الحياة العماليّة في مِصرَ القديمة (ج2)

أوضحنا في المقال السابق أنّ منطقة دير المدينة كانت مكانًا لحياةِ ومعيشةِ وإقامةِ عمّال المقابر الذين وصل عددهم لـ120 عامل وأكثر مع كامل أسرهم، وكذلك اُختير مكان دفن الموتى من العمال وذويهم بجوار المدينة مباشرة، ولذلك تم العثور على مجموعة كبيرة من المقابر وصَلَت لـ53 مقبرة والتي تم تشييدها بِحِرَفِيَّةٍ كبيرة وتضم مجموعةً رائعةً من المناظر للمتوفى وحياته في العالم الآخر، يعلوها شكل هرميّ، يرجِع لأهميّة الشكل الهرمي في حياة المصري القديمة أو لسبب هندسي بعمل بناء مجوّف فوق المقبرة يخفف من الضغط على الحجرات أسفلهُ.
………………………………………………….

التخطيط العام للمقابر:

1-مقابر بُنيت على أرض مسطحة على حافة الهضبة، وتبدأ بمدخلٍ على شكل صرح يوصل إلى فناء، يحيط به جدران من الطوب اللبن به حديقة صغيرة وحوض ماء، ثم فناء في نهايته هرم أجوف مقام على سطح الأرض مباشرة أو على قاعدة وله قمة مدببة من الحجر الجيري الأبيض منقوشة بصورة صاحب المقبرة في أوضاع تعبديّة، وفي واجهة الهرم توجد مشكاة بها تمثال لصاحب المقبرة، وبداخل الهرم مقصورة قرابين لها سقف مقبيّ وجدران مزينة بنقوش طقوس الدفن والعالم الآخر.

2- مقابر صخريّة محفورة في حضن الجبل، تتكون من مدخل على شكل صرح يؤدي إلى فناءٍ نُحتت جدرانه من الصخر، وفي نهاية الفناء صفّ أعمدة صغيرة ينتهي بمدخل وممرّ قصير يؤدي لمقصورة القرابين والتي تتميز بمشكاة لتمثال المتوفّى ومزيّنة بنقوش جميلة للعالم الآخر والطقوس الجنائزية.
………………………………………………….

نماذج لمقابر دير المدينة: (سن نجم، ان حر خع، باشدو، خع)

مقبرة (سن نجم): tomb of sennedjem

اُكتُشِفت المقبرة في عام 1886م على يد أحد البدو يسمى سالم أبو ضحى، ووجدها سليمة لم يسرقها اللصوص لا في القدم ولا في العصر الحديث. فأبلغ عالم الآثار جاستون ماسبيرو الذي قام بفحص محتويات المقبرة، وأُخِذت محتويات المقبرة إلى إنجلترا وهي تعرض حتى الآن في المتحف البريطاني.
يرمز لها بالرمز العلمي تي تي 1 (بالإنجليزية , TT1 ) ومعنى الرمز (Theban Tomb 1 – مقابر طيبة1).
كان سن – نجم رئيس العاملين في دير المدينة المتخصصين في بناء قبور ملوك المملكة المصرية الحديثة. حيث قام سن نجم بالإشراف على بناء مقبرتيّ الملك سيتي الأول ورمسيس الثاني.

المقبرة مزينة بنقوش وألوان غاية فى الدقة والروعة، يتخللها جداريات تظهرهُ وهو يحرث الأرض في العالم الآخر مرتدياً ملابسَ بيضاء جميلة، تدلّ على كونهِ معززًا مكرمًا في الآخرة، وله ضيعة يتسلّى بزرعها وتؤتي له ثمارًا كثيرة ناضجة. كُتِب أمامه بالهيروغليفة (للمطيع في مكان الحقيقة عاش إم ست ماعت سن- نجم، صدق قوله) هذه الفقرة تصف وظيفته في الحياة وأنه كان من الخدمة في مكان الحقيقة، وهي منطقة وادي الملوك حيث أن الموت هو الحقيقة الكبرى. وينتهي المكتوب بذكر اسمه سن- نجم، (وصدق قوله)؛ أي صدق ما يقوله (أمام الآله) عمّا فعله أثناء حياته على الأرض. هذا التعبير كان المصريون القدماء يستخدمونهُ شبيهاً لما نقوله اليوم عن المتوفى (المغفور له).

