًا بحقيقة محدوديته ونفاذ قدرته، موتًا تعلنه الولادة، نقيضًا يفنيه نقيضه.
وها هو الزمن يؤكد كونه لا ينتهي إلى كماله حتى يبدأ من جديد، فما أن تُعلن الثانية عن وجودها وكمالها حتى نراها صارت إلى الماضي وما نحن فيه ليس ما هو آت وكأننا لسنا في ماضٍ ولا حاضرٍ ولا آت وكأننا نحيا لبرهة تكاد لا تُحس أو تُدرك .
فالكامل بمعنى (الكمال النهائي) يُفيد بالمحدودية والعجز والنظر إليه من هذا المنظار يؤكد محدوديته وعليه يجب النظر إلى الكمال كنهاية فهو في الحقيقة ناقص وكماله ليس إلا عجز قدرته على المواصلة أو عجزنا نحن على مواصلة الوعي به إذا ما رأيناه اكتمل.
فها هو المنطق أكمل العلوم وأكثرها انتهاء و أوضحها جسارة، دائرة لا يمكن المساس بها، لا يزيد ولا ينقُص..
(الكتاب مفتوح الآن إذاً لا يمكن أن يكون مغلق الآن)
قانون كحد السيف لا يجرؤ العقل على زحزحته أو حتى التفكير فيه ولهذا يظهر بجلال وعظمة تزيد من تجنّبنا للمحاولة بالشّك فيه حتى، ولكن السؤال هو، ماهذا العظيم الجليل والمنتهي في ذات اللحظة؟ ماهذا التناقض الصارخ؟
كلما قلَّ حظ المرء من الذكاء كلما رأى الوجود أقل غموضاً
شوبنهاور
ولكن هذا الغموض ليس بسبب قلَّة المعرفة بالوجود من حيث الامتداد أو عدم اكتشاف حدود الكون ونقص المعرفة والإحاطة بقوانين الوجود ككل، فكل هذا وإن اكتُشف، هو ناقص، معرفة منطقية كلما اكتُشفت واكتَملت أعلنت نقصها، وإنما الغموض هو ماخلف المركَّب، ما وراء النظام و في عمق القانون.
وبعكس ما هو متوقع فإن اللحظة التي تعلن البشرية بها اكتشاف الوجود ككل هي لحظة التعاسة الأبدية هي مأتم الإنسانية ومقبرة السعادة ،فالوعي لا يمكن أن يتنازل عن كونه صيرورة لا نهائية الحركة والتطور وهذه الحركة الواعية هي القوة الأعظم في هذا الوجود وهي دليل الحياة الحقيقية
وكما يرى – نيتشه – بأنَّ
“ينبغي أن نفعل الفضيلة لذات الفضيلة، ولا ننتظر ثواب عليها. لأن الفضيلة هي ثواب نفسها، فالوصول إليها هو ثوابها”
فإن الغاية من الوعي هو الوعي ذاته والسعادة كغاية هي في المسير نحو اللانهاية وليس في الوصول للكمال النهائي فالكمال نهاية والنهاية موت لا بد من أن ينبجس من صلبه ولادة جديدة وإلا فهو وهم ، فها نحن لا نوشك على إكمال شيء حتى ترانا نشرع ببداية جديدة، فالنقص هو وقود الكمال وما الكمال إلا كمالات لانهائية التحقق.
إذاً شعور بالنقص يتبعه ملء يتبعه شعور بالنقص في حركة غير منتهية.
والنقص هو شعور ملازم للمعرفة، فكلما ازدادت المعرفة كلما زاد الشعور بالنقص وهذا ما دفع – سقراط- ليقول “أنّه يعرف بأنه لا يعرف شيء” وهذه بحد ذاتها معرفة، ليس بما عرف سقراط وإنما معرفة بما لم يعرف
فكلما زادت المعرفة زادت الحاجة إلى نقص أكبر يكون قادر على استيعاب معرفة أكبر وأعمق.