وُجدت مقبرة سن نجم سليمةً كاملةً لم يسرقها اللصوص، وَوُجِد فيها 20 من المومياوات، تنتمي معظمهنّ لعائلة سن نجم واخرَيات لم تعرّف لمن تنتمي، وكانت مومياء سن – نجم موضوعة في تابوتين، الداخلي منهما في هيئة جسمه، ووجدت مومياء زوجته (إي نفرتي) (سيدة البيت صادقة القول) أيضا في تابوتين أحدهما في شكل الإنسانة، كذلك وجدت مومياء ابنه “خنسو” بنفس الطريقة وقناع على رأسه.
………………………………………………….

مقبرة (ان – حر- خع): tomb of inherkha

ترجع المقبرة إلى عصر الرعامسة، تحديداً عصر كل من الملكين رمسيس الثالث ورمسيس الرابع، وكان “ان حر خع” خادماً بالحقل ورئيساً للعمال، كما تحوى المقبرة على واحد من أروع الأمثلة الفنية للأسرة العشرين، حيث تحتوى على مناظر كتاب الموتى وكتاب البوابات، بالإضافة إلى مناظر العالم السفلي.
……………………………………………………

مقبرة (باشدو): tomb of pashedu

تعتبر واحدة من أروع وأجمل المقابر التى تحتفظ بألوانها الزاهية ونقوشها البديعة.
حيث يُعدُّ “باشدو” صاحب المقبرة (326 )عهد الرعامسة، من النبلاء ومسؤولًا عن بناء القصور والمعابد إضافةً لكونهِ خادمًا في مكان الحق في فترة حكم الملك سيتي الأول، والملك رمسيس الثاني.

ومن المناظر الرائعة فى هذه المقبرة، هو منظر أعلى جدار غرفة الدفن والذي يمثل (بتاح سوكر) فى صورة صقر مجنّح داخل زورق، ومنظرأخر للمتوفى وهو راكع تحت نخلة يشرب من ماء بحيرة، ومنظر (لأوزوريس) سيد العالم الآخر يجلس على كرسي العرش أعلى حائط غرفة الدفن وفي يديه الصولجان والمدرس وعن يساره يظهر كل من عين رع والصقر، ووراءه ما يمثّل الجبل الغربيّ ثمّ صاحب المقبرة راكع لخلف اوزيريس.
……………………………………………………

مقبرة (خع) : tomb of kha

مقبرة (خع وزوجته مريت) أو بالرمز العلمي (تي تي 8 )، وبالإنجليزية ( TT8 أو Theban Tomb 8 ).
واحدة من أهم وأعظم المقابر المكتشفة لأحد النبلاء، فقد وجدت محتوياتها كاملةً ولم تمسّها أيدي لصوص المقابر فى العصور القديمة، وبقيت المقبرة عبر العصور القديمة محتفظةً بكل مافيها من ثروات خلّفها ناظر العمال “خع” وزوجته “مريت. وفى عام 1906عثر على المقبرة (ارثر وايجل ) و(إرنستو شياباريلي) حيث كانا يعملان في إطار بعثة تنقيب إيطالية في وادي الملوك وفي دير المدينة، حيث كانت صالة التعبد الخاصة بـ (خع ومريت) معروفة منذ أعوام أنذاك، فكانت البعثة على ثقة بأن مقبرتهما تقع بالقرب من تلك الصالة، وكان معروف أيضا للبعثة أن “خع” رئيس العمال في دير المدينة تولّى مسؤولية بناء مقابر ثلاثة من ملوك مصر على التوالي (أمنحتب الثاني وتحتمس الرابع وأمنحتب الثالث)، كان على “مصلى” خع وزوجته هرمًا صغيرًا، أخذه بعض الزوار إلى فرنسا وهو موجود الآن في متحف اللوفر بباريس.