يصعب لمن هم قادرين على تجسيد الكمال أن يتنازلوا بإرادتهم عن هذه المرتبة فيبقوا حبيسين هذه اللذة وهي لذة ناتجة عن وهم يتشابه فيه فعلهم مع فعل القدرة الخالقة القادرة على إنجاز الكمال فيخال للأنا أنه حقق هاجسه و ما يصبو إليه.
وفي ميدان الفن فإن من الصعوبة بمكان التخلص من لذة الإفراط بالتجسيد أو المحاكاة لما فيها من تحقيق للأنا والقدرة على الخلق أو على الأقل الشعور بذلك وعلى ذلك ما يدعمه من نظريات جمالية.
في الكمال المُحاكي جاذبية سحرية تأثر حرية الفنان تجذبه من ناصيته وكأنه يسير خلال نومه ليضع كل شيء في مكانه دون زيادة أو نقصان، فنرى العمل الفني بكماله هذا ، نتيجة لا يمكن تأويلها أو التفكُّر فيها ويكون بذلك منغلق تماما ، أي يظهر الكمال هنا منعزل ونهائي فيسقط من عليائه إلى مأزق المحدودية ويتناقض مع مفهومه الدارج الذي يشير لإطلاقه، و على ضوء هذا ترجح كفة النقيض ليحتل الخلل المكانة العليا أو المرشح للأفضلية كصدمة في خمول العادة أو ثقب في حجاب الإلفة.
وعلى ذلك مايدل
فالنقص أو كما سميناه في العنوان “الخلل العبقري”، يخلو من لذة تُشبع الأنانية كما أنه تخلِّي عن جاذبية صناعة الكمال التي في حقيقتها لا تعدو أن تكون ظنيَّة فارغة تكرارية إذا ما قُصد بالكمال على أنه المحاكاة … ويكون النقص الكامل هو الأجدر، فإذا ما حقق النقص كماله أي نَقُصَ كما يجب ولغاية ما يجب تحقق المرجو، فيتخلى النقص عن كونه قصور ويظهر بحالة من الصوابية، كما أنّ النقص يحمل في ذاته قيمة منفصلة عن الشيء المنقوص وعما ينقصه، فإذا ما تجاوزنا القشور و رصدنا بعناية الوقائع والأشياء من حولنا موضوعياً سيتضح لنا أن النقص هو سمة مضمون الحياة فكل شيء بسبب أنه ناقص يريد و يصبو في طوره الذي هو فيه إلى طور آخر بحركة لا نهائية ، فالإنسان يتأثر بقوتان، قوة دافعة: والتي هي وعي أنه ناقص وإرادته بتجاوز هذا النقص. وقوة جاذبة: التي هي المطلق أو اللا نهاية.
و ما يجب النظر فيه والعمل عليه ليس الكامل بمفهومه المتناهي المحدود ولا الكامل بمفهومه اللانهائي المطلق فهذا الأخير هو أولاً خارج إمكانية الإدراك ولكونه تام لا يقع عليه التبديل أو التحويل ولا تؤثر فيه إرادة أو فعل فهو خارج أدوات العقل كما يشير- كانط – وإنما ما نريده هنا هو النقص الكامل الصحيح و وعي هذا النقص على أنه علّة المواصلة إلى ذلك اللانهائي و ذلك لأن النقص بذاته قابل للملء والتحويل ومهيأ لأعمال الفكر فيه، فيكون النقص هو ميدان الفعل والتفكُّر ومن ثم التطور ، والغاية هو اللانهائي الساكن الخارج عن التأثر بالفعل، وهذا السعي إلى هذه الغاية يكون (شكلاً) باتجاه التناقص وليس باتجاه التزايد، وإذا كانت الغاية اللانهائي سيبقى هناك نقص اتجاه هذه الغاية وبالتالي حاجة للمضي قدماً .
وهذا الخلل يظهر في الفن كقيمة جمالية، خلل فيما هو مألوف عموماً عمّا اعتدنا على رؤيته أو خلل يصيب النفعية المباشرة للأشياء و ينتقل من هذه المباشرية إلى عمق جوهري.
و يتمظهر ذلك الخلل شكلاً “بتركيب أو إضافة أو تبسيط أو إزالة أو بالعلاقة “. ونرى هذا في الرؤى الحديثة في الفن وتجاوز الهاجس الكلاسيكي وأخذ الفن إلى طور آخر.
ويكون الخلل في الفن قصدي وهذا بالذات ما يميزه عن الخلل الطبيعي، إذ إن القصدية هنا إرادية ناتجة عن عبقرية إبداعية تختلف كل الإختلاف عما نراه هجيناً مركباً أو مقتطعا.ً
بمحض الصدفة في الطبيعة وهذه الإرادة الإبداعية من أهم ما يميز ويسمو بالمنتوج الفني عمّا هو طبيعي، وليس المراد من القصدية إنتاج فن وفق قوانين أو قواعد وإنما هو فن صادر عن روح حرة وإرادة إبداعيّةً كما أن هذه القصدية تعطي الخلل أو النقص قيمة مضافة لكونها عمل إبداعي معني أولاً و متخلِّية عن النفعية المباشرة والحشو غير الازم ثانياً، و حتى الخلل المراد منه الإضافة لا التنقيص يكون بقصديته الإبداعية ذو قيمة فنية فلا يكون حَشَوي بقدر ما هو كَشفي ومتجاوز للسطحية النفعية، ومن خلال هذا الكشف يمكننا وعي الطبيعي جوهرياً فكما قلنا سابقاً: إن الطبيعي مغلف بغلاف عضوي موجه لا إلى الفكر أو التأمل وإنما إلى الرغبة الإستهلاكية والمادي في الإنسان
الغاية من الخلل في الفن
عندما نقول خلل يظهر مباشرة لنا حالة شذوذ في كمال الطبيعي، أي إنه شيء شاذ عما نراه أو اعتدنا عليه فكل الأشكال في الطبيعة هي مكتملة من حيث نظامها وآلية عمل هذا النظام، بالإضافة إلى أنّ شكل العناصر الطبيعية يكون متناسب مع آلية عملها و نفعيتها وكل هذا يتناسب مع القاعدة العامة في الطبيعي وأي خروج عن هذه القاعدة بما يضرب نفعيتها فهو في عين المنطق شذوذ و إشكالية يجب حلَّها. أما في الفن يختلف الأمر ففي الفن يُبرَّر الخلل بل هو جوهري وممر ينفذ من خلاله المعنى جلياً ويفيض عن حدود الشكل
ابتكار وتنفيذ الخلل.. الخلل الكامل
إن صعوبة تقصد الخلل الجمالي أو المناسب تفوق تقصد الكمال، فنحن نستطيع أن نرسم الصحيح ولكن من الصعب تقصد رسم الخلل بطريقة صحيحة، لأن هناك ما يحقق الكامل عبر مجموعة من الطرق مثل الاعتماد على الذاكرة التي تكون مصدر ومخزون يسترجع منه العناصر كما هي وبذلك يكون الناتج محدود بما اكتُسِب فقط،
أو من خلال القوانين والقواعد، فما علينا سوى تطبيق خطوات محددة حتى نصل إلى النتيجة الصائبة وبهذا يكون المُنتَج محكوم بمحدودية القاعدة والمنهجية وهذا يجعله أقرب للعلمي من الإبداعي الفني، فالعلم يتخذ منهج محدد وخطوات واضحة، أما الإبداع الحر وتقصد الخلل فيعتمد في أساسه على الابتكار و المخيلة التي تُعتَبر ركن أساسي في العملية الإبداعية إلى جانب الإحساس و الفكر وامتلاك الأدوات والسيطرة على الوسيط الفني ( والشعور) الذي قد يكون أهم الأركان المحققة للخلل العبقري والذي لا يمكن تعريفه أو فهمه بل وعيه شعوريا كطبيعته.