كانت مفاجأة لـ (شيباريلي) عثورهِ على مقبرة (خع و مريت) بالقرب من “المصلى” الجميل ذو الرسومات الملونة التي تعبر عن تصوّر قدماء المصريين للحياة بعد الموت، واحتوت المقبرة على تابوتيّ (مريت و خع )، كما تحتوي على جميع الأدوات التي كانا يستخدمانها في حياتهما من أوانٍ وقواريرَ للأكلِ والزينة، فضلاً عن أسرّةَ وكراسيّ مصنوعة بإتقان مثل ما نعهده في مقبر توت عنخ أمون. وأخذت البعثة الإيطالية تلك الموجودات وحفظتها في متحف (إيجنيزيو)في مدينة تورينو، كجزء مما أخذوه من أثار مصرية أخرى معروضة هناك.
تدُلُّ الموجودات التي عُثِرَ عليها في مقبرة خع وزوجته مريت، على الغنى ويسر الحياة. وقد وجدت جميع الموجودات متراصّةً بانتظام حيث لم يصلها  لصوص، مثلما حدث في مقبرة توت عنخ أمون.

وُجِدَت “مريت” في التابوت الخاص بـ”خع” وقد يرجع  السبب فى ذلك إلى وفاتها غيرالمتوقعة قبله، فوضعت مومياتها في التابوت الذي جهزه لنفسه، وكان التابوتان قد صُنِعا بعنايةٍ وعليهما رسومات وكتابات هيروغليفية جميلة تضمنّت تمائم ورسومات دينيّة تدل على ثرائهما، والمومياتان محتويتان على حلقان وعقود ذهبية تحت الأربطة، إضافةً لوصفٍ لبعض ما سوف يقابله “الميت” في طريقه إلى العالم الآخر. ووجد في تابوت (خع) نسخة من (كتاب الموتى) وهو واحد من أقدم كتب الموتى التى عثر عليها في مصر القديمة.
كان(خع) قد وكّل الرهبان في طيبة، بكتابة كتاب الموتى له ولزوجته ليكون لهما مُرشِدًا في الإنتقال إلى العالم الأخر.
هذه النسخة من كتاب الموتى من البردى وهى عبارة عن ورقة مكتوبة وموضحة بالرسومات ويبلغ طولها نحو 14 مترًا ملفوفة وموضوعة بجواره في تابوته.

وفي عصرنا الحديث قام علماء الآثار في إيطاليا بفحص مومياء “خع” بواسطة أشعة إكس، حتّىلا يفسدوا أربطة التحنيط، ووجدوا تحت الأربطة عِقد غليظ من الذهب وحلقات من الذهب في الأذنين. وكان ذلك من أقدم ما عُثر عليه في التاريخ لرجال تزيّنوا بالحُلقان.
كما وجد في المقبرة تمثال لـ “خع” واقفا ، مكسوٌّ بجلبابٍ ومزينٍ بتعويذة، تنتهي باسمه و(الصادق في كلامه) (ماع خرو)؛ أي صدق ما يقوله عما عمله أثناء حياته في الدنيا.

وللأسف الشديد نُقِلت جميع محتويات مقبرة خع و مريت- ماعدا قطعتين صغيرتين- إلى المتحف المصري فى (تورينو) فى ايطاليا.
وبهذا تنتهى رحلتنا لدير المدينة حيث بيت الحق، مقر إقامة عمال مصر، صُنَّاع وبناة أعظم حضارة وُجِدت على كوكب الأرض منذ خَلْقِ الإنسان حتى يومنا هذا، حضارة كان قِوامها العدلُ والعلمُ والإيمانُ والعملُ.

إعلان

اترك تعليقا