إن العملية الفنية عمواماً هي حالة شعورية والمقصود بالشعور هنا هو انفعال واعي شامل ينبثق دفعة واحدة ويتجلى باللوحة أو اللحن أو القصيدة و تتحقق فيه أخوية الحسّيّ مع العقلي فيأخذ الخلل مكانه تلقائياً في الفضاء الفني كجزء لازم و معبِّر عن معناه بحيث لا ينفصل عن كونه المعنى المراد منه، ولذلك فإننا نرى أن للخلل في العمل الفني أهمية قد تصل لتكون أساسية ومركزية.
ويكون الخلل في الشكل أو في الموضوع فنرى بعض الإبداعات الفنية قائمة في صيغة تعبيرها ككل على الخلل، فيكون أسلوب العمل أصلاً متجاوز للتقليدي كعموم الفن الحديث، مثالاً على ذلك التكعيبية والرمزية والتعبيرية وغيرهم، ونرى أخرى يكون فيها الخلل متفرد ومحدود في جزء من العمل إما مُشكّلاً مفردة خاصة في العمل أو خلل يصيب مفردة ما، بينما باقي أجزاء ومفردات العمل الفني قد تكون منطقية وذات علاقات صحيحة فيما بينها، كالواقعية الإشتراكية أو التركيبية المختزلة أو السريالية ، وهذا يختلف باختلاف الأسلوب الفني، كما أن هذه المحدودية للخلل ضمن الفضاء الفني لا تقلل من أثره بل تضاعف هذا الأثر لما تحققه من تفرد له بالدرجة الأولى وهذا يؤكد وجوده ويضاعف ظهوره و ثانياً يخلق نوع من المقارنة مع باقي العناصر، فيضاعف ذلك أيضاً من إظهار أشد لباقي المفردات في العمل الفني.
وحتى في الواقع كثيراً ما ترانا نستحسن غمازتا الوجه أو الخال في الخد وهُم ليس سوى خلل في الطبيعي، وهذا الخلل الطبيعي لا يمنعه كونه شذوذ غير ذو معنى أن يحقق هذه المقارنة مع باقي المفردات المحيطة به فيحقق وجوده ويضاعف أثرها بالمقابل، وهذا هو الحال في كل عضوية أو مجموعة تحقق كمالها المنطقي ويتخللها خلل ما، وينطبق هذا على العمل الفني إلا أن الفرق كما قلنا سابقاً هو عبقرية تقصد الخلل بما يتضمن من معنى وعلى ضوء ذلك يمكننا التطرّق إلى مفهوم القبح الذي شغل الفلاسفة والنقاد عبر التاريخ
فالقبح في الحياة هو الشذوذ الذي يقف مقابل موضوعية الجمال، أي هو الخلل في النسق الجمالي، ونقص يعتري الكلية الكاملة في الطبيعي، وعلى خلاف أثره المنفِّر في الحياة يأخذ القبح منحاً آخر في الفن و على عكس سقراط، الذي قال إن تمثيل القبح يجب أن يُتجنب، فمن أرسطو و صاعداً جرى الاعتراف في جميع الحِقب بأنه حتى القبح في الحياة يمكن أن يصوَّر تصويراً جميلاً، وهنا لابد من أن نذكر جملة – كانط- العبقرية في هذا الصدد عندما قال (الجمال الطبيعي يعني أن هناك شيئاً ما يكون جميلاً، بينما الجمال في الفن يعني تمثُّلاً جميلاً لشيء ما). كما أن القبح حقيقةً يخدم الجمال في جعله بيّـناً أو ليدعم نظرية أخلاقية معينة. ومثلما قال القديس – بونافنتورا –
صورة الشيطان جميلة إذا كانت تمثيلاً جيداً للقبح
كما قلنا قد يكون الخلل في الشكل أو في الموضوع أو في كلاهما. ففي الشكل يظهر في الأسلوب ككل أو في شكل المفردة أو علاقتها بمحيطها وفي الموضوع يكون الخلل في طرح فكرة نفسية أو فكرة غير متعينة ماورائية عامة كالأسطورة فنقرأ عن بشراً أنصاف آلهة و كائنات خيالية وأشكال مركبة وغيرها أو بالموضوعات الدينية كموضوع الوحي الذي يتجاوز المنطق المعقول، وقدرات القديسين الخارقة وهي خلل في منطقية نظام الطبيعة والمعقولات، فالمعجزة بطبيعتها هي خلل في السياق المنطقي لسير الأحداث يترفع من خلالها المعجز خارج الفهم اليومي والمباشر ، و لقد تناول الفن عبر التاريخ هذه الموضوعات موسيقياً أو تشكيلياً أو شعرياً أو حتى في التراجيديات المسرحية الخالدة .
ونرى ذلك موسيقياً عندما قرر- شتراوس- بجرأة في رائعته “أوبرا سالومي”، نَص – أوسكار وايلد – أن تعزف الأوركسترا على آلات غير مدوزنة، معبراً عن لحظة قطع رأس يوحنا المعمدان، فكان الخلل هنا في النشاز الموسيقي معبراً عن هذه الفاجعة، وكانت هذه عبقرية استطاع من خلالها شتراوس أن يبتكر الخلل الكامل في المكان و الزمان المناسب والمحدد من رائعته الموسيقية المحكمة لينفذ من خلال هذا الخلل إلى عمق هول الحدث، وكان الخلل هنا أساسي بتعبيره عن ذروة العرض الأوبرالي.
ومسرحياً يتصدَّر مسرح العبث بعد الحرب العالمية الثانية القدرة على ابتكار الخلل من حيث الشكل والمضمون، إذ يتناول الإنسان في عمقه الوجودي وتساؤلاته الذاتية العميقة عن المعنى والسبب وغاية وجوده، ويسلط الضوء على عبثية إنسان اليوم وعزلته وتشييئه في ظل الرأسمالية،
ومن حيث الشكل نرى يوجين يونيسكو- في مسرحيته “المغنية الصلعاء” يجعل من لغة الحوار مكان الخلل، فنرى كلمات مكررة وحوارات متلعثمة بين شخصيات النَّص معبراً من خلالها على فقدان القدرة على التواصل لدى إنسان اليوم وعزلته المظلمة، ومثالاً آخر يظهر الخلل في الموضوع لدى – سامويل بيكت- في مسرحية ” انتظار غودو” نرى شخصيتين تنتظران غودو الذي لم يأتِ أبداً وكأنه ابتكار من خيال شخصيات النَّص، اختلفت الآراء النقدية حول هويته فمنهم من قال هو الأمل ومنهم من قال الله.
وفي نوع من استخدام الخلل الجزئي في العمل الفني ننتقي من كلاسيكيات – شكسبير– مسرحية” هاملت” حيث كان الخلل فيها شخصية الشبح المحورية التي غيرت مجريات الحدث والتي اختلف النقاد أيضا في تبريرها أو تحديد هويتها فمنهم من أحالها إلى خيالات هاملت ومنهم من ألصقها بشخصية واقعية من محيط هاملت وغيره الكثير من التحليلات.
وكل هذه الأمثلة استطاع صانعيها ابتكار واستخدام الخلل بعبقرية كاملة إمَّا في الشكل الفني أو في موضوعه.
الخلل وأثره على المتلقي
يحقق الخلل ضرورة قد تكون من أهم غايات الفن على المتلقي وهي دفعه لأن يكون شريك في العمل الفني وبناء علاقة جدلية بينهما عبر زعزعة معرفته الجامدة وخلخلة لنظرته المحدودة وعلاقته النفعية مع الموجودات ومع الفن، كما يشكل الخلل صدمة في المنطقي المألوف والمعتاد لدى المتلقي ويدفعه لتلقي العمل على مستوى تأملي فكري من خلال طرح تساؤلات جديدة تبدأ بتساؤله عن ما هو هذا الخلل ومن ثم عن سبب وجود الخلل أساسا وصولاً إلى وعي العمل الفني ككل.
إذاً يكون أثر الخلل على المتلقي بطريقتين إما (أثر تساؤلي واعي) يصل من خلاله إلى اتخاذ موقف ومن ثم حكم، و ممكن أن نرى هذا في “لوحة الفنان” للسريالي – رينيه ماغريت – ويظهر الخلل فيها حيث نرى اللوحة تصوِّر فناناً ينظر إلى بيضة بجانبه ولكنه يرسم في اللوحة طير وهذا نوع من الخلل يستنبط المتلقي من خلاله فكرة العمل الفني والتي تظهر قدرة الفن على استباق الزمان و يتم ذلك من خلال تحليل واعي للعمل، كما أن الخلل هنا لا يصيب المفردات ولا أسلوبية العمل الفني بل هو خلل في منطق العلاقة الزمانية بين العناصر، بين ماهو الآن وما الذي سيكون في ذات الوقت.
و نوع ثاني للخلل يظهر في (الأثر الشعوري غير الواعي) ويكون هذا الأخير عبر رفد المتلقي بجرعة حسيّة عالية تأخذه إلى عمق وجداني انفعالي تأملي، ومثال على ذلك لوحات الفنان الإسباني – فرانشيسكو غويا – ونذكر منها “العجوز الذي يأكل من صدر الطفل” ولوحة “الغول العملاق الذي يلتهم جسد المرأة” وما تحويه تلك اللوحتان من انفعالات وشحن لمشاعر المتلقي على صعيد أسلوب العمل وموضوعه.
الخلل كنقص
و كما قلنا فقد يتجلى الخلل في الفنّ بطرق وأساليب مختلفة فقد يعمد الفنان على إزالة مفردة أو جزء من مفردة في العمل الفني بما يلبي غايته إما بقصد ضرب التوازن في تكوين العمل أو الإشارة إلى أثر غيابه، فرؤية ميزان فاقد لإحدى كفتيه تأخذنا إلى عمق آخر في قراءة العمل، وما يحققه النقص من استثارة لخيال المتلقي وتحفيزه لابتكار هذا النقص بشكل ذاتي بما يتناسب مع مضمون العمل كما هو الحال من حيث الشكل فنرى النقص في بعض الأعمال الفنية و التي تعمل العين على إكماله تلقائيا.
وقد يكون النقص مَلِئاً ، فالنافذة ليست سوى نقص في كمالية الجدار تمتلئ بما تُفضي إليه ومن خلال هذا النقص ننفذ إلى أفق رحب، أو قد تكون النافذة كنقص معبر لما هو داخلي وليس العكس تكشف عما هو متضمن داخل المنزل
الخلل كإضافة
أو يكون الخلل بالإضافة، فيضيف الفنان عنصراً أو أكثر على الشخصيات في العمل الفني بقصد إضفاء سمة خاصة للشخصية أو كشف عن مضمون محجوب وجوهري فيها من خلال ذلك المضاف، ومثال محقق لذلك “تمثال موسى”، للنحات – مايكل انجلو- حيث أضاف النحات لشخصية “موسى” قرنين ولهذه الإضافة رمزيات عديدة تختلف باختلاف سياق الاستخدام، فقد يكون القرنين إشارة إلى التجدد والخلود وبالتالي الثراء الفكري وهذا باعتقادي ما ينطبق على مثالنا ، كما تشير إلى القوة والصلابة وبالمقابل تشير هذه الرمزية إلى الشر و الشيطانية وقد استخدمت هذه الإضافة برمزيتها الإبداعية في موضع آخر فنرى لوحة ” بروفيل بيكاسو” للسريالي – سلفادور دالي – وقد أضاف له قرنين معبراً من خلالهما عن السمة الإبداعية والتجدد الفكري في شخصية بيكاسو.
الخلل بالتركيب
ومن جهة أخرى يعمد الفنان إلى الأسلوب التركيبي في العمل الفني وذلك عبر تركيب عناصر مختلفة في كيان واحد ونستذكر هنا الإبداعات القديمة التي تظهر بشراً بأنصاف حيوانات أو رؤوسها أو بالعكس أو حتى نرى كائنات مركبة من أجناس مختلفة “كالثور المجنح أو اللاماسو” والذي يتألف من جسد ثور و رأس إنسان مع خمسة أرجل و جناحين ويرتدي حزام و قلنسوة ولكل جزء من هذه الأجزاء رمزية خاصة كحكمة الرأس و فحولة الجسد وحرية الجناحين وسيادة القلنسوة والقوة في الحزام، وهذا النوع من التركيب بالرغم من لا منطقيته إلا أنه يظهر منسجماً بإرادة من الفنان وذلك لتحقيق الرمزية المرادة منه ولكن في أعمال أخرى يتقصد الفنان إجراء الخلل التركيبي ويتعمد فيه اللامنطقية و عدم الانسجام بين العناصر المركَّبة وذلك أيضا لتحقيق غاية ما ومن هنا ننتقل إلى مانسميه الخلل في العلاقة
الخلل في العلاقة
يظهر الخلل في العلاقة إما (بين أجزاء مختلفة لعنصر واحد) بحيث يكون الخلل في لامنطقية اجتماع هذه الأجزاء وتآلفها في كيان واحد أو خلل في (علاقة مجموعة عناصر مع بعضها) بحيث يكون لكل عنصر هوية خاصة غير منسجمة مع مكان وجودها أو زمانها أو غير منطقية بمجاورتها لعنصر آخر في حين تُنفِّذ العناصر بواقعية هويتها دون أي تحوير في الأسلوب ونذكر هنا مثالا يفيد بعدم انسجام العنصر مع مكان تواجده وتناقض العناصر فيما بينها في لوحة” لسلفادور دالي” والتي تصور طاولة على الطراز الحديث عليها ثلاثة كؤوس مع جزء من أرض مسرمكة ويوجد في عمق و يسار اللوحة جمل وفي يمينها قارب خشبي بالإضافة إلى طفل أو فراغ أسود لهيئة طفل يقف في مقدمة ويمين اللوحة ينظر إلى القمر وكل هذا في الصحراء حيث يظهر في هذا العمل التناقض بوضوح بين العناصر، وبين العناصر ومكانها.
و من جهة أخرى لا يكون خلل العلاقة في التركيب الشكلي أو التجاوري بين العناصر و إنما الخلل يظهر (بلا منطقية التعامل والتفاعل بين تلك العناصر في العمل الفني) ومثل هذه العلاقة عملت على تجسيدها في لوحة تصور امرأة عجوز تقوم بإرضاع طفل في أذنه فكان الخلل و اللامنطقية هنا أولاً بإمكانية العجوز من فعل الإرضاع و ثانيا فعل الإرضاع بالأذن وهو خلل يتجاوز المنطقي ويشكل صدمة كما يبعث على التساؤل والتَّفكُّر. وكثيراً ما رأينا مثل ذلك الخلل في المسرح كمخاطبة ممثل لقطعة أثاث أو التعامل مع عنصر بطريقة ولغاية تختلف عن هويته والغاية الأساسية من وجوده.
إن كل ما قلناه ليس مسوِّغاً للممارسة التعسفية في الفن فقد يوحي ما ذُكر بما يخص الخروج عن المعتاد والمألوف وتجاوز القاعدة باستسهال العمل في ميدان الفن وبسبب ذلك يبرر البعض أعمال لا تمت للفن بصلة إلا أنه على العكس تماما فكما قلت سابقاً و أكرر من السهل تنفيذ ماهو مبني على قاعدة ولكن من الصعب تجاوز القاعدة بطريقة صحيحة.